يتناول هذا الكتاب تفاصيل عن كيفية اختراق وكالة المخابرات المركزية أو تأثيرها على طيف واسع من المنظمات الثقافية من خلال مؤسسات خيرية مثل مؤسسة فورد ومؤسسة روكفلر. وتوضح الآنسة سوندرز كيف ولماذا تنظم وكالة المخابرات المركزية المؤتمرات الثقافية أو المعارض والحفلات الموسيقية. ولماذا تتولى أيضاً نشر وترجمة كتب مؤلفين من الذين يتبعون وصايا واشنطن، أو يؤيدون الفن التجريدي على حساب الفن ذي المحتوى الاجتماعي، وتقوم بالدعم المالي للمجلات التي تنتقد الماركسية أو الشيوعية أو أية سياسات ثورية في مختلف بقاع العالم، أو لتلك المجلات التي تتجاهل الممارسات المدمرة والعنيفة للإمبريالية الأمريكية. لقد استطاعت وكالة المخابرات المركزية احتواء بعض أكثر المفكرين المؤيدين للحرية صراحة في الغرب في مسعى لخدمة سياساتها. وتعاون الكثير منهم بوعي مع وكالة المخابرات المركزية، وسار البعض على هذا الدرب بينما امتنع آخرون. ولكن بعد التحول السياسي إلى اليسار في أواخر الستينات واندلاع حرب فيتنام، قامت وكالة المخابرات المركزية بالإعلان عنهم على الملأ.

تلقت دور النشر الأمريكية والأوروبية المعادية للشيوعية، بما في ذلك "Partisan Review" و"Kenyon review New Leader" و "Encounter" والعديد من دور النشر الأخرى، تمويلًا مباشراً وغير مباشر من هذه المنظمة. ومن بين المفكرين الذين تم دفع الرواتب لهم أو تلقوا الدعم من قبل وكالة المخابرات المركزية في الولايات المتحدة وأوروبا، يبرز اسم إيرفينغ كريستول وميلفين ج. لاسكي وإشعياء برلين وستيفن سبندر وسيدني هوك ودانيال بيل ودوايت ماكدونالد وروبرت لويل وهانا أرندت وماري مكارثي وآخرون لا حصر لهم. وحرصت وكالة المخابرات المركزية، وخاصة في أوروبا، على دعم "اليسار الديمقراطي" أو اليساريين السابقين، بما في ذلك إجناسيو سيلون وستيفن أسيسر وآرثر كيستلر وريموند آرون وأنتوني كروسلاند ومايكل ياسلسون وجورج أورويل.

وقامت وكالة المخابرات المركزية تحت قيادة سيدني هوك وميلفن ج. بتخصيص ميزانية لمنظمة "مؤتمر الحريات الثقافية"، وهي نموذج من طراز حلف الناتو "الثقافي" المكون من جميع أنواع الجماعات اليسارية واليمينية المناهضة للشيوعية". وتمتع هؤلاء بكامل الحرية في الدفاع عن الثقافة الغربية وقيمها السياسية. وشنوا حملة ضد ما سمي بـ"الاستبداديين الستالينيين"، وتحدثوا بهدوء وبحذر شديد عن نظام التمييز العنصري للإمبريالية. وبادروا في بعض الأحيان إلى نشر مقال هامشي غير مهم لجماهير أمريكا في مجلة ترعاها وكالة المخابرات المركزية. والغريب في هذه المجموعة من المثقفين المدعومين من قبل وكالة المخابرات المركزية أنهم لم يكن لهم انتماء سياسي، بل التزامهم بالبحث عن الحقيقة، وهم يتلقون هذا الدعم تحت ستار من الدعوات الإنسانية لمثقفين من ذوي التفكير الحر، أو لفنانين في خدمة الفن الذين يقفون في وجه المفسدين "الملتزمين" في المنظمات اليسارية!

إنه لمن المستحيل تصديق الادعاء بأن لا علاقة لهؤلاء بوكالة المخابرات المركزية. فكيف يمكن تفسير صمتهم في جميع المجلات وعدم توجيه أي انتقاد لعمليات القتل التي لا حصر لها للسود في جميع أنحاء جنوب الولايات المتحدة طوال حياتهم؟ وكيف نفسر تجنب مؤتمراتهم الثقافية توجيه أي انتقاد للتدخلات الإمبريالية الأمريكية في غواتيمالا وإيران واليونان وكوريا، هذه التدخلات التي أدت إلى قتل الملايين من الأبرياء؟ وكيف يمكنهم أن يقدموا تبريرا عن أي جريمة امبريالية في المجلات التي يكتبون فيها؟ لقد كان هؤلاء جميعاً جنوداً: بعضهم تافه ومتعجرف، وبعضهم الآخر مثير للجدل مثل ملفين لاسكي وسيدني هوك! لكن هناك كتّابا آخرين طيبين مثل ستيفن سبندر أو جواسيس على الهامش من أمثال جورج أورويل. وتتحدث سوندرز في الكتاب عن "الشخصيات الأنجلو- ساكسونية البيضاء" (WASP) في وكالة المخابرات المركزية، وكيف سُمح للنشطاء اليهود اليساريين سابقاً بتشتيت اجتماعات الفئات اليسارية المعارضة. وتلافت وكالة المخابرات المركزية هذه الفضيحة عندما انكشفت الحقيقة في أواخر الستينات مما أثار غضب "المثقفين" في نيويورك وباريس ولندن جراء استخدامهم. ويوضح توم برادن، الذي كان يدير فرع وكالة المخابرات المركزية في المنظمات الدولية، أنهم جميعاً يعرفون جيداً أنهم يتلقون رواتبهم ويتمتعون بالمزايا من وكالة المخابرات المركزية.

ووفقاً لبرادن، قامت وكالة المخابرات المركزية بتمويل نشر أدبيات المؤيدين المتحمّسين لوكالة المخابرات المركزية كورد ماير هوك وكريستال ولاسكي. أما فيما يتعلق بالمطبوعات المستقلة الأكثر شهرة لـ"اليسار الديمقراطي" مثل (المواجهة، القائد الجديد)، فكتب برادن أنه تم دفع رواتبهم من قبل وكالة المخابرات المركزية، وتم تعيينهم محررين لـنشرة "المواجهة". ويشير برادن أنه حتى عام 1953 كنا نشطين ومؤثرين في كل المجالات وفي كل منظمة دولية.

يقدم كتاب سوندرز معلومات مفيدة حول عدد من الأسئلة المهمة حول الطرق التي يدافع بها مثقفو وكالة المخابرات المركزية عن المصالح الإمبريالية الأمريكية على الجبهة الثقافية. كما يثير الكتاب قضايا مهمة حول التداعيات طويلة المدى للمواقف الأيديولوجية والفنية التي ينادي بها المثقفون المؤيدون لوكالة المخابرات المركزية.

وتنفي سوندرز مزاعم هوك وكريستال ولاسكي بأن وكالة المخابرات المركزية ومؤسساتها الصديقة تساعدهم دون أي التزام منهم، وتشير إلى أن "الأفراد والمنظمات التي تساعدهم وكالة المخابرات المركزية يتم استخدامهم كجزء من الحرب الدعائية". إذ أن الدعاية الأكثر فاعلية، كما حددتها وكالة المخابرات المركزية، هي أن "أي موضوع ينبغي أن يعبر عن المُثُل العليا للكاتب، بحيث يبدو أنه ينبع من صلب أفكاره". وتقدم وكالة المخابرات المركزية المساعدات السخية والتسهيلات في النشر للأفراد والمجلات المرتبطة بـ"اليسار الديمقراطي" عند التحدث عن الإصلاح الاجتماعي إذا كان يصب في إطار مناهضة الشيوعية ومناقشات أدبية ضد الماركسيين الغربيين والكتاب والفنانين السوفييت. ويشير برادن إلى ذلك على أنه "التقاء" بين وكالة المخابرات المركزية و "اليسار الديمقراطي" في أوروبا في النضال ضد الشيوعية. وشمل التعاون بين اليسار الديمقراطي ووكالة المخابرات المركزية حتى عند التصدي لإضراب عمال النقل في فرنسا، وتبادل المعلومات عن "الستالينيين" أورويل و هوك، والحملات السرية لمنع الاعتراف بالفنانين اليساريين، بما في ذلك الهجوم على بابلو نيرودا عند تسلمه جائزة نوبل عام 1964. إن وكالة المخابرات المركزية باعتبارها ذراع الحكومة الأمريكية، وجهت كل اهتمامها صوب أوروبا وشنت الحرب الباردة الثقافية بعد الحرب العالمية الثانية. لقد عارضت الغالبية العظمى من المثقفين الأوروبيين والنقابات العمالية النظام الرأسمالي، ولا سيما معارضتهم لهيمنة الولايات المتحدة، بعد ما يقرب من عقدين من الركود الاقتصادي وتراجع فرص العمل. وتبعاً لذلك، أعدت وكالة المخابرات المركزية خططاً من مرحلتين لمواجهة جاذبية الشيوعية ونمو الأحزاب الشيوعية، خاصة في فرنسا وإيطاليا.

فمن ناحية، كما توضح سوندرز، تم تشجيع بعض الكتاب الأوروبيين كجزء من تطبيق "البرنامج المناهض للشيوعية". إن معايير المفوض الثقافي في وكالة المخابرات المركزية هي نشر "النصوص المناسبة" التي تشمل "توجيه الانتقاد للسياسة الخارجية السوفيتية وللشيوعية تحت ذريعة أن يكون نظام الحكم حقيقياً ومقنعاً وفي الوقت المناسب". وكانت وكالة المخابرات المركزية مهتمة بشكل خاص بنشر أعمال الشيوعيين السابقين مثل سيلونه وكوستلر وجيد. ورعت وكالة المخابرات المركزية كونفرنسات الكتاب المناهضين للشيوعية وتحملت نفقاتها في باريس وبرلين وبيلاجيو (على ضفاف بحيرة كومو)، وقدمت الدعم للكتاب المعادين للشيوعية. حيث أيد علماء الاجتماع والفلاسفة المحايدون مثل أشعيا برلين ودانييل بيل وتشيسلو ميلوش القيم والفضائل والحريات والاستقلال للمفكرين الغربيين تحت ستار معايير معادية للشيوعية ومؤيدة لواشنطن ولوكالة المخابرات المركزية. وبلغ الأمر حداً أن أيا من هؤلاء المثقفين البارزين لم يجرؤ على طرح أي تساؤلات حول المجازر في الهند والصين أو الجزائر، أو مطاردة المثقفين الأمريكيين، أو مذابح السود في جنوب الولايات المتحدة على يد مليشيات كوكلس كلان.

وفقًا لسيدني هوك وميلفين لاسكي المتحمسين لجمع الأموال للأدب المفلس، الذين اعتبروا أن مثل هذه المخاوف الزائفة ما هي إلاّ مجرد أداة في أيدي الشيوعيين. وكان من الممكن أن يكف العديد من المجلات السياسية والأدبية المعادية للشيوعية عن الصدور منذ فترة طويلة لولا الدعم  والتمويل من قبل وكالة المخابرات المركزية، فقد قامت وكالة المخابرات المركزية بشراء آلاف النسخ من منشوراتها ووزعتها مجاناً.

وكانت العملية الثقافية الثانية التي نفذتها وكالة المخابرات المركزية أكثر دقة. فقد جرى الترويج للحفلات الموسيقية والمعارض الفنية والباليه والفرق المسرحية وموسيقيي الجاز والأوبرا المشهورين بهدف واضح هو تحييد المشاعر المعادية للإمبريالية في أوروبا وخلق شعور بتشجيع الثقافة من قبل الحكومة الأمريكية. كانت الفكرة من وراء هذه السياسة هي الترويج للثقافة الأمريكية حصراً من أجل فرض الهيمنة الثقافية لدعم إمبراطوريتها العسكرية والاقتصادية. لقد كانت وكالة المخابرات المركزية حريصة بشكل خاص على إرسال الفنانين السود، وخاصة المغنين مثل ماريون أندرسون، إلى أوروبا، وكذلك الكتاب والموسيقيين مثل لويس أرمسترونغ، لتحييد العداء الأوروبي لسياسات واشنطن الداخلية العنصرية. ويتم حذف أي مثقف أسود من هذه الفعاليات في حالة انتقاده لهذا السيناريو، كما حصل مع المؤلف ريتشارد رايت.

يمكن رؤية مدى سيطرة وكالة المخابرات المركزية السياسية على الأنشطة التي تبدو غير سياسية للمثقفين بوضوح في رد فعل المحررين (لاسكي وكريستول وآخرين) في مقال لدوايت ماكدونالد. كان ماكدونالد مفكراَ فوضوياً تعاون لفترة طويلة مع مؤتمر "الحرية الثقافية والمواجهة" الذي تديره وكالة المخابرات المركزية. ففي عام 1958 كتب ماكدونالد مقالاً بعنوان "أمريكا أمريكا"، عبّر فيه عن تمرده على ثقافة الجماهير الأمريكية وماديتها البدائية وغير المتحضرة. وشكل هذا المقال رفضاً للقيم التي روجت لها الدعاية المادية المبكرة لوكالة المخابرات المركزية في الحرب الثقافية ضد الشيوعية في الولايات المتحدة. كان هجوم ماكدونالد على "الإمبراطورية الأمريكية الفاسدة" خارج نطاق تحمل وكالة المخابرات المركزية ومثقفيها. وأوضح برادن مخاطباً المثقفين، "لا يتعين على المنظمات التي تتلقى أموالا ًمن وكالة المخابرات المركزية أن تدعم جميع وجهات النظر والسياسات الأمريكية، ولكن هناك بالتأكيد خطا أحمر ، خاصة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية الأمريكية.

لم يتم قبول المقال على الرغم من حقيقة أن ماكدونالد كان محرراً في السابق لـمجلة Encounter. ففي العدد اللاحق من Encounter ، كتب نيكولا شيار مونتي، أحد كتاب الحرب الباردة الثقافية ، بحذر أن مهمته كانت تتحدد في قدرة كل مفكر على الشك في موقفه دون إذلال. ومهمتنا هي كشف التصورات والامتناع عن "الأكاذيب البيضاء"، فالحقائق عند التعامل مع "الأكاذيب المفيدة" للغرب في " Encounter"، ليست بالتأكيد من مهمة المحررين المرموقين.

إحدى الدلائل الأكثر أهمية وإثارة للاهتمام لما ورد في كتاب سوندرز هي حقيقة أن وكالة المخابرات المركزية وحلفاءها أنفقوا مبالغ كبيرة للترويج للفن التجريدي في متحف الفن الحديث (Moma) في مواجهة الفنون ذات المحتوى الاجتماعي. ومن أجل الترويج لهذه الفنون، خاضت وكالة المخابرات المركزية صراعاً في الكونغرس بالاعتماد على الجناح اليميني  للترويج للفنون التجريدية. ورأت وكالة المخابرات المركزية أن مهمتها الترويج لأيديولوجية مناهضة الشيوعية وأيديولوجية الليبرالية والأعمال الحرة؛ أي أن نقيض الواقعية هو الجهل والصمت السياسي. لقد اعتبروا أن الفنون التجريدية هي التعبير الحقيقي عن الإرادة الوطنية. ومن أجل التحايل على الانتقادات الصادرة من بعض الأوساط اليمينية، لجأت وكالة المخابرات المركزية إلى القطاع الخاص أي Moma"(متحف الفن الحديث)، الذي أسسته آن نيلسون روكفلر تحت لافتة "لوحات السوق الحرة". ولطالما ارتبط العديد من المديرين التنفيذيين "Moma" بوكالة المخابرات المركزية واستخدموا كسلاح في الحرب الثقافية الباردة. وأقيمت معارض في جميع أنحاء أوروبا. وجرى تعبئة نقاد الفن، ونشرت المجلات الفنية مقالات الثناء. وضمنت الموارد الاقتصادية المشتركة لـ MOMA مع مؤسسة Fair Field التي ترعاها وكالة المخابرات المركزية، التعاون مع المعارض الأوروبية المرموقة، والتي بدورها تمكنت من التأثير سلباً على الجماليات في جميع أنحاء أوروبا.

لقد تم استخدام "AE " (الفن التجريدي) باعتباره إيديولوجية "الفن الحر" لمهاجمة الفنانين الملتزمين في أوروبا. وعبأ "المؤتمر من أجل الحرية الثقافية" (جبهة وكالة المخابرات المركزية) كل قواه لدعم الفن التجريدي مقابل الفن الواقعي. ففي ملاحظة حول الدور السياسي لـ AE، لاحظت السيدة سوندرز أن "من خصائص السمات غير العادية للدور الذي لعبه الفن الأمريكي في الحرب الباردة أنه لم يعد جزءاً من صفقات رجال الأعمال، بل أصبح الفن حركة تعمدت تسييس طبيعتها غير السياسية ". وربطت وكالة المخابرات المركزية الفنانين والفنانين غير السياسيين بالليبرالية، مما أدى إلى تهميش الفنانين اليساريين الأوروبيين. بالطبع، ومن المضحك أن هذه اللاسياسة كانت موجهة فقط للاستهلاك ضد اليسار.

وهكذا استطاعت وكالة المخابرات المركزية ومنظماتها الثقافية أن تشكل بعمق وجهات النظر الفنية بعد الحرب. أعلن العديد من الكتاب والشعراء والفنانين والموسيقيين المشهورين استقلالهم عن السياسة، قائلين إنهم يؤمنون بـ "الفن من أجل الفن". وبلغ مصطلح فنان أو مثقف حر ذروته كشخص ليس له انتماء سياسي ويستمر هذا حتى اليوم.

لقد قدمت السيدة سوندرز وصفاً مفصلاً للصلات بين وكالة المخابرات المركزية والفنانين والمثقفين الغربيين، ولكن الدلائل الهيكلية لهذا الخداع والسيطرة على المعارضة لا تزال مجهولة. إن بحثها انصب على التنافس السياسي والصراع مع الشيوعية السوفيتية، ولا توجد هناك محاولة جادة لتتبع آثار الحرب الثقافية الباردة على الحرب الطبقية، وثورات السكان الأصليين في العالم الثالث، ونضالات الماركسيين المستقلين في العالم ضد الهيمنة الاقتصادية الإمبريالية الأمريكية. يؤدي هذا إلى قيام سوندرز بحساب بعض استثمارات وكالة المخابرات المركزية بشكل انتقائي ويفضل بعض الوكلاء على الآخرين. علاوة على ذلك، تميل سوندرز إلى اعتبار الحرب الباردة الثقافية رد فعل طبيعي، بدلاً من اعتباره جزءاً لا يتجزأ من المنظومة الإمبريالية. لقد أدى انتصار حلف الناتو الثقافي على أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي السابق بسرعة إلى خلق انطباع بأن الحرب الباردة الثقافية كانت إجراءً دفاعياً محضاً.

تعود جذور الحرب الثقافية الباردة إلى الحرب الطبقية. ففي وقت مبكر، بادرت وكالة المخابرات المركزية وعملائها في اتحادات العمال ومؤتمرات المنظمات الصناعية الأمريكية (AFLCIO) ، إلى تجنيد كل من إيرفينغ براون وجيه لاستون (شيوعيان سابقان) ومدهم بملايين الدولارات لتصب في ميزانيات النقابات الاشتراكية الديمقراطية من أجل تفكيك النقابات الراديكالية وكسر إضراباتها. وتم تمويل ميزانية منظمة "من أجل الحرية الثقافية" ومثقفيها من قبل نفس عملاء وكالة المخابرات المركزية الذين جندوا رجال مافيات مارسي لقمع إضرابات عمال الموانئ..

بعد الحرب العالمية الثانية، وجراء ضعف الجبهة اليمينية القديمة في أوروبا الغربية بسبب صلاتها بالفاشيين والنظام الرأسمالي الضعيف، أدركت وكالة المخابرات المركزية أنه من أجل إضعاف النقابات والمثقفين المناهضين لحلف الناتو، يجب التوجه صوب إيجاد أو "ابتكار" ما عرف باليسار الديمقراطي للانخراط في الحرب الأيديولوجية. وتم إنشاء وحدة خاصة في وكالة المخابرات المركزية للتحايل على احتجاجات اليمين في الكونجرس الأمريكي. واستُخدم اليسار الديمقراطي في الأساس لمحاربة اليسار الراديكالي ولتأمين الهيمنة الأمريكية في أوروبا أيديولوجياً. ولكن لم تتم دعوة آيديولوجيي "اليسار الديمقراطي"، تحت أي ظرف من الظروف، للمساس بالسياسات والمصالح الاستراتيجية الأمريكية. فلم يكن السؤال عن ذلك من صلب وظيفتهم؛ وبدلا من ذلك، يجب عليهم أن يخدموا الإمبراطورية الأمريكية تحت لافتة "القيم الديمقراطية الغربية". وعندما برزت المعارضة واسعة النطاق لحرب فيتنام في الولايات المتحدة وأوروبا، فقد هؤلاء أغطيتهم التنظيمية، وقفز العديد من المفكرين المدعومين من وكالة المخابرات المركزية من السفينة، وبدأوا ينتقدون السياسة الخارجية للولايات المتحدة.

فعلى سبيل المثال، أصبح ستيفن سبندر ناقداً للحرب التي تخوضها أمريكا في فيتنام بعد أن أمضى معظم وقته في القائمة القانونية لوكالة المخابرات المركزية. كما بدأ بعض محرري Partizan بنقد سلوكهم وتعاونهم السابق مع وكالة المخابرات المركزية. وادعى كل منهم براءته من تلك المواقف. ولكن قلة قليلة من هؤلاء ظلوا يؤمنون بعلاقة ود طويلة وعميقة مع العديد من الصحف والمجلات دون أن يعرفوا من يقف وراءها.

وكان لتدخل وكالة المخابرات المركزية في الحياة الثقافية للولايات المتحدة وأوروبا وأماكن أخرى عواقب بعيدة المدى. فقد تم منح العديد من المفكرين الامتيازات والجوائز وإبرازهم للجمهور. وبسبب من أنشطتهم الأيديولوجية السرية على وجه التحديد، تلقوا تمويلًا لبحوثهم من هذه الوكالة. وشارك بعض من أكبر الأسماء في عالم الفلسفة والأخلاق السياسية وعلم الاجتماع والفنون في المؤتمرات والمجلات التي تمولها وكالة المخابرات المركزية. وبناءً على المعايير السياسية التي وضعتها وكالة المخابرات المركزية، فقد وضعوا معايير أخرى لجذب جيل الشباب. وأصبح تحديد المكانة الأكاديمية ومكانة المؤسسات والمتاحف حسب معايير "الحقيقة" و "التميز" التي تؤمن بها واشنطن، وليس حسب الجدارة أو المهارة المهنية.

لقد غدت أفكار وآراء "اليسار الديمقراطي" الأمريكي والأوروبي المناهض للستالينية وإعلانات الإيمان بالقيم الديمقراطية والحرية غطاءً أيديولوجياً قوياً لتبرير الجرائم الوحشية للغرب. ففي حرب الناتو الأخيرة ضد يوغوسلافيا، انحاز العديد من المثقفين اليساريين مرة أخرى إلى جانب القوات الغربية وجيش تحرير كوسوفو (KLA) أثناء حملة التطهير الدموي لعشرات الآلاف من المواطنين الصرب وقتل الآلاف من المدنيين الأبرياء. إذا كانت مناهضة الستالينية هي أفيون "اليسار الديمقراطي" خلال الحرب الباردة، سيلعب التدخل باسم حقوق الإنسان نفس دور الأفيون الخادع اليوم.

أما بالنسبة للمفكرين غير السياسيين والأكاديميين والفنانين المنفصلين عن النضالات الجماهيرية والأحزاب اليسارية التقدمية، فقد أصبحت النشاطات الثقافية لوكالة المخابرات المركزية نموذجاً جذبتهم لإبعاد أنفسهم عن الطبقة العاملة وتقربهم من المؤسسات ذات الشهرة. ونجحت وكالة المخابرات المركزية في الحماية الأيديولوجية للمثقفين الذين لا يكتبون عن الصراع الطبقي والإمبريالية الأمريكية، أي الفئات "الأيديولوجية وليست الموضوعية" أو أي فئة من هذا القبيل.

لم يكن لمؤتمرات الحرية الثقافية التي رعتها وكالة المخابرات المركزية ودفاعها الثابت عن السياسات الإمبريالية الأمريكية أثر دائم على النطاق العالمي. إذ أن نجاحهم يتحدد في إجبار جيل من المثقفين الذين تعارضت أفكارهم مع الجدل المستمر حول الإمبريالية الأمريكية بصدد التأثير الثقافي والسياسي في وسائل الإعلام بأكملها. ولا يهم ما إذا كان المثقفون أو الفنانون اليوم يتخذون موقفًا تقدمياً بشأن هذه القضية أو تلك. المشكلة هي أن الاعتقاد السائد بين الكتاب والفنانين هو أنهم إذا أرادوا أن تحظى أعمالهم في الموسيقى والرسم والكتابة باهتمام فني جاد، فيجب أن تكون خالية من المحتوى السياسي والاجتماعي والمعادي للإمبريالية. كان الانتصار السياسي الدائم لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية هو إقناع المثقفين بأن الولاء الجاد والدائم لليسار لا يتوافق مع الفن الجاد والمعرفة. وتظهر اليوم الأسس العملية للحرب الباردة في دور الأوبرا والمسارح والمعارض الفنية، وكذلك في الاجتماعات المهنية الأكاديمية: فلا يجرؤ أحد على الحديث عن الإمبراطور؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  *فرانسيس هيلين جين ستونر ساوندرز، مؤرخة وصحفية بريطانية، ولدت عام 1966، حصلت على شهادة الشرف في اللغة الإنجليزية من كلية سانت آن في جامعة أكسفورد. عملت كمقدمة أفلام تلفزيونية في القناة الرابعة تحت عنوان "التاريخ المتنوع للحداثة" في عام 1995. وكان أول مؤلف لها هو "وكالة المخابرات الأمريكية والحرب الباردة الثقافية". أما المؤلف الثاني فهو "الرجل الانجليزي الشيطاني"، إضافة إلى سيرة حياة المرأة التي أطلقت الرصاص على الديكتاتور موسيليني.  

** جیمز پتراس كاتب وصاحب ستة مؤلفات ومئات المقالات، وكان آخر ما ألفه كتاب "اليسار يعاود هجومه"(The Left Strikes Back) ولد عام 1937، عمل كبروفسور في جامعة ببينغهامتون وجامعة نيويورك وهاليفاكس ونوفيا سكوتيا في كندا، وركز في مؤلفاته على مشاكل أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وموضوعات الامبريالية والعولمة والحركات الاجتماعية اليسارية.

  

عرض مقالات: