يقال، أيضاً،  في كثير من مُلزِمات (الاعتبارات الشعرية) ان عدداً ليس قليلاً من الشعراء ، القدامى و المحدثين، كان يهمهم ،جداً، العناية باختيار حاشية  ملتفة  حوله، او هو ملتف حولها ،   في دارهِ او في منتدياته او حتى في مقاهٍ يرتادها، كل يوم.

كثير من الشعراء يعتبرون ( الحاشية الشعرية ) ضرورية لأن الندامة وسيلة اجتماعية لا غنى عنها ،  بين مجموعات الأدباء و الشعراء و الفنانين ،  أيضاً،  سواء عند تبادل الآراء حول مشقـّاتٍ تواجه ، هذا او ذاك من مجموعاتهم،  أو من أولئك المترنحين  تحت ضربات السُكْرِ ، حين لا ينجو فمه من زيادةٍ بمقدار زائدٍ من  الخمر او من كؤوس شراب آخر . كما ان بعضهم من الشعراء و الأدباء يعتبرون  هذا النموذج من الحواشي بمثابة (خوذة حديدية) لحماية (الرأس) أو انها  نوع من انواع ( الاستشارة) او نوع من انواع ( الرضا الاخلاقي) او انها شكلٌ من أشكالِ تعدديةِ الجلساءِ و النصحاءِ والخواصِ من الأصحاب الخلصاء..  يمكنهم أن يكونوا لشاعرٍ معينٍ،  فقهاء و مفكرين لأشعاره و قضاة لإصدارِ أحكامهِ.    بكل الحالات فأن (الحاشية الشعرية) تـُبدّد قدرات أعداء بعض الشعراء وتجعل عداوتهم ليس فيها اية قوة .

بعض الشعراء يعتقدون ان (الحاشية الشعرية) تزيد بعض الشعراء سلطاناً و هيبةً.

هل كان الشاعر مظفر النواب منهمراً في تجميعِ حاشيةٍ شعريةٍ ،حوله..؟

هل وجد سلام نفسه وسلام شعره مضمونين بحائطٍ من أيادٍ و ألقابٍ  ، يلتف حوله الشعراء،  الشباب خصوصاً،  كما يلتف فراخ الطير حول الحمامة الأم ..؟

كلمة (حاشية) ليست مخيفة ،

لا تتضمن شتيمة ،

كما ليس فيها معنى استثنائي .

لا تنهض عنده ، سلبياً،   بأي سلوكٍ  من سلوكيات علاقاته الإنسانية ،

لا تنزل عليه عبئاً ، إيجابياً، وهو شديد الانتباه  إلى موقع خطواته بين الكثرة من أصحابه و محبي اشعاره .    

مَنْ يستعملها يريد أن يمرّ بها ، او يمرّرها، بطرقٍ ذات نمطٍ من أنماط عصبية،  صادرة من قلمٍ  مذعورٍ او عيّ .

لي معرفة بأخلاقية مظفر النواب . لا يفرّق  أي صديقٍ من أصدقائهِ مع اي شقيقٍ من اشقائهِ . انه محب ان يكون واحداً يضاف إلى جمع.

يتفاعل بحبٍ و احترامٍ مع الجمع و الجميع . تجده عوناً لصديقه او لرفيقه ، من الشعراء و الفنانين أو من اصدقائهِ، الاعتياديين،  المقصيين  عن أية موهبة ابداعية .

داينميكية الاحترام تغمر نفسه وتسكن معه في جميع خيام غربته..  لم ينبذها منذ فتوته و شبابه و شيخوخته وقد كان وجودها ، إيجابياً،  بكلِ مراحل حياته الصعبة .

توحّد داينميكيته  في عقله ، جميع أشكال التعايش الطيّب مع  الاصحاب و الأصدقاء ، سواء كانوا غرباء او من الأهل و القرباء. يتحمّل مسؤوليات الصداقة و الأصدقاء ، مهما كان ثقلها على ظهره . تتطور ، عنده ، النظرية الغريزية،  في حتمية علاقات الصداقة  من دون تقييد ، حتى تصل الى حدٍ فطريٍ ، حين ينسى او لا يتذكر اسماء بعض أصدقائه . ليس بسبب ضعف ذاكرته ، بل بسبب كثرة أصدقائه . 

جوهر الصداقة في مفهوم  مظفر النواب تجعله شخصية واضحة ، ليست غامضة،  أمام كلِ صديقٍ من أصدقائه ، حتى إنْ كان هذا او ذاك،  شخصاً غامضاً في عينيهِ.  

هذا الجوهر لا يؤثر على هويتهِ ،كشاعرٍ،  و لا يؤدّي إلى انعزالٍ عن المجتمع احتراماً لمهمة الشاعر .  كما ان صداقته تستجيب للأخوة الموجودة في أعماقه ، معوّضةً  روح الابوة الطبيعية ،المحروم منها ، بالرغم من توفرها الحتمي تحت الواجب الشعري أمام جمع  الشعراء،  الشباب، الماضين نحو امتلاك نهجه الشعري  ، مما يشعره بأبوة     الجميع . 

من الناحية التقليدية ان كل من تعرّف إليه   ، يعلم  أن مظفر النواب  صديقٌ من نوعٍ ليست له شروطاً  صعبة ولا فروضاً معقدة . لذا  يستحق  ارادة الإخوة و صفاتها ، متى ما احتاجها أحدٌ من مظفر و متى ما امتلك مظفر قدرة الاستجابة لها  . لا شيء يمنع مظفر النواب عن الدفاع عن حقِ  أي صديقٍ من أصدقائه . إذا   ما واجه انتهاكاً لروح صداقته من اقرب الناس اليه فأنه  يعاقب نفسه إنْ لم يتحمل مسؤولية الصديق المحتاج اليه ، 

يشعر أن  تحويل الغضب الى عصا مع الأصدقاء هو عدوان همجي على الذات.

حين يكتب حسين الهنداوي مقالةً ادبيةً أو سياسيةً أو فلسفيةً فأنه لا يتجاوز (الحقيقة) لأنه لا يهابها . بل انه يكتب من اجل بيان  الحقائق  . سعيه الثقافي - النقدي  مثل  السعي الشاعري- الثقافي  لمظفر النواب . طريقه  في الكتابة النقدية  واضح،  تماماً ، ًمثلً وضوح الشعر عند مظفر النواب ، لذلك فأنهما يلتقيان بطريقٍ واحدٍ . كلاهما  ( الشاعر) و ( الناقد)  لا يفترقان ، مهما ابتعد مكان الكتابة و زمانه عن الآخر لأنهما لا يريدان (الجور) في مقاصدهما النبيلة.  

يعدو الناقد  اللامع حسين الهنداوي ، ممسكاً سيف الضاد ، دفاعاً عن اشعار مظفر النواب ، منذ قصيدته الشعبية: (مرينة بيكم حمد ) ، لأنه وجد فيها تكاملاً  و نضوجاً و ضرباً موسيقياً،   مستنداً الى معمارية  شعرية،  لا تفقد جمالها ، مهما تعاقبَ الزمان على ولادة ( الريل و حمد) .

هذا هو الخلق النقدي المضاف الى  القلم الهنداوي،  يشتغل بإرواء صفحات كتاباته  بالألوان الفلسفية،  المتناسبة مع سديد  سطوره ، طولاً و عرضاً ، لتكون مقالته قادرةً على مدِّ نفسها إلى كل الجهات ،للتغلّب على جائحةٍ ضربتْ الثقافة العراقية ، بعد عام ٢٠٠٣ ، بعد حماقةِ نظام الإسلام السياسي و هو نظام  شديد البأس ، كسابقه ،  لا يتمالك نفسه و لا يضبطها عن نهب المال وجعل كثير من الناس في الوطن،   مثل نعامةٍ ما انثلم خجلها من دفنِ رأسها في تراب.

بعضهم يتشامخون على الآخرين.

لاحظتُ - عن قوة نظر و عن شدة متابعة -  أن الشاعر مظفر النواب لا يخشى مسلكاً حيوانياً لا  من هؤلاء و لا من أولئك ، لأنه يواجههم ، جميعاً ، بسلاح الشعر .

بمعنى أنه لا يحزن لعدم وجود حاشيةٍ شعريةٍ ، محيطةً  به،

ولا هو مسرور لوجودِ تأييدٍ مغروسٍ حوله .

لا ينتظر عوناً من حاشيةٍ اذا حلّ به ضيق ، يظل منتصبا فوق الأرض .

لا يضر أحداً ولا تتعالى ذاته على ذات الآخرين،

لا يصدم صديقاً او خصماً بأيةِ صدمةٍ نفسيةٍ و أخلاقية،

لا ينقض ثقته بالآخر وليس مستعداً لاستغلالِ احدٍ.

يجد نفسه وشعره و كلامه و صمته أطهر من أعداء الشعب،

ظل و  يظل يسبح افتخاراً بأصدقائهِ و بالشعبِ، كله.

لاحظتُ أنه لا يستغيث بأحدٍ من رجال الدولة  إذا مرُض أو ناله شيء من شرٍّ..  لا يطلب إحساناً وازدهاراً  من دولةٍ تضطهد شعبها..  كما  لا يمنع عن أحد اصدقائهِ رغبةً في امتلاكِ  آخر قميصٍ من قمصانهِ أو آخر  بيجاما من ثيابه . حتى   فلوس  جيبه هي ، أيضاً، مشاعة لجميع أصحابه  و هو على استعدادٍ للبقاءِ ،عطشاناً، يقدم آخر كأس ماءٍ إلى رفيقٍ يساويه في احتياجه.

ربما انني انجبتُ أفكاراً ، شخصيةً، خاطئةً بملاحظاتٍ لم تتوالد لديه،  لكنني  جادٌ  بقولٍ  أكيدٍ في  أنه يعتمد على نفسه اعتماداً جامعاً.

في مقالةٍ  هنداوية ، مهمةٍ، جداً ، رغم اختصارها الشديد ، وجدتُ حكايتها الثقافية ذاتَ رمزيةٍ ،عالية الدلالة والمحلول و المعنى . لا يشذّ في كتاباتهِ و لا يشتّ..  لا يكبّ كلامه و لا يكبكبه إلّا محكماً، متماسكاً ، مسبوكاً. ما ينبئه به قلمه لا يرتدع منه ،  خوفاً من بحثٍ مستفيضٍ عن الدلالة و المحلول و المعنى،  على وسعِ ما يقول و ما يبحث ، مصغٍ إلى استقامةِ عقله في الدلالة و المحلول و المعنى .

في اختصارها تفاعلَ الهنداوي، اجتماعياً، مع الذات النوّابية، الذات الشعرية، على وجه التحديد. كتب و يكتب  بتواضعٍ مفرطٍ وتحكّمٍ فلسفيٍ مفرط . التواضع، صفة  خيرية من   صفاتٍ تقرّبه من الآخرين ، من الآخرين الخيّرين، منهم شاعر (الريل) في (قطار الليل) . اعرف ان الهنداوي  ، الأديب او الخبير، لا يتسرع في قولِ أي شيءٍ من دون ان ينبعث هذا الشيء الحكيم او ذاك ، من اعماقهِ ،  بعد درسٍ و تمحيصٍ . بل وجدتُه بمعظم  أقوالهِ،   سواء كانت بسيطة  او  تحتاج الى عناءِ بحثٍ،  فأنه يدنو ، دائماً،  من القول العلمي ، القائم على البحث و الدرس العميقين ، حول  كلِ ما  يبحث بقضيةٍ معقدة ٍمن قضايا الله في السماء او بقضيةٍ محدودةٍ من قضايا الشعر و الشعراء ومن قضايا الكتـّاب و الكتابة  في الأرض .  أحلام عنائهِ،  تدفعه الى الدقة الدراسية،  الفلسفية،  الخالية من الزيادة الكلامية   بتركيزه على الحقِ و العدل. 

وجدته في بعض مقالاته عن صديقه سعدي الحديثي او عن الشاعر مظفر النواب  منصفاً ، عن علمٍ وعن درايةٍ بما يراه أو يرتمي أمامه .

يذهب الى الحقيقة بنفسهِ،

يلمسها بيديه ،

يقلّبها ، كما يفعل الطبيب مع المريض،

كي يجني فائدة شفاء ، حقيقية وعظيمة، لقرائه .

كانت غلّته في البحثِ وافيةً ،  وضعها في خدمةِ قرائه ، راغباً  ،   في تحمّل مسؤوليته، كعادتهِ،  في أن يكون قوله مفلوحاً او بحثه فالحاً،  بعد حرثٍ عميقٍ في قضيةٍ  يعطي فيها رأياً ، بحرية تامة وسلاسة أتم ،   ليكون كلامه الأدبي او الاجتماعي او السياسي ، حاملاً جدوى أدبية و اجتماعية و سياسية . ما وجدت الهنداوي   مولعاً بالكتابة السريعة، بل موهوباً بالدقة و التدقيق .  هذه الوهبة تجعله بغاية السرور  إذا نجح  في تغليب الروح الفلسفية  المبسطة على مقالاته.  ربما التبسيط  الفلسفي يشعره بوفرة رؤاه  العميقة .

هكذا رأى ، و ما زال يرى (الدنيا الشعرية) في مسيرةِ مظفر النواب ، المستمتعة بالخيرات الشعرية ، القائمة على افضل و أخير ما تستلزمه الفنون الشعرية النوّابية.  

إنها  إحدى صفات المقالة الهنداوية ، الدائمة الإشراق،   المثبتة صحتها العلمية  عمّا يكتبه  (الناقد)  حسين الهنداوي عن   (الشاعر) مظفر النواب وعن اسطورة (الريل وحمد) مطالباً، الدولة العراقية ، تكريم القصيدة و شاعرها   وهو على قيد الحياة   بنصبٍ فنيٍ  او بتشكيلة جدارية  في كرخ بغداد مسقط رأسه.

يتمتع الهنداوي بموهبةِ المرور الأدبي ،  الوافي، ذي السمة الفلسفية المختصرة  على البيئة الشعرية المظفرية، من خلال قدرته في استخراج  النمط التصويري في عاداتِ و رغباتِ (الشاعر)  و تفاعلاته المسبقة مع أناس الاهوارِ و مع المغنين و الشعراء الشعبيين من سكانها.   كما أورد  في انتقائيةِ بعض آراء مظفر النواب عن تأثره بالبيئة العراقية المتنوعة الاشكال و النشاطات :

دارت برأس الشاعر مظفر النواب ، محبة الأرياف الجنوبية ،

تمكّن في الصحراء الغربية.

حوّس في رواقِ المدن الشرقية .

ثم  جالَ  في الجبال و الوديان الشمالية.  

اعطتني قراءة إحدى المقالات الهنداوية  على الفيسبوك ..  في هذه المقالة ظهر ان الحبَ المهيمنَ على قلبِ الشاعر النوّاب هو حب الناس.  تشبّث مظفر النواب بمكانِ تجمّع الناس في الاهوار ، حيث توضّح لي و لكل قارئ ان علاقة الشاعر مظفر النواب مع الناس ، افراداً و جماعات،  انما أساسها ،  رغبة الشاعر في عمليةِ تحقيقِ ذاتهِ الواعية، بين المجموعات الإنسانية ، سواء بسواء ، في اثناء وجودهِ بالدراسة مع الطلاب و الطالبات،  في الكلية او في اثناء لقاءاته مع الناس ، الاصحاب و الخصوم.

مثل هذا (الجمع)  ليس موجة من موجات (الحاشية الشعرية) لأن عقلَ الجمع ،هنا ، ليس سعياً مخططاً للجمع المجرد ،

 بل اتباعاً لنهج القسطاس  و المساواة في داخلهِ،  بين الذات و المجموع. أي الحب الفطري المفترض للناس اجمعين.

هذا يعني ، اول ما يعني، ان رأي الهنداوي لم يأتِ مدوّناً  من (أخ الحاشية)،  كما قد يتهمه (أحدهم) من خصوم الشعر الشعبي المظفري  .

منذ بدء قراءتي الدقيقة لمجلةٍ ، تقدمية – يسارية ،   نسيتُ اسمها  في هذه اللحظة ، كان يصدرها الصحفي حسين الهنداوي في بعض سنواتِ وجودهِ الأولي في  باريس . حصلتُ على نسخةٍ منها بوقتِ صدورها في أوائل السبعينات في اثناء وجودي في العاصمة الأردنية .  كما وقع  تحت يدي نفس العدد بعد عشر سنوات ، هديةً، من صديقٍ بالقاهرة .  وجدته بجميع مقالاته  المؤيدة او المعارضة  لشيءٍ أو لحادثٍ أو لنظام سياسيٍ  أو لموقفٍ أيديولوجي  أو لشخصٍ أو لحزبٍ أو لجماعةٍ يخاصمها  ، فأنه يصنع كلامه على الحق و العدل و الخير.

هذا ما وجدته ،أيضاً،  بمقالاتهِ عن الانتخابات البرلمانية ، حين اصبح خبيراً انتخابياً بعد اختياره مسؤولاً ، حيادياً، منزّهاً،  في الانتخابات البرلمانية  في العراق  المستجد ، بعد عام 2003 .

كذلك   وجدته خير من حضر الى منصة الحوار حول شعر الريل و حمد ،  بما كتبه عن الشاعر مظفر النواب ، عن حياتهِ،  بتعبهِ و عنائهِ و سجنهِ و تعرضهِ لمخاطر العذاب و التعذيب و احكام الإعدام ، مما جعله يعاني من ثقلِ السلطات الحكومية ، الغاشمة ، حيث قاسى ظلمتها منذ بدء نضوجه الفكري – السياسي ، قبل نضوجه في الشعر الشعبي و في استمتاعه بكتابة أبيات قصيدة الريل .

جاءت احكام الباحث الهنداوي عن مظفر النواب بقوله في احدى مقالاته الشاملة بموقع الحوار المتمدن أيلول عام 2014   : (فالنواب، في عالمنا الخاص، رمز متفرد لكنه ملموس ويتحرك بيننا كل يوم تقريبا رغم ثقل الثمانين. بل يندر منا من لم يمر بـ "مرينه بيكم حمد" او "روحي" او "البنفسج" او لم يتقاطع معه في لحظة او اخرى عبر سجن او وقفة او قصيدة او لوحة او فرحة او بكاء قلب. وهذا منذ منتصف القرن العشرين ولحد الآن. فطوال هذه العقود المليئة بالانكسارات التي لم تعد تحصى والاعياد القليلة والمنعطفات الدائمة، لم يكف هذا الشاعر من الحضور بشكل او آخر في همومنا الوجدانية او السياسية او كليهما، وغيرهما ايضا، وبشكل حميم غالبا، ولو بين آونة واخرى متقاربة او بالأحرى متباعدة كما هو الامر في الغالب بسبب سعة ارض الله التي تشتت وتشتتنا فوقها والتشتت ضرب من القيد كما يعرف الهائمون.).

يمكنني القول، ببساطة،  أن من يتعرف الى الشاعر مظفر النواب ، عن قرب،  إنما يتعجّب، كثيراً،  مما يمكن أن يشاهده من صفات مكتسبة (ذاتياً) من (الجمع) .

هذا هو واقع أسباب وجود الهنداوي في حصن  النواب ،شاعر الريل ،المتجدد علوّه الشعري ، بتجدد العلو الفلسفي لدى الباحث القدير الدكتور حسين و ليس لأن الهنداوي محتشدٌ في حاشية النواب، كما يعتقد خصومهما .  

ربما (الجمع) ، هنا، صحيح ، تمام الصحة ، الاحتفاء بوجوده  إذا ما  شمل المقتربين من الشاعر مظفر النواب،   في مرحلة الدراسة و التدريس أو في مرحلة النضال و التبصر  بالثقافة الشعبية  أو في مرحلة الاحتفال بالأعياد و الاحزان الحسينية أو في مرحلةِ ما يتلقاه من كرمِ أصحابهِ و من رفاقِ دربهِ.  

هؤلاء كثيرون ، بالآلاف .

جميع من يغمضون عيونهم عن رؤية هذه الحقيقة هم منافقون من الدرجة الأولى . أو أن (أفكارهم الضيقة جداً) صدرتْ من نفاقِ منافقين لا يعرفون ان خطوات مظفر النواب ليست محاصرة .

اشعاره صارت علامة من علامات الثقة بالشعر و الشاعر ،

صارت عنده علامة تمقت كل أصحاب   المكائد ،  المناوئة لأشعار الريل و صاحبها. بعد ان تفشى داء التجديد بالوان الشعر الشعبي في المدن و القرى .

سأحاصر نفسي بالقول الأخير:  ان الشاعر مظفر النواب لا ختم عنده و لا مختوم له في جنب (الحاشية الشعرية) و أن عطاء الدكتور الهنداوي ممترس بالعلم النجيب و منحوت بالقدرة المعرفية الفائقة، المتحررة من الرغبة الانطوائية ، كما الحال في مشورات ( الحاشية الشعرية).   

هكذا تعاقبتْ معرفتي الصحيحة عن عناء و أهوال الحاشيات و الحواشي ، كافة . ربما اثمرتْ قصيدة (للريل و حمد) ثمرها المجزي ، بكل مكانٍ،  داخل العراق و خارجه،  استحقت تمجيد الأديب المناضل حسين الهنداوي.

ربما يصح القول  بأن الشاعر مظفر النواب عاش في ظروفٍ محاطةٍ بنوعٍ من أنواع ( الحاشية). نعم ، حقاً، كان محاطاً بـ(حاشية) المراقبة البوليسية  و القمع و النار، من توابع الأجهزة الأمنية الحكومية،  تتحيّن فرص اغتياله أو اعتقاله.  كانت أنظمة العراق ، بجميع انواعها ، قد جعلته معمّداً بحواشي النيران الحكومية،  شبيهاً  بوضع الشاعر التركي ناظم حكمت او يقترب من أوضاع الشاعر العراقي ،القديم ، محسن الكاظمي ، حيث لمْ يجمعا شملهما بيد من يدافع عن اية قضية من قضاياهما . أوضاع قضاياهما أجبرتهما على الهجرة الى مكان أكثر أمناً. كان مظفر النواب مثل ناظم حكمت و محسن الكاظمي يغتبط بالشعر وحده ، مثلما  كان سابقاه  يغتبطان بعمل الأشعار بأيديهم ،  من اجل الشعب ، كله . اغتبط ، هو ، أيضاً، بالهجرة ، إلى دمشق الشام.

في مرّة من المرات ، في أواخر ثمانينات القرن الماضي او بداية تسعيناته ، كنت جالساً في (مقهى الفينيق) الجميلة ، في عمان – الأردن،  الى جانب الشاعر عبد الوهاب البياتي . كان معنا الشاعر حسب الشيخ جعفر . استغربتُ، تلك الليلة،  من قلة عدد العراقيين الموجودين في المقهى ، خلاف ليالٍ سابقة .

سالت البياتي ، بحسن نية :

  • يبدو ان عدد الاتباع و الصحابة في الفينيق ، قليل جداً ، هذه الليلة.. هل السبب في البرد او المطر.. ..!

انتبهت الى ان سؤالي. لم يحمل مسرّة الى وجه الشاعر، البياتي،  لكن يبدو أن قلبه كان على خلافٍ مع علاماتِ وجههِ فقد كان مشغولاً بالبحثِ عن جوابٍ بعينين متألقتين .

أجاب  بنوعٍ من العصبية ، المختفية حول تعابير وجهه: 

- ليس بيننا صحابة ولا اتباع . انا لا اقبل ان يمشي خلفي تابع لأنني لست متبوعاً..  طوبى لمن يريد الصعود الى الفينيق.. يقترب منا و نقترب منه و نستقبله لأننا نريد ان نتعلّم منه او نعلّمه إن كان يطلب منا علوماً في الشعر و القصيدة .

كان مفعماً بالراحةِ و هو ينظر الى وجه الشاعر (حسب الشيخ جعفر) ، المستغرب من جوابٍ اكتشف فيه أنه يخفي نصاً من العصبية البياتية ،     الداخلية.

اعتذرتُ ، حالاً، عن سوءِ استخدام المفردة،  التي وددتُ ، راغباً ، فيها ،  السخرية من ليلةٍ شتائيةٍ،  منعزلة و مقرفة . 

البياتي تقبّـل  الاعتذار، بسرعةٍ و ابتسامةٍ  ،  بعد تدخل شعاعِ  ابتسامةٍ مضافة من الشاعر حسب الشيخ جعفر ،  مضيئا ،بها، قولاً بتزكيةِ مقصدي .

تذكرتُ ، طوال تلك الليلة ،  موقفاً مماثلاً مع الشاعر مظفر النواب ، حين كنّا قابعين في سجن الحلة المركزي.

قال (أحدهم) واصفاً  بعض محبي شعر النواب انهم من (حاشية النواب) بقصد التقليل من شأنه  و شاعريته ومن  شخصيته، أيضاً .

قال أحدهم  : (مظفر النواب يقعد ، دائماً، قعدة الشيخ ، فرحاناً أو غاضباً، حيث يطلق عنان الكلام السائب الى وجوه السجناء من اتباعهِ ، من  الخاضعين لآرائهِ.). ما وجدتُ مظفر النواب بأي يومٍ من الأيام بمظهر (شيخ حاشية) أو (شيخ ادبي)  ولا هو ينطلق بلهب كلام الشيوخ ،أصلا.  لا يمكن ان تجد غير الجمر الشعري في حديثة ، مرةً، و البرود الشعري ،مرة أخرى،  حسب نوع الخطاب و المخاطبة بقصائده .

كان هذا الفلان الفلاني رفيقاً حزبياً يؤمن بالسياسة اليمينية ( خط اب ١٩٦٤)  و هو لذلك لا يحب الجدل مع مظفر النواب ، بل يسيء إليه ، كلما جاء  ذكر اسمه على لسانه .  قلتُ  منذ ستينات القرن الماضي و اقول ، اليوم ، أيضاً، ان مظفر النواب كان و ما زال إنساناً متواضعاً جداً. ليس له من صفات الاتباع و الصحابة  اي اسم او اي شكل . كريم مع الجميع ، يحب الاصغاء لأحاديث الآخرين ، اكثر من حب الكلام معهم او اليهم . لا تسقط من فمه أية كلمة من دون معنى واضح . يجيد رواية الحديث ، المنقول عن شخصٍ آخر أو عن كتابٍ او عن جريدةٍ أو عن مقابلةٍ إذاعيةٍ او تلفزيونية. يختصر احاديثه، دائماً. لا يظهر نفسه عارفاً بأمور لا يعرف تفاصيلها . لا ينسى ان يذكر اسماء المشاركين بواقعةٍ يتحدّث عنها، من دون الطعن او الاساءة . لا يتمنى حدوث أي شرّ الى خصومه. لا يتمنى ، حتى شدة الحر او شدة البرد على خصومه من ( بعض) السجناء، الموجودين تحت تغيرات الاجواء و الطقوس المتغيرة . يتمنى للجميع ، اصحاباً و خصوماً، ان يرتدوا طيب الاثواب في أحسن الطقوس  و الأجواء. 

من الصعب ،جداً،  أن تسمع كلاماً منه  لا يبدأ بأدق اشكال التقدير و  الترحيب و الاحترام و التعبير عن الشوق و المحبة  . هذا النوع من الكلام و الاحترام ورد في أبيات قصيدته الشعبية ( الريل و حمد) حين اوفد ذاكرته الى  الانطلاق نحو اشعاع (الطفولة) وحركة (الطفّيرة) .. يدافع عن الصواب بأجمل ما في الصور الشعرية و مفرداتها.

افعاله  بالقصيدة الشعرية ، أولها في (الريل) لم  تخلو من  استفهاماتٍ عن وجع  ماضي حبيبة حمد وعن هوى حاضرها و عن روض مستقبلها. 

قال الدكتور حسين الهنداوي ذات مرة ، مختصراً الحالة الشعرية ، المظفرية ، كما في ادناه :

(ومع ذلك، تعرض شعر مظفر الى حصار قاسِ ومتواصل من قبل مؤرخي الشعر “الرسميين” في العراق والعالم العربي. فبرغم انحيازه العميق والجريء الى جانب الثورة الفلسطينية والثورات العربية اجمالا وشعبيته الهائلة، تجنب معظم نقاد الشعر العربي المعروفين دراسة شعره بشكل مناسب او حتى التطرق اليه اما خشية اغضاب نظام البعث العراقي المتحالفين معه احيانا او لأسباب ونزوات ذاتية او اخرى. وهكذا كان حال اولئك الذين هاجموا شعره بالفصحى على اساس قوة نزعة المباشرة فيه وبعض الشتائم، او اولئك الذين اعتبروا، كوجهة نظر نقدية، ان المجد الحقيقي لشاعرية مظفر النواب يكمن في “أرض أخرى: القصيدة العامية” اي في مرحلة تسبق وصول البعث الى السلطة في العراق.).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يتبع

عرض مقالات: