لم اتخلّف عن (التقدم) و (المعاصرة) في كل ما يحدث من نهجٍ في (التاريخ الحديث) يؤثّر على اهالي مدينة البصرة ، و انا منهم ، سواء أكان ذلك في شؤون الأدب او السياسة او عن بدعة و صناعة وسائل تمزيق صور الحرية و الديمقراطية في عيونِ شعبٍ كان يُساق الى العمى و المجازر او الى الموقف الجبان امام الموت . كانت كل كلمة او حدث او قضية من قضايا المجتمع تتغيّر، أو تواجه حالة معينة من حالات التغيير ، تجعلنا، نحن البصراويين، لا ننفصل عنها. نُمسي ، على الفور ، مع اغلبية الناس في (المدينة – الميناء) موحدين بمنطقِها و نهجِها. لذا تطوّرت ، بسرعة ، تشكيلات النمو الواعي في مرحلة طفولتي و بدايات عمري ، في فترة المراهقة ، على نفس ما يجاور حدود ما يتغير او يتبدل في سماء البصرة و أراضيها بجميع ضواحيها ، لأن ما يسكن فيها و يتحرك ، هو نفس ما يسكن و يتحرك بمواني الدول المجاورة و جميع العالم ، بسبب نعمة ارتباط الموانئ ببعضها ، من خلال البواخر البحرية المتنقلة ، حيث غزتْ صفوف الشباب مناهج من طاقة الحرية و أمالها بين معطيات التفاعل مع (نظرية) القوة البدنية بتناول ممكنات الميزة الباطنية و الظاهرية المتفاعلة مع (التمور) ، حيث نسمع ما يقال عنها ان تناولها هو فعل من أفعال صحة و ارتقاء العقل و الجسد.
منذ ذلك التاريخ اعتمدتُ على هذا الارتقاء بــ(التمر) ، باعتباره المادة الأولى لتسهيل التطور . ظلّ مصيري مرتبط بهذا الشعار حتى اليوم . كنتُ و ما زلتُ، حتى اليوم، أحب أكل التمر مع اللبن . ثلاث تمرات و كأس لبن واحدة ، كل يوم ، على الأقل. كما احببتُ، منذ طفولتي ، حتى اليوم ، تناول الماء بارداً ، مثلجاً، في الشتاء مثل الصيف . لأ أدري هل ان الشاعر مظفر النواب شغوفاً ، مثلي ، و محباً بجمالية العلاقة بين اللبن و التمر ..؟
أظن انه مثلي منفتح على التحرك في تناول طاقة التمر و اللبن ، فقد ولدنا بسنة واحدة هي ١٩٣٤ و قد كانت أيامها ، جميعها، مليانة بالحوادث الكثيرة البرودة ، المحتاجة الى حرارة المزاج و البدن .. كما القليل منها مليئ بالحوادث الكثيرة الحرارة ، المحتاجة – بنظري – الى المزيد من الماء البارد ، مخزوناً في داخلية البدن البصراوي ، الحارة بطبيعتها . اظن ان هذه الصفة البصراوية التي اعتدت على فعلها ، منذ طفولتي ، هي من نوع الصفة الغائبة عن الكواظمة و منهم الشاعر الكظماوي مظفر النواب .ربما اعتاد مظفر النواب على مسايرة تناول الماء المثلج بالصيف فقط . هكذا هي الدنيا لكل انسان فيها منطقه الخاص و رغباته الخاصة .
من بعض أطراف الأحاديث ، مع مظفر النواب ، بأوقات مختلفة ، عرفتُ انه يعطف على بدنه بالقليل جداً من كميات الطعام ، بكل وجبة ، لكن من (نوع ) له اصل غذائي هيدرو - كربوني و من فصل فيتاميني و من نصل بلا دهنيات ، مع المزج بين اللبن و التمر ، تماماً كالمزج بين رجل تحاوره عن غبن ما ارتكب بحقه و بين حاكم مجازف لا كيل له ولا وزن . لا شك ان الشاعر النواب لم يحذو حذو الشعراء الشعبيين ، قبله، رغم انه كان من المعجبين و المحبين للبعض منهم . كان يريد ان لا تكون العلاقة بين ( اللغة ) و (الشعر) مثل العلاقة بين ( اللبن ) و ( التمر) . كان يريد ان يمنح ( اللغة العامية) رقيّاً و سمواً، مثلما اراد و يريد ان يمنح ( الشعر الشعبي) تألقاً. بمعنى ان مساهمته في تطوير ( الشعر) لم تكن تقليداً للمحدثين الإنكليزيين و الإيطاليين و الألمانيين و الفرنساويين و اليونانيين و غيرهم . أراد ان يكون هو الشاعر العراقي المسمى مظفر عبد المجيد النواب .أن يكون شاعراً معتمداً على مستوى ما وصلت إليه نصوص الشعر الشعبي ، الشعر العامي، بقصد ترقية بنيانه التحتاني و العمل على أمانة البناء الفوقاني و المحافظة على خصائصه الأدبية . كان قد استوعب حقيقة ان هذه الخصائص لا جدوى لها إنْ لم ترتفع تراكيب بنائها التحتاني و الفوقاني ارتفاعاً فنياً ، لغوياً و شعرياً . من الحق ان اقول ان مظفر النواب كان من الدارسين و المتابعين للروعة الفنية المتحققة بجهود وابحاث و ممارسات نازك الملائكة و بدر شاكر السياب و عبد الوهاب البياتي و بلند الحيدري و غيرهم من اجل الانضمام الى جماعة الثريا اللامعة بالشعر الحر ، الحديث و الفصيح.
لذلك بقدر حسن التغذية الشعرية النوّابية بلحمِ و دمِ أصولية الشعر الشعبي العراقي ، فقد جاءت قصيدة (الريل و حمد) و تجيء كل قصيدة مظفرية - شعبية ، بعدها، ليعطي القارئ الحكم فيها و اليها ، مجبراً على حبها إنْ لم يكن قد حفظها عن ظهر قلب . كل كلمة شعرية تأتيه ، كان يجد نفسه في حالِ استعدادٍ أنْ يتحمل تبعاتها و قلقها و ازعاجاتها ، حين يجد ان من النبل قولها ، بحق الظالمين، من دون أي خوفٍ من مقامِ المسؤول، المنتقد في سطورها او المسخور منه ، شعرياً، و (من دون ان يستثني احداً).
لا يرتعبْ من الإقدام على الضرب الدائم بالناقوس الثوري في مواقفِ اشعارهِ و قصائدهِ، السياسية الانفجارية او ذات العنف الأقل ، كي يكشف او يكتشف شيئاً جديداً ، حقاً جديداً من حقوق شعب الولاية ، التي يعيش فيها ، سواء كان بوقتٍ عظيمٍ من أوقات ثورة 14 تموز او بزمنٍ سمجٍ من جميع الأوقات و الأزمنة، التي واجهها قبل الثورة او التي عاشها في غربةٍ كانت عظيمةً في سماجتِها . لم يكن يرضى ان تسحقه اي ريح تأتي من تحرّكِ اصحابِ السَّعير ، الذي كان جذعه ممتداً الى جميع مباعدات الدولة البوليسية . كان شريان قلبه ، على يده، لا يحميه شيء من سهام بوليس الدولة و الأعداء غير شعره الشعبي ، الذي فيه سداد الرأي و قوامه. كان يحمل سفائن شعره ، كي يكون شاعراً، شعبياً ، حكّاءً ، غضباناً مثل غضب المتنبي و المعري . اراد ان يسقي شعره بمجدٍ من مائهما - بقصد ان يلتقط حصاد يديه و عقليته بما فعله النابغون من شعراء الفصحى. ربما كان يفكر ببلوغ مستوى اكثر كمالاً - لثقته بما يملك من مخيلةٍ واسعةٍ ترى البحر و ما فيه ، من اولِ شاطئ فيه الى آخر واحدٍ منبسطٍ او مطويٍ بحجر . كان شاباً متعاقداً مع الاناقة في كل شيء . كما كانت وسامته مصدراً من مصادر التفاعل بينه و بين الحق ، بينه و العدل ، بينه وبين كل اضطراب سياسي او اجتماعي . كان في مشيته تواضعٌ فيه خجلٌ كثيرٌ لأنها كانت من نوع المشية السهلة ، التي لا تثير انتباهاً. لم يكن في جسده غلظة و لا قصر ولا فرطحة من اي نوع ، بسيط او معقد ، لا في يديه ولا في قدميه . استدارته في اثناء مشيته داخل ساحة كرة القدم في سجن نقرة السلمان ، كانت استدارة خفيفة و بسيطة ، مما يدل على اكتنازه عضلات صحية مناسبة . لكن تعابير وجهه كانت في أكثرها تخشع الى حزنٍ دفينٍ في اعماقهِ و في اهوائهِ الاسلوبية الخاصة، في النظم الشعري، أو في بناء الهيكل العلوي لذراتِ القصيدة ، او عند تفاعلهِ الصوتي و انفعالِ طاقةِ و اسلوبيةِ إلقائهِ الشعر بطريقةٍ لا نجد تمثّلهِا لدى غيره من الشعراء ، سواء في عُرفهِا او في دويّها أو في تحزين شخصانيتها الفردية او تركيبتها الجمعية . لا احد يعرف من اي شيءٍ جاءَ هذا الحزنُ الى وجهِ شاعرٍ اسمه مظفر النواب نشا بكنف عائلة متسلحة بعواطف الغنى و الجاه و النسب و هولا يشكو من مرض ولا من ذعر فصار لا يشعر مطلقا بعظائم الاحداث الكونية و لا بالأحداث والفجائع ، التاريخية، لأنه واثقٌ بعدالةِ محمولةٍ في شعارات واهداف عقل و مشاعر الحزب المنتمي الى مدججاته الثورية .. وهو مذ كان فتىً يبدو أنه لا يخاف من النسور و الأسُود و الثعالب و غيرهم من الحيوانات الخائرة ، الخاثرة و المخثرة ، المرتدية لباس و اقنعة البشر ، للدفاع بمخالبها و ضواريها عن أنظمة الحكم القمعية .
كان صوت مظفر النواب ، مذ عرفتُ تكوينه الشخصي – الإنساني بنقرة السلمان ، فيه كثيرٌ من الوجعِ ، لكّن بكثيرٍ من القوة، لكي يطير ، بسرعة، و ليقيم في قلوب السجناء ، كلهم، في مكانٍ شديد القسوة ، شديد الظلمة ، غير ان الوعي فيه لا ينضب و لا تنضب عروق الشجاعة الإنسانية ، رغم ان (النقرة) شديدة الظلمة وفيها العيش يابساً ، اسوداً و ليس للسجناء المرميين فيها من يقيهم او يحميهم او يدافع عن حركة رقّاص ساعات حياتهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتبع