سؤال اول من نوع خاص: هل كان مظفر النواب قد ادخل مبادئ (التكنوقراطيا) الى القصيدة الشعرية ..  حين عَنونَ قصيدته الشعبية الأولى،  أحسن عنوان تكنوقراطي  : للريل و حمد ..؟

هل نالَ رضا الشعراء الشعبيين ، بعد الريل و حمد ،  ام انه أوجد لهم سمات جوهرية للثورة الشعرية ، التكنوقراطية ، الشعبية ، تماماً ، مثل خاصية سلالم التكنوقراطيا في بناء المصانع الكبرى لخلق السفن الفضائية  و جعل المهندس في منظمة ( ناسا) الامريكية خبيراً صناعياً.

تُرى هل كانت قصيدة (الريل و حمد) منبهاً بمستوى الصدمة الكهربائية للشعراء الشعبيين ،  بما حملته هليوكوبتراتها من مدافع اطلاق عملاقة  ورائحة بارود  من نوع نابالم ، شعري،  شعبي،  تضمّنَ استجابة التكيف مع واقعيةِ قصةِ عشقٍ ، سيكولوجيةٍ ، متفجرةٍ بصورٍ مثيرةٍ ذات قدرةٍ استرجاعية ..!  

ربما احتاج الى سؤال آخر أقل قسوة ، لكنه سؤال ضاغط ، حتماً و هو : هل أجاب النقد الشعري على أسئلة تجريبية ، متفتتة ، عديدة و كثيرة ، عن التركيز الذهني النقدي ، لمراقبة تطور القصيدة الشعبية،  بعد مرحلة (الريل و حمد) بوصفها ثقافة تعكس تجارب طفولية – شبابية – وصولاً الى الهروب ، الكهولي،  من الواقع المضطرب  الى الواقع الضاغط ،  أو إلى (عالم الخطر و الألم و بخس الالفة)  بين عاشقين من عشاق العجز و الأذى في نموذج الريف العراقي .. أو الوصول الى واقعية  ضعف  الثقة الاجتماعية او التساند الإنساني..!.

 ماذا  حقق مظفر النواب بقصيدة (الريل و حمد)  و بأشعارهِ الشعبية ،كلها،  إلى الذات الداخلية في الانسان العراقي.. من نجاح ..؟   هل أوجد ملاذاً صادقاً بتجميل عالم الحب ، بتمثيلٍ شعريٍ، رمزيٍ،  لتحويل ذات العشيق نحو العاشقة او تحويل نموذج الغيظ الشخصي الى محبة مشتركة  من خلال تحقيق الذات ..؟ هل اصبح الشاعر الشعبي خبيراً في تقديم المشورة الى الحزب المنتمي إليه أو إلى عشيرته ..؟

نعم صار الاجماع الاجتماعي - الفني بعد ظهور ثريا (الريل و حمد) ، في سماء القصيدة الشعبية  ، علامة منتمية ،  كي يمارس الشعراء التكنوقراط كفايتهم الفنية ، النافعة ،  بعد تقوية التلقائية الشعرية بالاندفاع المرتجل ، في إيجاد التأثير التكنوقراطي على النظم الشعرية  تحت توجيه و ابداع رئاسة الأركان العليا في الشعر الشعبي،  حين دخل  مظفر النواب الى الملاك القيادي (قائداً عاماً) بفعالية نظم قصيدة شعبية أولى : الريل و حمد ، متحررة من الحواجز التعبيرية القائمة في القصيدة الشعبية ، جاعلاً من القصيدة الشعبية اللاحقة ( جرح صويحب)  و (البراءة) و (مو حزن) و  (روحي ولا تكَلها شبيج) و ( حسن الشموس) و ( كَالولي) و غيرها   ، باعتبارها  فيزيولوجيا شعرية متنوعة .  

حلّ الشاعر مظفر النواب بنزعةٍ فكريةٍ - ماركسيةٍ ، مشكلة (التناظر الشعري)  بعيون جميع اتباع (الريل و حمد) بأنه (تناظر  وطني) حلّ محل (التناظر العشائري) ،  بمعنى أنهم ادخلوا مظفر النواب نفسه الى مواقف و ثقافات أشد تعقيداً ، لا سيما التناظر التعسفي بقصد تحريف الانتماء اليساري في شعر مظفر النواب ، جميعه. هذا التحريف  جعل شاعراً فلسطينياً يستأذن (  الذكاء) من نفسه على نفسه ،   للطعن في الشعر النوّابي .  على صعيد الأمثلة كان الكثير من مثقفي عصر صدام حسين في العراق اعداء لنوطة القصيدة المظفرية ، بالرغم من استقامتها الوطنية و من (نظرية الحب..) ، التي أظهرها صدام حسين ، نفسه،   لهذه القصيدة ، عند مقابلته مع الشاعر مظفر النواب بعد إطلاق سراحه من الموقف عام ١٩٦٩.  

برهنت قصائد مظفر النواب ، جميعها، انه لم يستخدم (التكنوقراطيا الشعرية) بقصد نزع الحق الثوري من الثوار و المناضلين العراقيين . بل انه أوجد صلة من نوع ما بين الشعر و الفلسفة الديمقراطية .  ظلّ ( التطور التكنوقراطي)  في القصيدة المظفرية بياناً من بيانات الثورة او شعاراً من شعاراتها . لو كان الوضع الصحي الطبيعي متوفراً   عند مظفر النواب بالوقت الحاضر فأنا على يقين ان تكون قصائده عن المتظاهرين السلميين ،كلها ، دعوة الى ( الثورة بالقانون) اي الى ثورة سلمية اصلاحية . لكن المؤسف ان مرضه المتعارض مع قدرته  على الكتابة الشعرية ، جعله غير متمكن  من احتواء انتفاضة أكتوبر ٢٠١٩ المستمرة في ساحة التحرير البغدادية و ساحة ام البروم البصراوية و ساحة الحبوبي بالناصرية و غيرها. لولا مرضه القاهر   فإن قصاده  ستكون منتجة لمزيدٍ من ( التكنوقراطيا  الثورية)  في كل بيت من أبيات اشعاره ، تنديداً بالمذابح الحكومية ، الكثيرة ، التي إحاطت   بمقتل ٧٠٠ مواطناً و جرح حوالي ٢٥ الف مواطن عراقي . ربما يصير العراق كبيراً ، بكبر قارةٍ من القارات  او بكبر بلدٍ مثل  إندونيسيا على الأقل ، بعين مظفر النواب لان  العراق  كان كبيراً في شهداء انتفاضته التشرينية  ،    او انها ستكون مغمورة برؤيا نوّابية ، حيوية ، عميقة ، يجعل الوجود الثوري الشبابي  ، فيها، مقروءاً شعرياً في إيقاع المدن و الارياف العراقية و ربما الارياف العربية ، بمعلمٍ  جديدٍ من معالمِ الشعرِ الخصيبِ ، المفرط بالثورية  . 

الكلمة ، أية كلمة ، هي غاية و نهج و حرية . هل كان مظفر النواب في سني شبابه على ذكاء  واع حين صبّ غايته  على تجديد سيرة الخلية الشعرية في جسد القصيدة الشعبية و كلماتها  ..؟ هل سعى اليها مظفر النواب ام انها كانت قصداً ليس مرتجى..؟  هل حمل (الرمزية) الى (الواقعية) لتصوير الأحداث الخارجة  عن نطاق ( الذات) ، بأسلوب الفلسفة الثائرة على مساوئ الحياة و منغصاتها و شرورها. هل أنجز  الموقف الشعري بسبب الوراثة او البيئة او بدافعٍ من الاوصاف الخلقية و الاختيارية ..؟ 

اختصر الإجابة : اختار الشاعر مظفر النواب عقليته الشعرية من قدرة الاختيار المحدد بالالتزام في ادراك القيم الاجتماعية و الانسانية المستمدة من  النظام الانساني ، العقلي ، الاخلاقي، الاجتماعي .  

الكلمة الشعرية هي طاقة و دعوة الى النمو و الاتساع. اما ( الكلمة المضافة) في قصائد مظفر النواب فهي انتقال التاريخ و ممكناته في التفاعل الإنساني . على الأقل انها تأصيل التاريخ الانساني و تعاليه . السؤال ما زال كبيراً : هل تولى مظفر النواب ظاهرية ( الانقلاب)  في الشعر الشعبي ام انه استخلص منطق (الثورة)  بهذا النوع من الشعر ،  حين تنفس الحرية التجديدية،  عندما بلغ القوة الشعرية و افعالها بقصيدة (الريل و حمد).  

هنا في هذه المقالة ، ابتغي  مسايرة  (عالم الحرية ) لإدراك المعايير العمومية و اختيار النظرة الواقعية ببعدها الأكبر و دلالاتها الاوسع ،  في محاولة التعرف على حالة (التغير)  في مقاصد شاعرية القصيدة  المرتقية الى ذرى العقل و الإرادة و الشعر النابض في طبيعة العقل و الغناء و التاريخ بقصيدة ( مرينة بيكم حمد و احنة بغطار الليل).

يقول الكثير ممن كتبوا عن كافكا انه كاتب شعر منذ بداية وعيه بالمسألة الاجتماعية ، بعمقٍ تامٍ،  خاصة ما يتعلق بمسائل العمال و الكادحين . لكن هذا لا يشير الى انه غير معني بالمسألة السياسية . كلاهما ، مظفر و كافكا، نظرا نظرة مشتركة إلى ارتباط المسائل الاجتماعية بشقيقتها السياسية . لذلك انشغل مظفر النواب بنفس النظرة العامة التقريبية المندرسة في اعماق  كافكا . 

في نظري انه يمكن اغتصاب التاريخ  من سمات القصة الشعرية حينما تعتمد طريقة تقييم مكانة مظفر النواب في الشعر الشعبي على الصلة العاطفية و عملية لم الشمل بين الشعر و التاريخ ، ضمن تقييم موروث الأسطورة الرمزية العراقية،  التي أبدأ فيها ان الشاعر مظفر النواب كان (قصة خاصة) و (تاريخ خاص). قصة النواب متميزة في فنون الشعر ، كلها،  و رؤيته الفانتازية  لمنزلتها .

اما تاريخ مظفر النواب فهو مجابهته لاحداث فعلية فنتازية غير المنسجمة مع تطور الوطن العراقي . في البيت الشعري الواحد  اصبحت قصيدة الريل و حمد كوناً شاملاً من الهموم الكبرى؛ ( صيح بقحر يا ريل..  صيحة عشك ) . الحب ، هنا، اصبح ثقّالة الحزن الدافعة الى صيحة عشق  ( صيحة عشك)  موجهة الى (الريل) بانتظار استصلاح  بيويولوجيا العشق الضائع . غالباً ما تسكن أمور العشق ، لا يحركها إلّا الشاعر . ليس كل شاعر ، إلّا إذا كان بمستوى خيال مظفر النواب مندفعاً بمقاربات مشاعر إنسانية  . 

في الحديث عن  (معنى الشعر ) و (دوره)  في  المشاركة بالتعرّف على  ممكنتين روحيتين . الاولى تتعلق بالطاقة العقلية ، المادية ، المتفاعلة بزمانٍ معينٍ و مكانٍ محدد.

الثانية تتعلق بالقدرة على كبت (فورة الجسد ) او إرجاعها الى تأدية الإبداع الجسدي ، الإنساني.

على الأرجح ، وجدتُ نفسي سريعاً، مكتشفاً  ان اختصاص مظفر النواب من هذا المستوى. 

للضرورة اقول ، اولاً : ان زفزفة الموكب تعني هَزيَزَه. اقول ، ايضاً، ان مظفر النواب حين يقرأ قصيدة من قصائده فأنه يزفّ كلامه زفّاً شمولياً صادحاً ،  كما  الطائر يزفزف بجناحيه، حين يدور بطيرانه.  النوّاب يجيد الزفزفة.. يحرّك يديه وينشد بصوتٍ قاصفٍ،  كي يهزّ قاعة المستمعين هزّاً ظافراً. هزّني شعره و هزّني صوته و هزّتني تناظرات اقواله في قصائده . لم تتحير  صداقتي معه ، لأنها استرشدتْ بما استدل به كل واحد منا تجاه الآخر من أفكار،  ربما قدم الاسترشاد من زحل، لكلينا . ما انقضتْ إلّا فترة قصيرة ، حتى انصرفتُ بكل قواي إلى تأكيد ما يدعو اليه مظفر النواب في قصيدهِ  من مُثلٍ عاليةِ المقام و عقائدَ نشترك في صلاحها الاجتماعي.  كانت أداته الشعرية تخوّله و تعاونه في نشر صوره الساحرة الجميلة عن مستقبل الانسانية ، ولو في احلام العصر البعيد .

ـــــــــــــــــــــــــ

يتبع

عرض مقالات: