يعد انقلاب عام 1965 في إندونيسيا بلا شك أحد أكثر الأحداث دموية في تاريخ الحرب الباردة. وقد نفذ الانقلاب الجنرال سوهارتو ضد الرئيس الدكتور أحمد سوكارنو، زعيم النضال من أجل الاستقلال في إندونيسيا، وأول رئيس للبلاد (1945-1968)، والمعروف باسم "أبو الأمة". هذا الانقلاب حدث مشابه لما حدث في غواتيمالا عندما أطيح بحكومة جاكوبو آربنز عام 1954 ولما جرى لنيلسون مانديلا، ولباتريس لومومبا، وما حدث لأليندي في تشيلي، وللدكتور مصدق في إيران، وحكم عبد الكريم قاسم في انقلاب شياط عام 1963. وتكرر الحدث للعديد من القادة الوطنيين والشعبيين في البلدان الأخرى في سنوات الحرب الباردة التي رافقها سفك دماء ساخنة لعقود بعد الحرب العالمية الثانية.
الدكنور احمد سوكارنو
وُلد سوكارنو، واسمه الحقيقي كوسنو سوسوردارديو، في السادس من تموز عام 1901، في بلدة تقع في مقاطعة جاوة الغربية، ومن عائلة كان والدها ووليها أمرها معلما معروفا. التحق بالمدرسة الهولندية عندما كان طفلاً، وفي عام 1921 دخل الجامعة لدراسة الهندسة المدنية حتى حصوله على شهادة الدكتوراه. تعرّف سوكارنو على الطلاب الوطنيين في الجامعة، وانتخب رئيساً لجمعية الطلاب الخريجين من جامعة باوندونغ. شارك في النشاط السياسي للطلاب، وسعى إلى تحالف بين الشيوعيين والإسلاميين والوطنيين. وكانت رئاسته للحزب الوطني الإندونيسي عام 1927 خطوته التالية في توسيع نشاطه السياسية. وأخيراً، وفي عام 1930، حكم عليه الحكام الهولنديون بالسجن لمدة أربع سنوات لقيامه بأنشطة مناهضة للاحتلال، وتم العفو عنه لمدة عامين. تم القبض على سوكارنو مرة أخرى في شباط عام 1934 بسبب نشاطه السياسي كزعيم للحركة الوطنية الإندونيسية أثناء الحكم الاستعماري الهولندي. أمضى أكثر من عشر سنوات في السجون الهولندية حتى غزت القوات اليابانية إندونيسيا في الحرب العالمية الثانية. وخلال الاحتلال الياباني، تمكن سوكارنو ورفيقه في السلاح محمد حتا من نشر مُثُلهم الثورية والوطنية. وأخيراً، وبعد استسلام اليابان للحرب، أعلنا رسمياً استقلال إندونيسيا في 17 من آب عام 1945.
وهكذا أصبح سوكارنو أول رئيس مستقل لإندونيسيا. ولكن استغرقت هولندا أربع سنوات للاعتراف بالاستقلال والتخلي عن جهودها العسكرية والدبلوماسية لإعادة استعمار إندونيسيا. في عام 1972، عزز سوكارنو علاقاته مع جمهورية الصين الشعبية والكتلة الشيوعية ككل. كما زاد المساعدات العسكرية السوفييتية لدرجة أن أندونيسيا كانت في
أوائل الستينيات الدولة الوحيدة غير الشيوعية التي تتلقى مساعدات عسكرية من الاتحاد السوفيتي. دافع سوكارنو، بمساعدة الحزب الشيوعي الإندونيسي (PKI) والإسلاميين وبمساعدة الجيش، عن استقلال البلاد. كما اتبع سوكارنو سياسة مناهضة للإمبريالية على نطاق واسع بدعم من الاتحاد السوفيتي والصين. ورفعت هذه السياسة من مكانة إندونيسيا الدولية، ومن ناحية أخرى عملت الرأسمالية العالمية على معارضتها.
من المؤكد أن الاستقرار في دولة إندونيسيا المستقلة حديثاً لم يتحقق بسرعة. ولكن بعد فترة، تمكن سوكارنو من تأسيس نظام سمي بـ "الديمقراطية الموجهة" في عام 1957، وبذلك أنهى حالة عدم الاستقرار وأعمال الشغب التي هددت بقاء البلاد. ولكن هذه السياسة أثارت القلق لدى حكام أمريكا من مثل هذه الحركات الوطنية وتحول دول شرق آسيا إلى انتهاج سياسة الاشتراكية أثناء الحرب الباردة. ولذا عملت الولايات المتحدة وبمساعدة بعض جنرالات الجيش الأندونيسي في تدبير انقلاب أطاح بحكم سوكارنو في آذار عام 1967. وتم عزل سوكارنو ووضعه في الإقامة الجبرية بحي لم يستطع أقرب أقربائه من زيارته. ورحبت الصحافة الأمريكية بالإطاحة بسوكارنو وأعلنت أن هذا الانقلاب هو "أفضل أخبار العام في آسيا".
مع بداية عهد الجنرال سوهارتو، أصبحت أرض ألف جزيرة إندونيسية مكسية بالدماء. ودشنت إندونيسيا مرحلة مظلمة من القمع السياسي وإشاعة حالة من الإرهاب. قتلت وحدات الجيش والشرطة السرية في قرى وبلدات وسط جاوة أشخاصا يشتبه في أنهم أعضاء أو من أنصار الحزب الشيوعي. وامتدت أعمال القتل إلى شرق جاوة وبالي وشمال سومطرة وأماكن أخرى، مما أسفر عن مقتل أكثر من مليون شخص في ستة أشهر، مع اقتحام المنازل والمكاتب الشيوعية ونهبها في جاكرتا ومدن أخرى. ألقيت جثث الضحايا الذين لم يتم الكشف عن هويتهم في قنوات المياه في مدن مختلفة، وتمكن مدبرو الانقلاب من إحضار بعض الطلاب إلى الشوارع لدعمهم. كان شعار الانقلابيين موجهاً بالدرجة الأولى ضد الحزب الشيوعي والرئيس المحاصر (سوكارنو) وحكومته. واعتقلت وحدات الجيش كبار قادة الحزب الشيوعي وقتلوا بالرصاص بعد ساعات. وتم إنشاء السجون والإصلاحيات في أجزاء مختلفة من البلاد، وتم إرسال الآلاف من الرجال والنساء الأسرى هناك، ودفنوا أحياء لسنوات عديدة في زنازين ضيقة وظروف قاسية. ومع استمرار عمليات القتل في إندونيسيا، لم يحتج أي ناشط في مجال حقوق الإنسان لدعم الشعب الإندونيسي.
ويوضح كتاب "تقرير عن انقلاب إندونيسيا عام 1965" للباحث البريطاني كارمل بوديارجو الذي كان له زوجة إندونيسية وعاش في البلاد لسنوات عديدة، يوضح مأساة ما حدث في ذلك الوقت. ويذكر الكاتب أن أكثر من مليون شخص قد سُجنوا في الانقلاب، وتم تحطيم الحزب الشيوعي الإندونيسي الذي كان يضم أكثر من خمسة عشر مليون، وأشيعت أجواء القهر جراء طغيان الحاكم، ونهب الحكام الممتلكات الوطنية. وأخيراً، تم سحق المثل الأعلى القومي لشعب هذه الأرض، أي استقلال البلاد.
ويذكر مؤلف الكتاب إن أكثر من 100 ألف سجين سياسي، بعد خمس سنوات من أحداث عام 1965، استمروا في التعفن في السجون دون محاكمة، ولم يكن هناك قانون دستوري ولا محام ولا من يساعد على إنقاذهم. ويكتب المؤلف عن مظاهرات شارك فيها آلاف الطلاب الذين نظمهم الجيش للاحتجاج على السياسيين الأندونسيين السابقين الذين سعى سوهارتو إلى تشويه سمعتهم، والمظاهرة شاركت في تنظيمها الولايات المتحدة. ولعب هؤلاء الطلاب المتعصبون، الذين لا يتبنون المثل العليا الاحتجاجية للحركات الطلابية لعام 1968 في أوروبا، ولعبوا دوراً مهماً في الإطاحة بحكومة سوكارنو الشرعية وإقامة نظام عسكري. ويكتب كارمل بوديارجو أيضًا عن وصوله عام 1970، ففي ذلك الوقت، على الرغم من تضاؤل موجة الاعتقالات، فقد كانت المشكلة الرئيسية للحكومة هي التعامل مع عشرات الآلاف من السجناء الذين لا يمكنها إطلاق سراحهم أو محاكمتهم. ويكتب من العاصمة أنه على الرغم من أنها كانت تتحول بسرعة إلى مدينة غربية بفضل قانون تشجيع الاستثمار الأجنبي لعام 1967، إلا أن الحكومة لم تكن على دراية بالعدد الكبير من النساء اللواتي يرتدين عباءات يلفن أطفالهن حول ظهورهن ويختبئن في ضواحي العاصمة في علب ضيقة من الصفيح، وكانوا يطبخون الأرز في مواقد مؤقتة لأنفسهم ولأطفالهم؛ في حين يشاهد الأطفال أن الشوارع زاهية وفاخرة على بعد أمتار قليلة كان يعيش فيها الوزراء والجنرالات وسفراء العظماء.
ويمكن ذكر تأكيد المؤلف حول دور الولايات المتحدة في هذا الانقلاب في كتاب آخر بعنوان "الحكومة غير المرئية"، وهو كتاب عن دور وكالة المخابرات المركزية في إندونيسيا. في هذا الكتاب، يشرح منسق العلاقات مع واشنطن توماس روس وديفيد وايز كيف قدمت الولايات المتحدة أسلحة إلى التمرد اليميني في إندونيسيا وقدمت لهم قوة جوية صغيرة من قاذفات B-26 لهزيمة سوكارنو. ويشير الكاتب أيضًا إلى أن أيزنهاور لم ينكر فقط الإجراءات الأمريكية ضد سوكارنو في إندونيسيا، ولكنه قال أيضًا في مؤتمر صحفي إن سياسة الولايات المتحدة هي الحياد المطلق بين طرفي النزاع الداخلي.
كما تم تأكيد تصريحات وايز وروس حول تدخل وكالة المخابرات المركزية في الشؤون الداخلية لإندونيسيا بسلسلة من المقالات كتبها مجموعة من صحفيي التايمز الذين يحققون في أنشطة وكالة المخابرات المركزية
بالإضافة إلى ذلك، أشارت العديد من البرقيات المرسلة من السفارة الأمريكية في جاكرتا إلى واشنطن والعكس بالعكس إلى أن الولايات المتحدة متورطة عن قرب في حملة القمع، بل وأرسلت أسلحة نارية إلى مدبري الانقلاب. وفي أواخر تشرين الأول أيضاً، أرسل وزير الخارجية دين راسك برقية إلى السفير الأمريكي في جاكرتا، "يجب أن تستمر الحرب ضد الحزب الشيوعي، والجيش هو المنظمة الوحيدة القادرة على استعادة النظام في إندونيسيا".
بعد الانقلاب، ترشح اللواء سوهارتو للرئاسة مرة واحدة في الأسبوع في انتخابات واحدة، وأخيراً بعد 33 عاماً من توليه منصبه، وبضغط من المعارضة التي اتهمته بالديكتاتورية والفساد المستشري، فضلاً عن الاحتجاجات المستمرة، أزيح من كرسي الحكم بالضبط في اليوم الذي قام فيه بالانقلاب، وأجبر على الاستقالة وتمت محاكمته. كان الفساد الاقتصادي العميق والأزمة المالية في آسيا والانكماش الاقتصادي في إندونيسيا من العوامل الأخرى التي أشعلت شرارات الاحتجاج ضد سوهارتو في أواخر التسعينات، مما أجبره على إلقاء خطاب مدته ثلاث دقائق في يوم استقالته واعتذر للناس عبر الراديو. وفي خلال 33 عاماً من حكم سوهارتو، شهدت إندونيسيا زيادة في العنف العرقي والديني والسياسي، وكان أسوأ ما حدث في تيمور الشرقية.
توفي سوهارتو بمرض الكلى في 11 حزيران 1970. عندما تم الإعلان عن نبأ وفاته على الراديو في حزيران 1970، لم يتمكن الناس خوفاً من الملاحقة إلاّ أن يعبروا عن مشاعر الحزن عندما أعلن أن الرئيس الراحل سيدفن باحترام كامل وأعلن أسبوع حداد عام بمناسبة وفاته. ثم اصطف مئات الآلاف من الأشخاص من المطار لحضور جنازة سوهارتو، ومر عشرات الآلاف أمام جسده تقديساً له.
ولكن في تاريخ حركة الاستقلال، لا يزال سوكارنو يُذكر لدوره في قيادة حركة الاستقلال الإندونيسية. وفي العديد من البلدان، بما في ذلك أثناء رئاسة عبد الناصر في مصر، سمي أحد أشهر شوارع القاهرة، عاصمة مصر، بـ "شارع سوكارنو". نوقش اسمه على أحد الشوارع في الرباط، عاصمة المغرب، وحتى هناك شارع سمي باسمه في مدينة بيشاور في الباكستان.