لا شك ان المقارنة بين نتاج اي شاعرين سواء كانا يكتبان باللغة العربية الفصحى او اللغة العامية الدارجة لن يكون امرا هينا وميسورا لا سيما اذا كان من نسعى لعقد المقارنة بين نتاجيهما الشعري ينتميان الى نفس الجيل ويتأثران بذات الثقافة , ولعل المقارنة بين شاعرين عملاقين بحجم الراحلين كاظم اسماعيل الكاطع وعريان السيد خلف الذي غادرنا مؤخرا خير مثال على تلك المقارنة التي نسعى لخوض غمارها في هذا المورد فقد ولد الراحل عريان السيد خلف في بدايات عقد الاربعينيات من القرن الفائت بينما ولد الكاطع في نهاية ذلك العقد وقد انحدر كل منهما من طبقة فلاحية الا ان عريان السيد خلف ولد في محافظة الناصرية قلعة سكر اما الكاطع فكانت ولادته في العاصمة بغداد عام 1950 تحديدا .
الثقافة الماركسية قد اثرت في الشاعرين كليهما بشكل مباشر حيث كانت هي الرائدة والسائدة وقد حمل لواءها اليسار العراقي المتمثل بالحزب الشيوعي العراقي ابان عقود الخمسينيات والستينيات من القرن الفائت وقد سبق عريان السيد خلف الكاطع في احترافه للشعر بسنوات قلائل حيث تعود قصائده لبداية الستينيات بينما تعود قصائد الاخير الى نهاية ذلك العقد الشاعر الكبير مظفر النواب كان يمثل ذلك المعطف الذي تخرج منه الشاعران كما يؤكد عريان السيد خلف في عدة احاديث متلفزة فالنواب يشكل مدرسة شعرية حديثة قبالة تلك المدرسة القديمة التي كان يمثلها عدد من الشعراء القدامى امثال زاير الدويج وابو معيشي وعبود غفلة كما يذهب السيد خلف وهو يستبعد وجود اي مدارس شعرية اخرى غير تلك المدرستين فالمدرسة من وجهة نظره هو ان تأتي بشيء لم يكن معروفا او مألوفا في النظم والطرح وتناول القضايا الشعرية وهو رأي سديد وقول فصل ينم عن ثقافته الشعرية الواسعة.
عمل الراحل عريان السيد خلف في مجال الصحافة حاصلا على شهادة الدبلوم كما عمل في مجال الاذاعة والتلفزيون اما الكاطع فقد تخرج من الجامعة المستنصرية كلية الاداب قسم اللغة الانكليزية عام 1974 حاصلا على شهادة الماجستير في الادب الانكليزي من احدى الجامعات الهندية اشترك الشاعران بطبع مجاميع شعرية كما اشتركا بذات المواقف السياسية التي تمثلت في رفضهما لممارسات البعث التعسفية لا سيما وان كليهما محسوب على الحزب الشيوعي ثقافة وادبا.
بواكير السيد عريان الشعرية كانت بين يدي النواب الكبير اما الكاطع فكانت بواكيره مع قصيدة (رسالة أم) عام 1967 وهي قصيدة عن لسان حال ام تخاطب ولدها وهو يقبع داخل السجن حيث يتجمع الشيوعيون من كل حدب وصوب بسبب مواقفهم الوطنية الرافضة لنهج البعث الدموي، القصيدة التي كتبها الكاطع شكك فيها الكثيرون فنسبوها الى استاذه مظفر النواب الا انه استطاع بمدة وجيزة ان يقنع الجميع انه من كتب تلك القصيدة .
عند الوقوف على النتاج الشعري لكلا العملاقين الراحلين في مجال الشعر الشعبي نجد انهما يشتركان في ذات الاسلوب الشعري وكيف لا وقد تخرجا من ذات المدرسة الشعرية (مظفر النواب) لكن هذا لا ينفي ان لكل منهما سماته وخصائصة في استخدام المفرادات وابتداع الصور وهو امر طبيعي ناتج عن اختلاف تجربتيهما الشخصية داخل المجتمع واختلاف مزاجيهما وتباين طبيعتيهما النفسية بالاضافة الى اختلاف تلك الضغوطات التي صادفت كل منهما ولعل اهم وابرز ما يمتاز به الشاعر الراحل كاظم اسماعيل الكاطع هو طراوة الصورة الشعرية ومطابقتها للواقع المعاش تطابقا ملفتا حتى انك اذا قرات له فانك تشعر انك المقصود بما تقرأ وهذا ما حدا بأكثر من شاعران يلقب الكاطع بملك الصورة الشعرية كونها صورة نابضة بالحياة تأسرك فتأخذ عليك سمعك وبصرك وخيالك وكانها نسخة طبق الاصل من الواقع الاجتماعي المعاش الصورة عند السيد عريان اقل حرارة وواقعية مما عند الكاطع لكنها صورة مكثفة متدفقة كماء النهر تكتنز الكثير من المعاني وتحتكم على الكثير المعطيات.
الرثاء هو الغرض الاخر الذي يمتاز به الراحل كاظم اسماعيل الكاطع بعد طراوة الصورة الشعرية وواقعيتها فقد كانت قصائده في الرثاء تتفجر حزنا والما كما في قصيدة رثاء ولده الصغير (حيدر) الذي قتل في ظروف غامضة وهو لم يتجاوز الـ (12) ربيعا وكما في رثاء زوجته (زكية) التي طالب الموت ان يستحي من نعشها وهو يسير بها نحو اللاعودة والتي قص على الدفان حكايتها فلم يصدق الدفان منها شيئا.
الغنائية العالية والمفردة السهلة والسلسة في اللغة التي اعتمدها الكاطع في شعرة جعلت من قصائده اغان تصدح بها حناجر المطربين حتى كانت حصة فنان مثل الفنان (كريم منصور) اكثر من (40) نصا شعريا.
الفخر في شعر السيد عريان السيد خلف هو ما يوازي ويقابل قوة الرثاء في شعر الكاطع فالفخر في شعر العريان اقوى منه في شعر الكاطع بل انك قلما تجد انه قد تطرق لذلك الغرض اما العريان فانه قد تناول ذلك الغرض بمقدار عال من الاعتزاز بالنفس والاعتداد بشخصيته والكاريزما التي يمتلكها.
اللغة التي اعتمدها الراحل عريان السيد خلف كانت تمتاز بوفرة المفردات العامية الغريبة على اذان المتلقي على الرغم من انه كان يكتب الفصيح والشعبي في آن واحد وهذا ما جعل شريحة كبيرة من الشعراء الشباب يتاثرون بالكاطع دون السيد خلف حتى صرح بعضهم بأن الكاطع يعد مدرسة شعرية مستقلة بذاتها الشاعر.
اما لغة الكاطع فكانت تتميز بمفرداتها الحديثة المنبثقة من رحم المدينة العاصمة بغداد التي كانت تشهد حراكا ثقافيا ملحوظا انذاك الا اننا يجب ان لا ننكر ان الراحل عريان كان يتقدم على شعر صاحبه من عدة نواح تتعلق باللغة ذاتها لا سيما فيما يتعلق ببناء القصيدة من حيث جزالة اللفظ وقوته وحسن السبك ورصانة الصياغة والدليل على ذلك انك لا تستطيع ان تقوم برفع عبارة او حتى مفردة من مكان لأخر في شعر العريان بسهوله اما في شعر الراحل الكاطع فالحال مختلف حيث تكون مثل تلك المحاولة اقل صعوبة ولعل قوة الالفاظ في شعر عريان انما كانت متأتية من قوة شخصيته التي جسدت لنا اقوى موقف ازاء سياسات النظام البائد والتي فشلت فشلا ذريعا في ان تحصل على نص شعري واحد منه يمجد رمزها الفاشي وهو موقف تاريخي قلما لمسناه من شاعر شعبي او فصيح.
اخيرا فأن الكاطع كان يعوزه الالقاء فقد كان يعاني من ضعف الالقاء وقد يذهب الى الاستنجاد بصاحبة عريان السيد خلف لسد ذلك النقص وهو الامر الذي اشار له عريان في اكثر من مناسبة.
يمكن القول ان شعر الراحل عريان السيد خلف كان يتمتع بجوانب الرصانة والقوة والالقاء بينما كان شعر زميله الكاطع يتميز بتدفق العاطفة وخلق الصور الشعرية الا ان المحصلة النهائية ان الشاعرين قد شكلا اهم اعمدة الشعر الشعبي الحديث بعد استاذهم الكبير مظفر النواب رحم الله شاعرينا الكبيرين وحفظ لنا استاذهم الكبير مظفر النواب.