جلست على أول مقاعد التلمذة وأنا في السادسة من عمري في مدرسة الهاشمية الابتدائية، وقد كانت فرعاً من فروع المدارس الجعفرية في رصافة بغداد قبل أن يتم إلغاؤها بعد بناء المدارس الحديثة للمدارس الجعفرية الابتدائية والثانوية في عام 1946، كما أظن. كانت المدرسة الهاشمية تقع في موقع وملتقى ثلاثة محلات مهمة من الرصافة القديمة وهي الدهانة والقاطرخانة وسوق الغزل، وفي الزقاق المقابل لجامع المصلوب، وتجاور هذه المحلات الثلاثة محلة الهيتاويين والصدرية وصبابيغ الآل في بغداد.
طاقم المدرسة يكاد يكون نفسه الذي انتقل لاحقاً إلى المدرسة الجعفرية الابتدائية التي بنيت حديثاً آنذاك وبسبك معماري تراثي جميل، أبدع في تصميمها المعماري القدير وأحد خريجيها الأوائل الاستاذ جعفر علاوي. مدير المدرسة كان السيد كاظم بنظارته التقليدية القديمة والذي كان يتردد على الصفوف للتدقيق في نظافتها وحضور تلامذتها. وتلاه على هذا المنصب السيد حسن الحجازي مدرس اللغة الانجليزية البارع الذي كان يتفنن في كيفية أيصال المفردات الانجليزية إلى ذهن التلاميذ لاستيعابها إلى حد أنه كان يستعين ببعض الألحان من أجل ذلك. وهو الذي بقي في إدارة المدرسة الجعفرية الابتدائية إلى وقت متأخر. لم يجر التمييز في الطاقم التدريسي تبعاً للمذهب أو الدين، فهناك مدرس الرياضيات البارع المعلم عبد الستار الشيخلي ومعلم الجغرافيا، الضابط السابق في البحرية العثمانية، عمو ثابت بحرية، الذي كان يلجأ إلى مختلف الأفانين لإيصال مادته التدريسية، فتارة كان يحمل البرتقالة والشمعة لتمثيل شكل ودوران الأرض حول الشمس أو حتى يقوم بحركات تمثيلية لتحقيق الهدف. ولا أنسى كيف كان يطالبنا بمتاع بداية رأس السنة الهجرية الشمسية وما يتعارف عليه ( دورة السنة-النوروز) حيث يطالب ب الكليچة والكرزات التي كان يجلبها التلاميذ من بيوتهم عندما كان يحتفي المعلم بهذا اليوم. ولم يخلو طاقم المدرسة من المدرسين المبدعين مثل السيد حسين القزويني الذي شغل لفترة طويلة تدريس الرياضة والنشاطات اللاصفية وإدارة فرقة النشيد والتمثيل في المدرسة. كما تولى النحات العراقي البارز محمد الحسني، الذي كان قد تخرج تواً من معهد الفون الجميلة، تدريس مادة الرسم في المدرسة لفترة غير قصيرة إلى أن غادر العراق لأكمال دراسته في فرنسا.
وتميز من بين كل الطاقم التدريسي بشكل خاص معلم مادتي العربي والدين السيد نوري السيد حسن الموسوي، بقامته الفارعة وصوته الجهوري الشبيه بصوت الباس الأوبرالي وبهيبته وعصاه التي لا تفارقه أثناء تأدية الفصل التعليمي. كل هذه الأوصاف وضعته في منزلة خاصة وهيبة لدى التلاميذ إلى حد الارتباك. كان الإنضباط في الدوام وتلقي المعرفة همّه الأول، وكان لايتردد إلى لغة التأنيب عندما يقوم أحد التلاميذ بخرق الضوابط والإنضباط بحيث كان يستعين بالفراش "كازم" (كاظم) الرجل الفيلي الطيب الذي يشبه شخصيات الروائي الروسي انطون تشيخوف، لمعالجة هذه الخروقات. ولكن لم تخلو حصته من المسابقات الشعرية الجميلة وسرد بعض الروايات والحكايات الشعبية التراثية، مع الأحداث التاريخية التي لم تكن تخلو من النوادر التي كنا نبتسم بهمس لسماعها كي لا نخرق الضوابط في الصف ونثير غضب معلمنا الجليل.
لقد كان السيد نوري السيد حسن الموسوي يسكن مع عائلته الكريمة في بيت يقع قرب بيتنا في محلة صبابيغ الآل الذي يطل على شارع الملك فيصل الثاني (شارع الوثبة حالياً)، مما وفر لنا الفرصة لمتابعة منبره وخطبه التنويرية الدينية والوعظ بعبر الأحداث ومآثر الخيرين في تاريخنا دون الوقوع في فخ البكائيات والمناحة والخرافة، خاصة في مراسيم عاشوراء، مما أكسبه احترام وجهاء المحلة وسكانها، خلافاً لما كان يقوم به البعض في المحلة من تشويه هذه المراسيم والغلو فيها كما يحصل الآن. وكان نجله وصديق العمر صباح السيد نوري الموسوي على علاقات جميلة مع أقرانه في المحلة، وهو الذي تميز بالطبع الظريف، وكان
ينقل لنا روايات وحكايات ونوادر والده الجليل ونحن نجلس على رصيف الشارع في أماسي الصيف. انخرط بعد تخرجه من الثانوية في كلية الطيران ثم أكمل دراسته في أحد الكليات الجوية العسكرية في بريطانيا وشارك في سرب قاده الطيار خالد ساره في إخماد عصيان الشاف في الموصل عام 1959. وما أن هبت الريح الصفراء على البلاد في انقلاب شباط الأسود عام 1963، حتى تم اعتقاله شأنه في ذلك شأن الآلاف من الضباط والمدنيين. وفي الثمانينيات فجعت العائلة الكريمة بإبنها البكر الدكتور ضياء السيد نوري الموسوي استاذ مادة في جامعة بغداد وجامعة البصرة والجامعة المستنصرية وجامعة الكوفة، حيث دست احدى طالبات الكلية الطبية في بغداد سُم السيانيد في ست زجاجات من الكوكاكولا، وراح ضحيتها الدكتور ضياء الموسوي فقط . لقد رزق معلمنا الجليل ذرية قدم جل خدماتها لعراقنا العزيز، وكان آخرهم المهندس المعماري المرموق السيد علي السيد نوري الموسوي.
طوبى لمعلمنا الجليل السيد نوري السيد حسن الموسوي. لتبقى ذكرى معلمنا وذريته وعائلته الكريمة وسعيه لتعميق المعرفة في ابناء جيلنا ماثلة على الدوام في وجدان وضمير كل من تتلمذ على يده وعرفه.
25/ 4/2020