لوحة الهروب من أعمال الفنان الإسباني – البرشلوني بيرى بوريل ديل كاسو (1835-1910)، ونفذها عام 1874. وهي عبارة عن توظيف صور واقعية لخلق نوع من الخداع البصريّ تظهر فيها الأشياء في مجال ثلاثيّ الأبعاد بدلا من بعدين فقط. وقد علق عليها الفنان نفسه على لوحته بالعبارات التالية:" عندما تخرج من الإطار الذي صنعوه لك، ستندهش وستندم على كل لحظة عشتها عندما فُرضت عليك قيود الأطر والتقاليد الموروثة". أبدع الفنان في لوحته فنياً أيضاً عندما صور الطفل وهو يخرج من الإطار ليندهش من العالم الجديد عالم التغيير الذي ينبعث نوره على يسار الطفل المندهش، بمعنى ان اللوحة هي تعبير عن فكرة حول "ضرورة التجديد "و "التألق الذهني" و "التفكير خارج الصندوق". فالمجتمع الذي يرفض الاختلاف والتنوع والتعددية والتجديد، ويحاول عمل نسخ متطابقة من أفراده هو مجتمع ضعيف وغير متماسك. ويعيش الإنسان بين هذا وذلك، ولا يجرأ على تغير شيء من عادات مجتمعه، لأن البعض يوصلها إلى درجة القداسة.
يرفض أنصار الأطار الفكري كل ما يقع خارج الإطار، ولذا يبتلون بداء ضيق الأفق المحدود، كما يرفضون أي جديد وأية حداثة، ويكفّرون كل ما تقدمه قريحة المفكرين والمبدعين في شتى المجالات. ولنا أمثلة تاريخية في ردود الفعل على الفرضيات الجديدة آنذاك والتي طرحها غاليلو غاليلي (15فبراير 1564 -8 يناير 1642) ونيكولاس كوبرنيكوس ( 19 فبراير 1473 – 24 مايو 1543) وآخرون حول كروية الأرض، التي واجهتها الكنيسة بالتكفير وحتى اعدام القائل بها.
يتناول عالم الاجتماع العراقي علي الوردي في كتابه خوارق اللاشعور موضوع "الإطار الفكري" ويقول:" لو درسنا شخصية كل من الناجحين العظام لوجدناها غريبة الأطوار. فهي لا تأخذ قالباً معيناً فتظل فيه زمناً طويلاً. كل يوم هي في شأن. وهنا يظهر امتياز الناجح العظيم عن الرجل العادي. فالرجل العادي له شخصية متحجرة لا تتغير ولا تتبدل إلا نادراً. فأنت تستطيع أن تعرفه بسيماه في كل حين. أما الرجل العظيم فتراه جياشاً لا يقر له قرار، فتارة تجده بارداً غير مكترث وتارة تجده جباراً وثاباً يضرب الضربة فلا يثنيها. وهو حكيم أحياناً... خرافي أحياناً أخرى، عاقل مرة... مجنون مرة. مؤمن في بعض أوقاته، مشكك في أوقاته الباقية.. إن شخصية العظيم في الواقع شاذة. ومن المخجل أن نرى العاديين من الناس يريدون تقليد العظيم ويحاولون أن يكونوا مثله، وشتان ما بين الثرى والثريا. إن العظمة مزيج غريب بين مواهب الشعور واللاشعور. فالعظيم يسعى ويكد، ويدقق ويحقق، حتى إذا دنت ساعة الحسم يضرب ضربته القاصمة التي لا تخضع لتدقيق ولا تحقيق"...." إن الإنسان لا يستطيع أن يتخلص من إطاره الفكري إلا نادراً. فهو فرض لازم عليه. فالإطار شيء كامن في اللاشعور.. والإنسان لا يستطيع أن يتخلص من شيء لا يشعر به بسهولة".
إن التاريخ يؤشر على أنه في ظل الأزمات الاجتماعية والسياسية التي تعصف في المجتمع، يبدأ الفرد يطرح الأسئلة تلو الأسئلة، ويتهاوى الإطار الفكري الذي يقيّد تفكير الإنسان ويبدأ هذا الإنسان بالبحث والتدقيق في مجمل ما تسرب وغُرس في ذهنه، ويبحث عن الحلول والتجديد. ولنا في الأحداث التي جرت على العراقيين في السنوات الأخيرة خير مثال على ذلك. فالنظام السابق الذي فرض إطاراً فكرياً ونمطاً من الممارسة على المجتمع ورفع شعار " كل عراقي بعثي وإن لم ينتم"، سرعان ما تهاوى ليخلف ركاماً فكرياً واجتماعياً وسياسياً وضع العراق في دائرة الفوضى والإنهيار. هذا التردي ما هو إلاّ فخ لإطار فكري مدمر تسلل إلى عقول العراقيين من شتى المكونات، إنه حنين إلى الماضي بكل ملابساته السلبية والتعصب المذهبي والديني والعشائري والبدوي والقومي. لقد بذلت على هذه
النزعات المدمرة الجهود تلو الجهود، وأنفقت الأموال وراحت قوافل من الضحايا، واجتذبت أوساطاً واسعة من العراقيين وأدت إلى كوارث وضحايا رهيبة تمثلت في التناحر الطائفي ونزعة الكراهية بين العراقيين ضمن أطر دينية ومذهبية وقومية. ومثال على ذلك استشراء الحركات الإرهابية كالقاعدة وتنظيم الدولة التي انضم إليها وشارك في تمويلها جمع من العراقيين على أسس مذهبية، والتي لم تنمو وتنتشر إلاّ بفعل الانغلاق الفكري والإطار الفكري المحدود الذي فرض على العراقيين خاصة خلال حكم البعث. ولكن سرعان ما انقلب هؤلاء المخدوعون عندما شهدوا الدمار الذي ألحقه هذا الاطار الفكري بالعراقيين، وسرعان ما فطنت إليه الشبيبة العراقية بعد أن فشل وتلاعب بثروة البلاد أنصار الإطار الفكري للأحزاب الإسلاموية خلال فترة حكمهم التي استمرت منذ الإطاحة بالديكتاتورية ولم تخطو أية خطوة صوب التنمية والإصلاح وحتى الآن، لتعلن شبيبتنا إنهيار القوالب والأطر الفكرية الجامدة الماضوية، ولتفاجأ العالم بموجة تندد بتلك القوالب ولتنذر بإنهيارها في الحراك الشعبي التشريني الأخير. فالإفلاس التام لمروجي الإطار الفكري والإنغلاق قادم لا محالة ، وهذه هي سنة التاريخ.