مظفر النواب ، شخصية نضالية، امتلك  نظرة عميقة الى واقع العصر ، في القرنين العشرين ، و الحادي و العشرين . كان من دعاة ( التغيير) ، تغيير عالم الفقراء ، داخلياً و خارجياً..  الكفاح ضد كل معتدٍ و اعتداءٍ وتأمين العيش الكريم للفرد و المجموع  و تجاوز معطيات الحياة العابرة و النضال من اجل مجموعة القيم الانسانية ، المضادة بأفكار  و مواقف كارل ماركس من الحياة .

سألته، ذات مرة،  لماذا اختار (الماركسية) دليلاً في حياته السياسية ،  اجابني:  أن هذه النظرية هي القادرة على تمكين الحياة و الطبيعة و الأخلاق أن تنحني، جميعها،  أمام الإنسان الباني لحضارته السامية ، تحت وظيفة العدالة الاجتماعية الكلية .

جاء مظفر النواب الى الحياة ، ليس مواطناً عراقياً ، اعتيادياً ، انما جاء ليبلغ  طلعة شبابه الواعي،  كائناً من ( كبار الناس) بامتلاكه قوة الذات الإبداعية و تحدّيه عالم التناقضات السياسية و الاجتماعية، جاهزاً للعمل الجماعي و مستعداً للتضحية بحياته من أجل جماعته،  التي بها يضمن تأمين الاحترام الشامل لوجوده الإنساني .  وسيلته الأولى كانت  الكتابة الشعرية ، التعبوية و التحليلية ، بخيال زاهٍ و قدرة خيالية في تبين  الموقف و الأسلوب في هذه الحياة . اختار في الحالين ، اعني في ( الموقف ) و في ( الأسلوب)، طرازاً احتجاجياً لكشف و اكتشاف  طبيعة حركة التقدم الإنساني الى امام . لم يذم الله لأنه خلقه في مكانٍ بائسٍ و في زمانٍ بائسٍ ..  كلاهما ، الزمان و المكان أخبراه أن أسفار حياته ستتلّون، بألوانٍ مختلفةٍ ، اغلب لياليها تنغيص الحياة و جميع نهاراتها لا تبتعد عن هابيل ، المقتول و لا عن دهر قابيل ، القاتل .   

كل شاعرٍ حق يكون شعره من دونِ خوفٍ  ، بصخبٍ او من دونِ صخبٍ ، لكنه يرجّ القاعة او ساحة الإنشاد و يزأر بها هادراً و هديراً .  تنطلق قصيدته ذات الزعانف لتهز قلوب و عقول قرّائها . ذلك الشاعر هو  مظفر النواب او تفجّر بموضعه او كما يمدّ دجلة ماء كثرته على جانبيه .  

لعل اهم ظاهرة عجيبة واجهتني بيوم قراء تي  قصيدة ( للريل و حمد)  كانت ردّة فعل حفزتني ان اجعل نفسي في خط النار ، بالكتابة عنها بشيءٍ كبيرٍ من  انطباعاتٍ انفعاليةٍ، قوية الانتعاش و التأييد ، من فرطِ شعوري بذكائِها و حساسيةِ مفرداتِها ونوعها التجريبي الجديد. تأصلتْ هذه القصيدة  بما حملته من تكنيك ذوقي عال  . كان ذلك قبل حوالي ٧٠ سنة . لكن شيطان الكتابة ما ألقى بي في بوتقة الكتابة عن بيئتها الانتقالية ذات  الجاذبية السيكولوجية – الفنية   إلّا اليوم فقد اكتملتْ عندي ، إلى حدٍ ما ،  فرصة التجهيز لمهارة القدرة الكتابية الملموسة.    

حين فكرتُ بالكتابة كان شكل و محتوى تعاسة الانسان العراقي مختلفاً عن واقعها الحالي ، بل يمكنني القول أن كل شيء قد تغيّر . معنى ذلك احتمالية تغيّر شكل و محتوى صوتي و نظرتي عن (الريل)  و عن (حمد) ، و عن قصيدة مظفر النواب ذاتها ، خاصة وأنها ، القصيدة ، كانت دليلاً لكثرةٍ من الشعراء الشعبيين لرفع  قصائدهم الى نفس مستوى هذه القصيدة ، او ربما كان رنينها يصدح في أوراق كتاباتهم ، او ربما ابتعد عنها آخرون من كتاب الشعر الشعبي  ، عن القصيدة الشعبية الجديدة ،  حين ضعفتْ عقولهم امام ضغوط    و همم تعليلات رجال دين و رجال تقاليد ليست عندهم قوة الصمود امام ترقية ابتكارٍ تجديديٍ ، متناغمٍ  يضمن سهولة (التغيير) و (التطور) في  الزمان الشعري ، النوّابي، الجديد بعد ان اقتحم الريل وحمد ، شعراء المدينة العراقية و اريافها ، وتماسكت اجتماعيا اغلب  قصائد الشعراء الشعبيين الشباب  . لكنني اعترف و اقول ،كثيراً، أنني ما خادعتُ نفسي بمحاولات الكتابة،  لكنني ما وجدتُ نفسي قادراً ، طيلة ٧٠ سنة ،  على الدخول الى مثل هذا النوع من الاستكشاف .  وجدتُ   أنني مرتهن ، بهذه المحاولة  و معها، حملتها و حملتني ، كل هذا الزمان الطويل ، مع كل شرور الحكام المتعاقبين على  دست الحكم العراقي و مع كل دفائن القوى المعادية قلوبهم لمظفر النواب و أشعاره ، الشعبية و الفصحى . حتى جاء يوم من ايام عام ١٩٩٦ حين التقينا مجموعة من العراقيين و الفلسطينيين ، بداري في منطقة الشميساني في العاصمة الأردنية  . كان بينهم الباحث  الدكتور سعدي الحديثي و الشاعر  عبد الوهاب البياتي و الناقد محمد الجزائري و ٣ رفاق من شباب حزب الشعب الفلسطيني و ثلاثة شباب من أقربائي ( عمار و علاء و سامر) و غيرهم . كما كان   الشاعر الفلسطيني ( وليد ابو بكر)  قد حضر بصحبة صديقه العراقي ( محمد الجزائري)  و غيرهم من أصدقاء آخرين لا تسعفني سفائن هموم الزمان من تذكرهم . لم تكن هناك أية قضية ، سياسية او ادبية او سياسية او غيرها خارج نطاق الكينونة الحوارية في  ذلك اللقاء ، كانت جلسة عشاء و سمر و موسيقى و غناء . حتى حان ، بالمصادفة ، وقت مجيء لحظاتٍ حواريةٍ حول مظفر النواب و أشعاره . كان العرض بادئاً بأحاديث الرفاق الفلسطينيين الثلاثة من أعضاء حزب الشعب الفلسطيني ، الذين سبق و ان تعهدوا بإقامة لقاء شعري - موسيقي يضم مظفر النواب و سعدي الحديثي في احد ملاعب كرة القدم بالعاصمة الاردنية ، عمان، بعد نجاح الندوة  الغنائية - الفردية ، التي أحياها الدكتور سعدي الحديثي في المعهد الملكي الأردني . لكن أصول محاولة شبان حزب الشعب قد تقطعت برفض السلطات الاردنية .  

كانت الأحاديث ، في تلك الليلة ، تتشعب باتجاهات عديدة . عن بلايا العراقيين في بلدهم او تلك التي تكفخ هامات الفقراء المقيمين بالأردن البعيدين  عن الأدب و السياسة عموماً. كان موج النقاش يهدر بين الجميع الى  ان وصل الكلام ، على لسان الشاعر الفلسطيني الضيف (وليد ابو بكر)  حين اراد ان يبرهن على فحولةٍ نقديةٍ،  شعريةٍ،  بإلقاء قصائد اشعار مظفر النواب في رحاب الهازم و المنهزم و رحاب تقسيم قصائده بين السيء بـ(أكثرها) و الجيد بـ(أقلها) حسب مراجعه التفاعلية الذاتية ،  حتى احتسب نفسه رجلا ً ماجداً قبل ان يختتم حديثه  بملخص القول: ( ان اعناق قصائد مظفر النواب الفصحى لا تصل الى مستوى الشعر) و (ان دنيا مظفر  الشعرية  تتوسل في الشعر  العامي فقط..). ثم طعن مشاعر الجالسين ،  من دون ان يدري ، حين قال : ( ان صوت مظفر النواب    غير مسموع الا عند القليل من  العراقيين الريفيين ) ..! .

شَعَرَ جميعُ الحاضرين ان الشاعر الفلسطيني وليد ابو بكر قام  بتهويل  بعض عباراته النقدية ، بقصد تصغير مكانة مظفر النواب الشعرية . لم يكن يتوقع ، هذا الصديق الفلسطيني ، ان يهب الرفاق الفلسطينيين الثلاثة  من أعضاء حزب الشعب ، واقفين - على حيلهم - مشيرين بنوع من عصبية الكلام الى باب البيت،  طالبين منه مغادرة المكان ، على الفور، أما  إذا رفض فأنهم سيغادرون المكان . كان الزئير يخرج من الهامات الفلسطينية الثلاثة باستنكار أقوال الشاعر الفلسطيني وليد ابو بكر ، عن شخصية مظفر النواب ، الذي يسمو ، بنظرهم و بأوصافهم الى مرتبة المناضل من اجل حقوق الشعب الفلسطيني برمته. لم تنفع محاولاتنا مع الرفاق الثلاثة و إصرارهم بمغادرة الشاعر وليد و  كان من فضائل تلك اللحظة إذعانه الى قرار الثلاثة المحبين لمظفر النواب و لشعره ففيهما يجدون خيراً للإنسانية الفلسطينية . هكذا زفّتْ ريح الشبان الثلاثة بسحبها و ترابها بالسيد وليد ابو بكر  الى خارج هذه الجلسة ، لانهم وجدوا قوله امواجاً بعيدة عن سفينة الشعرُ المظفري  و القصيدة النوّابية  . 

في مرات عديدة جلستُ حائراً،  امام اوراقي و افكاري ، حين كنتُ أفكّر بالكتابة عن دليلٍ من أدلة النبوغ الشاعري عمّا اكتشفته في نهج مظفر النواب  واحتراساته.   غرس مظفر نهجاً تجديدياً   احرق فيه عهود كتابة الشعر الشعبي . وجدتُ في عملية هذا الحرق ، منذ النظرة الاولى ، منذ القراءة الأولى،  ان هذا الشاعر ، بالذات ، يخفي دهراً جديداً من الشعر الشعبي ، المرتدي ثوب ( الريل و حمد ) . شربتُ مرارة  حيرة الكتابة  حين قرأتُ  ، قراءة ليست عابسة  بالرغم من ان مكان القراءة كان دامساً . قصيدته ( للريل و حمد) . كان ذلك في عام من أعوام  منتصف الستينات  في اثناء وجودي مع هذه القصيدة الشعبية ، ذاتها، و مع ناظمها ،  الشاعر مظفر النواب ، بمكان الحزن و الوجوم  في نقرة السلمان . كنتُ قد قرأتها  ، قبل ذلك الوقت ، مرات عديدة . صنتها و حرستها ،  كما تصان الأموال و الشواهد الثمينة . وجدتُ ان هذه القصيدة قد ارتفعتْ ، بنفسها، و بالشعر الشعبي،  الى ارفع منزلةٍ شعريةٍ فيها صناعة ماهرة و باهرة  تخلو ، تماماً، من اي شكل من أشكال ( التصنع الشعري) ، ليس في شاعرية مظفر النواب  اي نوع من أنواع تقليد الآخرين . بمعنى ان البراعة المظفرية كانت صادقة بولعها التام بالإبداع التجديدي

اجد من المسؤولية الأدبية ان أحدّد،  في ما يلي ، كتلة البناء الأساسية،  التي استخدمها الشاعر مظفر النواب في قصيدة الريل و حمد إذ قوّمها   على ذهنية  انعاش المؤثرات الحسية و تكثيفها التفاعلي ،  لدى القرّاء ، كما يلي :

اولاً : أبدأ بعنوان القصيدة .

لم  تكن كلمتا ( الريل و حمد)  مجرد ايراد اسمين مجردين (الريل) و (حمد)  و لم تكونا محاولة خدعة لقلوبِ قرّاء حائرين  او مضللين .. لم يكن  هذا العنوان الشعري  تقليداً، انما كان حُسناً من محاسن القصيدة  النوّابية الأولى . أوجد  لذّة السمع عن احدى وسائط النقل بين المدن العراقية . كان ( القطار) يوفرها بكل غضونها و اصولها  . يجد الناس في القطار (لذّة ) الانتقال به من البصرة الى بغداد او الناصرية او الى الديوانية او من بغداد الى الموصل و كركوك . تتوسع ( لذّة الانتقال بالقطار) اكثر و اكثر حين يسعف الحظ ، من دون تردد، عندما يتدبّر المسافر ركوب ( القطار)  الى تركيا و الى أوربا ، بحسب بعض  حظوظ المتمكنين برحلات أوروبية ، للدراسة الجامعية او للبعثات الدبلوماسية . كان كل مسافر الى لندن او الى باريس او فينا او برلين او غيرها يشعر انه انسان وهّاج مثل السندباد البحري ،  الذي كان يطل على الدنيا من ابواب الرحلات

لا شك ان مظفر النواب اراد من عنوان قصيدته ( للريل و حمد) أن يصبح ( خبيراً) ليس بمعنى ان يحمل اسماً  من اسماء الله ( الخبير )  ، لكن بمعنى اخبارنا بالأمر بصورة غير قابلة للتفسير او للتأويل ، اي انه (اخبر) قرّاءه  بحقيقة لم  يكونوا يعرفونها،   اي أتاهم  بنبأ جديد . كانت القصيدة من اول بيتها حتى اخر واحد فيها تحمل (أنباء) جديدة بمفردات جديدة،  استلّها من مزادته اللغوية الشعبية ،  الغزيرة . كاشفاً عن حالة من حالات (الحب الاليم ) التي خسرت فيها الحبيبة عهداً و أماناً من حبيب أعطاها عهداً و أماناً ،  بمصابٍ باطنٍ حَدَثَ بمقلوبِ حالٍ لا يراه الناس وفاءً لعهد و أمان .

ثانياً : الاستبدال ..

الاحتمال الكبير ان الشاعر مظفر النواب استبدل كلمة  ( القطار)  العربية بكلمة اخرى ليست عربية هي ( الريل) لشيء من الإثارة فيها و لأن دهرها ركب اعمار الناس الصابرين على ضيم الاحتلال البريطاني ، كلّه . خَبَطَ الشاعر مظفر النواب خياله ليكشف ( آلام) كلمة (الريل ) و ظلمها . أنعمتْ هذه الكلمة على القرّاء بصدمة الانتباه الى استخدام كلمة ( الريل) و هي  ليست عربية في الشعر الشعبي العربي  ، لكن القصيدة جعلتها حجّة ذكية من حجج التجديد المظفري صارت حجة (الريل)  بعد 70 عاماً من وقوعها ، تتجوّل في عديدِ اللقاءات التلفزيونية،  المحنكة و غير المحنكة ، التي يقوم بها ، بهذا الزمان ، برنامجيون ، تلفزيونيون،  للتعرّف على طقوسية العاشقيْن المنتسبيْن للريل و حمد ،بقصد تقييم القصيدة و ترويجها وشرح تفاصيل جبريتها بعالمٍ حقيقيٍ،  ليس عشائرياً و لا طائفياً و لا معادلاً لشيءٍ مفقودٍ من الانتماء الى ثقافة اجتماعية ، ليست مكتملة ، بالمجتمع العراقي .

ثالثاً: ثبات المرأة..

جرى التأكيد في  مطلع القصيدة عن ثبات المرأة في حبها وهي في ( قطار الليل) و هو   بكل الحالات ليس قطار السرور او قطار اليوتوبيا ، بل هو  ( قطار الهموم ) يدمج وظيفة طقطقاته مع تفكير الراكب و رهبانيته و أحلامه بالترف و حسابات الصراع الضحل في تفاؤله و الأسطوري في تشاؤمه مع الاستهلاك اليومي ،  المترف او الزاهد ، بمعظم المدن و الأرياف العراقية ، في اطار الكفاح اليومي الصعب ، للإنسان العراقي ، من اجل (البقاء للأصلح)  و مقاومة الوقت العصيب .  إنه قطار  من نوع  لا يغتفر عن ذنوبه و لا يعتذر لأية عاشقة ولهانة تسيّرها عيوب الزمان . بينما تنظر اليه المرأة بمعزف المتعة و الهوى في المرور بــ(غطار  الليل) بثنائيةِ  احساسٍ لا تضيع على كل عراقي او عراقية من وارثي حسرات العشق . إنها ثنائية فولكلورية عراقية متنافسة و متوازنة ، ثنائية سماع ( دكَ الكهوة) و ( شم رائحة الهيل)، اجمل ثنائية بالريف العراقي ، خالية من العيوب و الآفات  . 

رابعاً:     تكرار اللازمة ..

كانت كلمات القصيدة مبنية على اللازمة المتكررة ( هودر هواهم .. ولَك .. حدر السنابل كَطة) . كلمة هودر في هذه اللازمة تشير بوضوح الى المغالبة و العناء ، انطلق بها الشاعر الى كربة الهموم المتسربة الى قلوب الحبايب ، الذين يعشقون بعضهم بعضاً  . كل كلمة من الكلمات الست ، بهذه اللازمة ، تحمل طاقةً منعشةً بالسماعِ الانفعالي ،  المعبر بذكاء ، عن عميقِ ما في آفة الحب من قوة حاسمة و مهارة تكتيكية  قوية .  هنا ، اختار مظفر النواب طريقةً حسيةً، تعبيرية،  فائقة ، جاذبة ، الى خيرٍ ، مسرّته موجودة و ناطقة ، تحت سنابل الارض . ان مظفر النواب بلازمته الشعرية ، كشف وفاء المرأة العاشقة لحياة من تحب من خلال ارضاء من تحب

خامساً : العجب و الاعجاب..

ربما كان الكثير من ( مفردات) القصيدة يثير (عجب القرّاء) بنفس القدر مما وقع عندي من اعجاب في اعلى درجات المتعة الشعربة  . أراد  مظفر  ان ينحت من قصيدته ( تمثالاً) رمزياً من تماثيل العشق الانساني ، في العراق الحديث . كان قد اختار معوله النحتي بالشكل الدلالي  و المعنوي داخل او حوالي كل  (مفردة شعبية ) من مفردات  القصيدة ،  المتميزة بمعانيها الفطرية او الدلالية . بصراحة تامة اقول  ان رياح القصيدة قد اعجبتني  ، مثلما أعجبتْ آلاف الشبان و الناس المولعين بقصائد العشاق ، التي تعبر عن معنى خاص ، و تكشف  عن ذكاء الشعر العراقي و نهوض عقلانيته الفلسفية على وفقِ  نهجِ مظفريٍ خاص .  ربما كان في هذا النهج   (أمرأً )  موجهاً إلى شعراء آخرين بعد قصيدة الريل و حمد باتباع نهجها،  لرفع كمال الشعر الشعبي و الفصيح ، أيضاً ، في الزمان اللاحق .

نعم .. أقنعتني القصيدة المظفرية  بمذاهبها ، منذ اول يوم  رؤيتي ابياتها متزينةً  بعظمة معانيها و انا أواجه شعوراً غامضاً ، غلب عليه (الخير ) الذي سيؤدي ، بكل تأكيد و يقين ،  الى عملٍ شعريٍ ، شعبيٍ ، وجيهٍ ، و بصيرٍ  ،  خلال قراءتي الاولى في عام ١٩٦٠ كأنما كنتُ  راكباً على عفةِ حصانٍ اضطربَ خوفاً من الوقوع الى تحت و انا استجد بإشعار جديدة (النظر  ) و ( الشعور ) و ( الاثواب ) ما وجدتها لدى جلال الدين الرومي و لا عند ابي العلاء المعري ، الشاعرين المحبوبين ، خفيةً ، بذاكرتي ، و لا عند المتنبي ، الذي كانت ابواب معاني قصائده مغلقة امامي،   لصعوبة مفرداتها و فروضها العقائدية  .  تجاوز الشاعر مظفر النواب (حدود) المهام الإبداعية ، المتاحة من خلال نموذج صياغة لغوية عالية التاهيل و الحركية في التقريب بين علاقتين، إذ حقق تناغماً عظيماً بين اللهجات الفراتية و الجنوبية لإيجاد مفاهيم لغوية واحدة ،معتبرة،  عند أهالي مساحة، جغرافية، عراقية،  واسعة .  كما سجل في اللغة الموسيقية  لهذه القصيدة، تطبيقاً شمل قدراً غير قليل من التصميم اللغوي، المقرّب بين المفردتين ، العامية و الفصحى  .. لقد قلب  أنماط إنتاجية صناعة الشعر  العراقي ، بقصيدته،  المعتمدة على نظامٍ شعريٍ متفوقٍ     .

لعل زمان اختفائي  في لواء الناصرية عام ١٩٦٠ -١٩٦١ حيث اناط الحزب الشيوعي بي مسؤولية قيادة اللجنة المحلية  في الناصرية . كنت هارباً  من عنف السلطة البوليسية بمدينتي ، البصرة . قرأت القصيدة القادمة على ظهر مجلة ثقافية بغدادية  ،   و هي مجلة من بنات عم  ثقافة  الحزب الشيوعي العراقي ، الذي تفرغتُ للعمل ، سراً، بخلاياه  في  مدينة الناصرية . كان انحيازي لتلك القصيدة من دون إفاضة بأسئلة تبدأ بكلمات لماذا و كيف و ما معنى ..؟! و غير ذلك من الأسئلة الأخرى . غارتْ القصيدة في نفسي حال قراءتها . تبرّج عجبي   عن سبب وجود فيض عواطف الشاعر النواب حيث أعجبته ، أيما أعجاب،  قصة المرأة ذات اللوعة بطرف القصة ، الاول. ها هو مظفر يقول ، او انه ادرك ضرورة الصيحة العالية : (   يا ريل بلله بغنج من تجزي بام  شامات .. لا تمشي مشية هجر كلبي بعد ما مات.). اي كلام شعري - شعبي هذا..؟

 لم يكن  كلام القصيدة مجرد كلاماً بجانب كلام ، بل هو كلام فوق كلام و من تحته كلام . هكذا كان ظمأ القصيدة لا يشبع و حواس شاعرها لم تبلغ حدود نهاية القصيدة . ظل خيال شاعرها يتدفق  بما حمله و يحمله قلب العاشق من وادٍ خصيبٍ متأهبٍ لاستقبال و احتضان الفرح او  استقبال صدى فرح قديم .  هنا أشير الى جمالية المقالة التي كتبها الشاعر الجمالي ، الشعبي ،  ( ريسان الخزعلي)  ، الذي استحق – بنظري -  درجة النجاح العليا في امتحان مقالته المنشورة في جريدة طريق الشعب  في ٢ نوفمبر عام ٢٠١٨ عن قصيدة ( الريل و حمد ) حين دقّق و أبصر  أهم مزايا ،شاعرية مظفر النواب،  بسطورِ التناسب الهندسي في نبضات  قصيدة شعبية واحدة،  اخترعت لأحفاد البابليين عقلاً شعرياً جديداً ، لصبغ حياة الناس بصبغة المدنية المعاصرة ، خاصة و ان ناظم القصيدة كان حذراً جداً من الوقوع في محاباة الفلسفات الشعرية غير الأصيلة  . وجد الشاعر الخزعلي ان المصنوع المظفري قد اختصر الوقت و الأساليب امام الأجيال الشعرية القادمة

هنا في هذا البيت الشعري القصير جعل القاريء  مع الشاعر - الناقد ريسان الخزعلي ، واثباً من على كرسيه بشيء كثير من  هدى  و رشد . كأن ناّابي ئماً آفاق على صوتٍ حادٍ لا يريد ان يرثى  قلبَ  عاشقٍ لم يمتْ،  بعد . رسم الخزعلي بمقالته  صورة تؤكد ( بقاء النوع) الانساني الأفضل ، من العشاق و المحبين .

البيت الشعري النوّابي غطّى  على سمع القارئ و بصره،  بتلك النفقة الشعرية الصادرة من العمق القلبي المسحور بالإخلاص  . لَهَجَ مظفر النواب بعبارتين حملتْ جوانحهما نوعاً من الشوق العاطفي العالي في اللفظ و المعنى، من خلال لوعة الرجاء الى القطار ان يحن و يشفق بما وهب من كلمات من  مثل كلمة (تجزي ) و هي كلمة جنوبية - فراتية  بمعنى ( تَمرّ) تجنب الشاعر استخدامها حتى لا يتكرر  قول ( المرور) اذ ربما يحدث  (ضرراً سمعياً ) على جمالية استهلال القصيدة ب ( مرينة ... بيكم حمد ..)  . كما ان مجيء  مصطلح  ( مشية هجر) كان فيه رزق  و ملائمة لفظية بين الفصاحة و العامية. حيث صار هذا البيت الشعري حاملاً ( طلباً) عميقاً،  منتظراً (جواباً) عميقاً حتى لو كان ارتجافاً قلبياً ، مجرداً و شديداً ، لان قلب العاشقة لم يمتْ ، بعدُ.  رغم ان العشق ، بطبع العشاق ، يخشى الرفق و السلاسة إذ المعروف عنه واقعه ، بشواهدِ شواظهِ الاليمة ،  اللاذعة  ، خاصة في حالة الفراق  المُبهم في حقيقته،  حين ينتاب العاشق او العاشقة شوق يخمد ، مرة ، و يفور مرة اخرى ، مما يحرم العاشق او العاشقة هناءة النفس و راحتها . ربما اراد الشاعر النواب ان يقول بأولى قصائده الشعبية : لن تظل المرأة العراقية مستعبدة ، و لن يظل الشعب العراقي مستعبداً اذا عرفتْ المرأة العراقية طريقها الى نيل الحرية . مثلما كان الزعيم الهندي غاندي يملك معجزة (الحرية)  الخالدة في بلاد الهند العظيمة و قد حققها بنقلها الى اعلى و أعمق من جبال هيمالايا و إلى  جميع سكانها .   

٥ - جاءت العبارة الشعرية  ، التالية، محرومة من الابتسام لأن زمان العشق صبّ على المرأة العاشقة ،  مصاولةً قاسيةً جداً ، تتلخص بقول مظفر النواب :( جيزي المحطة بحزن وونين يفراكين..  ما ونسونه بعشقهم عيب تتونسين . .. يا ريل جيم حزن أهل الهوى امجيمين . ).  ما اراد مظفر النواب آلوقوف امام وثنية اللغة العامية و هي منظومة لغوية شمولية بين الناس من سكان القرى و الارياف ، على وجه التحديد. انما تحول قلم مظفر النواب الى دعامة( التكنوقراطيا) ،  كي يقدم لغةً اخرى ، عاجلةً،   ليست وثنية. اراد ان يكون شعره خفّاقاً،  فيه ادانة للظلم البشري ، لكنه ، بنفس الوقت ، حاملاً قيمة عليا،  على ضوء القوة الزمنية ، الاخلاقية ،  القادمة الى القرن العشرين من قرون سقراط و أفلاطون و ابن خلدون . حيث الثورة الحقيقية هي ثورة ثقافية ، اخلاقية ، اجتماعية ، تزعزع جميع ما هو ليس فضيلة إنسانية

اختار  مظفر النواب ، مرةً اخرى ، كلمة ( جيزي) بدلاً من كلمة ( مرّي) . الاولى خشنة يتضح فيها فعل الامر واضحاً بالصوت الاقوى من كلمة ( مرّي) التي ليس فيها نفس مكمن انتفاضة الغضب في حديث الأنين مع (عربات) القطار ، حين وجد ان من الخير تسميتها بروحها الشعبية السارية ( فراكَين) و هي جمع  مفردة (فاركون( الأجنبية باللهجة العامية ، التي هي واجمة بدون ترجمة ( fargon) عن اصل كلمة ( عربة) باللغة الانكليزية ، وهي الكلمة الأكثر شعبية و استخداماً من الكلمة العربية، في تلك الفترة من فترات تطور الحديث باللهجات المحلية  . بذلك احس الشاعر النواب باستراحة ( أهل الهوى) الذين ينطلق من صدورهم أنين الأحزان  .

من هذا المنطلق، أرى  خيالاً معلوماتياً – تكنوقراطياً  آخر في المشهد الشعري لقصيدة الريل و حمد  و هو ان انفراد الشاعر مظفر النواب بالمصنوع في شعره الشعبي بشرف قصيدة (الريل و حمد ) كان قد قدّم مثالاً واضحاً على موهبته الخالدة في عالم البناء الشعري - الشعبي. حيث حوّل ( الفطرة الشعرية) إلى (طاقةٍ فكرية)  . بمعنى ان طاقته الفكرية  كانت اختراعاً انسانياً ،  من اختراعات مجهوده الذاتي،   مبعداً  نفسه عن (التقليد) و عن جميع شوائب الصنعة الشعرية ، الفنية ، التقليدية ،  مؤكداً ، بذلك ،  ان الدنيا تكشف ، دائماً ، عن جمالها ، عن طريق الضرورة . كذلك فأن مظفر الشاعر ، من وجهة (نظر) و (فعل ) مظفر النوّاب ، نفسه،  خلق مقياساً مهماً في العلاقة بين الشاعر و الدولة . الشاعر على وفق نظر النوّاب لا يحتاج الى  الدولة و مقاييسها للاعتراف به ، بل ان مقياس القيم الاساسية يقوم على ابداع الشاعر ، نفسه ، و تجديده للمطروح الشعري . التجديد الشعري الحقيقي لا سلطان عليه غير سلطان الشاعر الفذ. لا شك ان القول الصحيح ان الدولة العراقية في كل مراحلها لم تعترف بالأدباء العراقيين الحقيقيين من امثال مظفر النواب و محسن الكاظمي و معروف الرصافي و سعدي يوسف و محمد مهدي الجواهري و عبد الوهاب البياتي ومئات غيرهم . بل انها اعترفت بأقل من هؤلاء عطاءً او مزيةً شعريةً او سمعةً وطنيةً او نضاليةً  و منحتهم ، بجميع العهود ، ايضاً ، خاصة في عهد الدكتاتور صدام حسين مكاسب معيشية ضخمة  بإغداق الأموال و الألقاب عليهم  و غيرها لأن شعرهم كُرّس  لمرضاة كبرياء (الدولة العراقية)  او السير وراء سياسة الحكومة  بمنتهى التبعية  ..

عرض مقالات: