كان لا بد من مناسبة يندفع فيها الأصدقاء نحو مغامرة من احاديث متنوعة في السياسة  او في الثقافة او في الفنون وغيرها . المناسبة هبطت علي من خلال الزيارة الاخيرة ، تموز - أب عام ٢٠١٩ قام بها الفنان المسرحي الدكتور احمد شرجي الى البلاد الهولندية . زارني في بيتي ثلاث مرات صحبة الصديق الفنان التشكيلي فاضل نعمة وثانية صحبة الشاعر حميد حداد . واُخرى مشتركة مع أصدقاء اخرين. في الزيارة الاولى أهداني كتاباً مخلوقاً بقلمه و فكره عنوانه : ( ثقافة العرض المسرحي)  . تضمن الكتاب اهداءً بكلامٍ ، عفوي ،  مرتجل دفعني الى قراءة الكتاب ، بدقة، بهدف استعراض محتوياته بإيجاز و تكثيف تأمين اطّلاع القراء ، بالرغم من أهمية محتويات الكتاب ، في هذا الزمان المعتم من الناحية المسرحية مثل كثير من  عتمة مؤسفة تحيط بالثقافة العراقية بصورة عامة . 

سرّني الحصول على مثل هذا الكتاب،  الذي كانت صحبتي معه لمدة تجاوزت يومين كاملين،  تثبتتْ ،  خلالهما ، بمخيلتي منافع عديدة ، كان في أولها ان النشاط الفكري المسرحي،  الذي يقوم به الفنان الدكتور احمد شرجي لتقديم ثقافته و تجاربه الى جميع الممثلين و المخرجين  المسرحيين بكشف و اكتشاف اسرار نجاح العروض المسرحية اذا ما اطلق الجميع جهودهم للظفر بأساليب التقدم المسرحي في بلادنا،  خاصة في زمان صار فيه نصيب كبير من (الركود) في المسرح العراقي،  منذ أن طابتْ  نفوسُ الكثير من المسرحيين العراقيين ، الى ما يسمى بــ(المسرح التجاري)  الهابط، فكرياً و فنياً،  منذ ثمانينات و تسعينات القرن الماضي.

الكتاب المُهدى إلى مكتبتي  صادر عن دار نشر عراقية اسمها (دار و مكتبة عدنان للطباعة و النشر و التوزيع ) يضم 290 صفحة من الحجم المتوسط ، مقسمة في  اربعة فصول،  تغلبتْ على نقصٍ كبيرٍ  في الثقافة المسرحية العراقية . الكتاب لم يكتف بالتبرم من النقص الثقافي في المسرح العراقي ، كما يفعل الكثير من الفنانين المتبرمين،  لأن المؤلف احمد شرجي شرع في ملء كتابه بأربعة فصول غنية بمعانيها النظرية و التطبيقية لمساعدة مستقبل (المنصة المسرحية العراقية ) على النهوض الفعلي والتخلص من ثقل الأحجار المؤثرة على حركة المسرح العراقي المعاصرة بالمجاهدة الفنية العميقة ،  كي تلحق بحركات   منصات المسرح العالمي .  اصبح سروري عظيما حين وجدت الدكتور المسرحي احمد شرجي يزداد  حرصاً على رفد المكتبة المسرحية العراقية و يبذر فيها بما يغني دهرها الجديد و مستقبلها المنتظر و  ليحط بعلم مسرحي واسع  لتفسير غوامض  المسرح لمداواة امراضه.  هذا هو خير الاعمال حين ابتغى في تقديم الحاجات المسرحية النظرية و العلمية في مؤلفاته السابقة مثل (سيميولوجيا المسرح)  و( سيميولوجيا الممثل)  و كتاب (المسرح العربي من الاستعارة إلى التقليد) و غيرها من الأبحاث العلمية الجادة .

   كان المؤلف يتحدث بكل صفحة من صفحات كتابه الجديد و مجموعة كتبه السابقة  عن شمس الضرورة المضيئة ،  التي ينبغي عليها ان تضيء المنصة  المسرحية العراقية و انقاذها من كثير من حالات  الارتجال الابدي الملازم لها  منذ زمان طويل . 

استخدم مؤلف هذا الكتاب اسلوباً جديداً وانجازاً تصميمياً قديماً ، بهدف معالجة طبيعة المنصة المسرحية العراقية غير الطبيعية ، خصوصاً في المراحل الاخيرة من تطورها بعد صيرورة المنصة التلفزيونية  هي الاقدر على الفلاح و النجاح بعلاقتها مع جمهور المشاهدين. اي بعد خلود القوة الرأسمالية في إنتاجات ( المنصة المسرحية ) من خلال القدرة على  المشاهدة الاوسع جماهيرياً. يمكن ، هنا، استذكار زمان مسرحيات  ( مدرسة المشاغبين) و ( شاهد مشافش حاجة) و ( الزعيم)  وغيرها الكثير. شاهدها على ( المنصة المسرحية ) آلاف المشاهدين، لكن نقلها الى ( المنصة التلفزيونية) جعل مشاهدتها بغاية السهولة من قبل ملايين المشاهدين . كما ان ( المنصة التلفزيونية) جعلتها خالدة الى الأبد لأن ( ثقافة العرض المسرحي) كانت متوفرة في خلفية العرض  و في اوارها على خشبة المسرح ، مما جعل  وجودها و تحولها  الى ثقافة العرض التلفزيوني أمراً لا يحتاج الى تجديدات جذرية . 

في العراق ما زالت ثقافة العرض المسرحي لم تتحول  ، بعد ، الى وظيفة أساسية للتمثيل على المنصة المسرحية . اغلب (علامات ) العرض المسرحي العراقي جعلت المخرج المسرحي العراقي، في الغالب ، ايضاً، يركز بها ، على علامة رئيسية أساسية يستهدي بها ، بعد إمعان النظر و التفكير فيها ، هي العلامة المتعلقة بمحتوى ( النص المسرحي) من دون افتراض العناية الإخراجية باختيار و تدقيق العلامات المسرحية الاخرى المفعمة بالروح و الصورة و الحركة . علامات عديدة تتعلق بالديكور و الأزياء و الضوء و الموسيقى و اُسلوب الالقاء الصحيح من قبل الممثلين و غير ذلك من الملامح المعززة لقوة العرض المسرحي ، الذي يمكن لأية نقطة ضعف واحدة ان تستنزف مجموع العرض المسرحي. 

وجدتُ في كتاب الدكتور احمد شرجي اهتماماً ، عملياً ، مركزياً ، بـ(العلامات المسرحية)   في مجموع فصول الكتاب ، خصوصاً على أسس دراسته لبعض تجارب المنصة المسرحية الهولندية ، بالفصل الرابع من الكتاب ، حيث أوجد الرابطة البرختية بين ( العلامات ) و ( الوسط  المحيط) باعتبار ان ( العلامات ) لها أسباب اجتماعية في صيرورة ( النص المسرحي) كما لها نتائج  اجتماعية مهمة   في عملية التأثير على ثقافة المشاهدين  .اتذكر في هذه اللحظة انني شاهدت و احسست (حريقاً ..!)  كاد ان يكون حقيقيا امام ناضري ، على منصة العرض المسرحي ،  كما شممت رائحة الدخان في مسرحية حضرتها في برلين الشرقية عام 1979 عند عرض مسرحية برخت ( دائرة الطباشير القوقازية) التي كان عرضها الأول قد جرى عام 1949 . في العرض الأخير  كانت (العلامات ) متكاملة و مؤثرة على المشاهد بما يرى و يسمع و يشم ، مشدوداً ،بقوة ، الى مقاصد المنصة المسرحية البرختية ، حيث وجدت بعض العلوم التكنولوجية فلقتها بهذه المسرحية  . ترى ماذا سيكون شكل تجديد علامات العرض المسرحي في المستقبل مع التطور العلمي الخارق في العصر الحديث وما هو دور العقل الكومبيوتري والامكانيات  المتوقعة في تطور علامات العرض المسرحي املا من الباحث الدكتور احمد شرجي ان يسترضي المسرحيين العراقيين و العرب ببحث جديد عما يلتمسه او يتوقعه من حاجات التطور المسرحي ، خاصة و ان الميدان السينمائي امتاز منذ وقت بعيد بخوارق العلوم الكومبيوترية على عروضه ..؟

ذات مرة طلب مني الصديق المصري ، الفنان الراحل احمد زكي ، بعض التسجيلات على الكاسيت لمسرحيات عراقية كان يريد ان يتأمل أساليب العرض المسرحي  العراقي و علاماته. زودته بثلاثة كاسيتات، حسبما اتذكر . اخبرني  بعد مشاهداته لها انه وجد نفسه في غابة ظلماء لم يجد فيها نصوصاً مفهومة ولا ابطالاً مألوفين بسبب رئيسي هو انعدام التكامل في علامات العرض المسرحية و التصوير التلفزيوني . لم تكن طريقة التسجيل التلفزيوني للمسرحية العراقية  متكاملة ، حيث خلتْ  علامات العرض التلفزيوني من تجسيد مشاعر ابطال المسرحية و من تجسيد مفاهيم المسرحية،  التي أراد مؤلفها و مخرجها إيصالها الى جمهور المشاهدين و من خلالهم الى المجتمع العراقي ، كي يحفز الناس على المساهمة و المشاركة بتغيير حياتهم من الأسوأ إلى الاحسن . 

تكوين المنصة المسرحية بعلاماتها المتكاملة و الاصولية و ضعها الكاتب الألماني برتولولد برخت ، نظرياً و تجريبياً . كذلك جاءت في اعمال الكاتب النرويجي هنريك إبسن  و جميع الذين تعلموا او علموا غيرهم بتجريبهم الشكسبيري .  كما وضع الناقلون التلفزيون في بريطانيا و فرنسا و أمريكا و غيرها أسساً علاماتية لنقل و عرض المسرحيات على الشاشة التلفزيونية وأوجدوا صياغات خصوصية في التصوير و العرض التلفزيونيين  بتكوين فني يختلف اختلافاً جوهرياً عما ينعكس بنتائج كل شكل من أشكال تصوير العرض المسرحي ، الذي نشاهد بعضه، نحن العراقيين  المغتربين ، حيث تقدم لنا اكثر القنوات الفضائية التلفزيونية العراقية بعض العروض المسرحية ، التي لا يمكن مقاومة تصويرها السيء،  حيث مخرجها التلفزيوني لم يلتزم أدنى التزام بشروط العرض الفني  في تنفيذ العملية الإخراجية . يتعين علينا ، نحن المشاهدين،  ان نشارك المخرج التلفزيوني  للأعمال المسرحية العراقية خلال الفترة ما بعد عام ٢٠٠٣ ان جميع ما يتم تسجيله و نقله لا يمكن ان يقال عنه انه متطابق مع العصر الفني فقد  بلغ في العالم مستوى عال بمشاركة ابداعية من تكامل علامات العرض المسرحي ، كما أشار الى ذلك الدكتور احمد شرجي في كتابه . 

قدم الدكتور احمد شرجي في كتابه مجموعة مهارات فنية تتعلق بإخراجية العمل المسرحي لكي يستجيب كل مطّلع مختص عليها لأهم الواجبات و المتطلبات  المتعلقة بالعرض المسرحي. 

ان فصول كتابه الأربعة قدمت و تقدم شكلاً من أشكال التخلص من نواقص قد تظهر على خشبة المسرح العراقي المعاصر ، اعني ما وضعه من نتائج تحليلية أولية في كتابه الجديد للارتقاء بالمستوى المهني ، المحترف ، في العمل المسرحي. أشار بوضوح تام الى معاينة تجارب مسرحية هولندية تحررت  من الصعوبات المسرحية التطبيقية المختفية وراء ستار لا يمكن ان تظهر للعيان الا بزيادة الوعي المسرحي و ضرورة الابتسام الدائم امام اعتبار دور الممثل المسرحي ليس مجرد عملية ميكانيكية ، بل هي من ادق العمليات الانسانية في العملية الثقافية المسرحية . يؤكد الكتاب المؤلف من التجريبي المسرحي الدكتور احمد شرجي و يلخص حقيقة ان الفن يخاطب الوجود الإنساني ، متأثراً به و مؤثراً عليه . 

أفكار مصيبة جذابة في هذا الكتاب املاً من جميع المسرحيين العراقيين الاستفادة الواعية من ثمارها  .   

ـــــــــــــــــــــــــــــ 

بصرة لاهاي في 20 / 9 / 2019

عرض مقالات: