كان العراق في أوج انفتاحه على العالم الحديث في السبعينيات من القرن الماضي، أدبًا وفنًا وسياسة. لكن هذا لم يدم طويلًا، فحين هيمن حزب البعث على السلطة بدأ يُضيِّق دائرة الانفتاح حتى أغلقها تمامًا؛ وتمثَّل ذلك بحظر الأحزاب المعارضة، وملاحقة المنتسبين لها. ونال شعراء العراق المعارضون نصيبًا كبيرًا من القمع، فمن لم يستطع الهرب أو السكوت، كان مصيره في قصر النهاية أو الشعبة الخامسة، مشنوقًا، أو ذائبًا في أحواض “حامض النتريك (HNO3)”. هذا المقال يتناول ترجمة خمسة شعراء عراقيين أعدمتهم سلطة البعث، وهم يمثلون النبرة العالية لصوت الشعر العراقي الرافض للديكتاتورية.

الشاعر رياض البكري

(مَن يمدُّ الآنَ كفّيه لكي نحارب؟)
يُعرّفه جيل السبعينيات بأنّه لوركا العراق، إذ كان من أبرز شعراء البلد في تلك الفترة. أبوه كمال البكري كان يساريًّا وموظفًا في السكك الحديد، وكان مطاردًا من السلطات في العهد الملكي وكذلك من سلطة الجمهورية الثانية بعد انقلاب عام 1963 بسبب نشاطه السياسي المعارض. سُجن مرات عدة، وخسر وظيفته من جرّاء ذلك، لكنّ الابن الذي سار على خطى أبيه، خسر حياته، وضاع شعره في الصحف العراقية والعربية موقعًا بالأسماء المستعارة خوفًا من عيون السلطة.
ولد رياض البكري في مدينة بابل عام 1950، لكنّه لم يلبث بها إلا قليلًا، مثلما لم يلبث في أية مدينة يهرب إليها والده متخفيًا من رجال الأمن. ترك رياض البكري الدراسة لمّا أكمل الإعدادية، عمل في مطبعة بالعاصمة بغداد، واعتقل عام 1971 بعد مشاركته في مظاهرات عمّالية يسارية مناهضة لحزب البعث، وظل مسجونًا في قصر النهاية لمدة 18 شهرًا خرج بعدها بكفالة مالية. أسس مع الشاعر محمد علي الخفاجي ) جماعة النشء المعاصر( ونشر قصائده في صحف عراقية وعربية . ترك العراق وغادر إلى لبنان لينضم إلى المقاومة الفلسطينية، وتحديدًا إلى «الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين»، وكان يُعرف باسم )أبو نضال(. ظل رياض البكري يتردد سرًّا على العراق بين عامي 1976 و1977 متنكرًا بأسماء مستعارة، ومستخدمًا جوازات سفر مزورة، حتى ألقي القبض عليه أخيرًا في بغداد نهاية عام 1977، ونُفذ به حكم الإعدام شنقًا 1978 .
مقطع من قصيدة للشاعر نُشرت تحت اسم «روشن» في مجلة “إلى الأمام”:
من يمد الآن كفيه لكي نحارب
من ينزع الجلد الفلسطيني والمصري والسوري كي نحارب
من ينزع الجلد الطوائفي في لبنان كي نحارب
من يخرج السودان من زنزانة التعذيب كي نحارب
من يفتح الطريق للخليج.. إنَّه الخليج.. إنَّه الخليج
واهب المحار واللؤلؤ والردى
أصرخ بالخليج: يا خليج.. يا خليج.. يا خليج
مد لي يدا

الشاعر خليل المعاضيدي

(هنا موسم للكآبة والوحل)..
خليل المعاضيدي من مواليد مدينة بعقوبة عام 1946، تلقى تعليمه الأولي في مدارسها، ثمَّ درَس الأدب الإنجليزي في جامعة بغداد، وعمل مدرسًا للغة الإنجليزية في مدارس محافظة ديالى من عام 1970 حتى عام 1978 حين فُصل من الوظيفة، وعمل دهّانًا في صباغة الدور والمباني. شكلت قصيدته “هلّا قرأتَ البيان الشيوعي؟” نقلةً نوعيةً في معارضته للسلطة، وتأثيرها يأتي في قراءتها مطلع السبعينيات أمام جمهور كبير في حدائق نقابة المعلمين بمدينة بعقوبة.
ظلَّ خليل المعاضيدي ملاحقًا من قبل السلطة، وتحكي شقيقته أنَّ رجال الأمن اختطفوه في إحدى المرات ورموا أمامه قطعةً من اللحم في حوضٍ مليء بـ«حمض النتريك (HNO3)» وهددوه بإذابة جسده مثل تلك القطعة إن ظلَّ يمارس نشاطاته المعارضة للدولة. لم ينجح خليل المعاضيدي بالتخفي كثيرًا، ففي عام 1981 ومع بداية الحرب العراقية الإيرانية، اعتقل وظل مصيره مجهولًا حتى عام 1984، حين أبلغت السلطة عائلته بنبأ إعدامه، ورفضت الدولة تسليم جثَّته ومنعت أهله من إقامة مراسم العزاء.
من شعره:
في الطريق إلى الحب
أوقفني الجلنار وبعض من العوسج الفظ
أعطيته لحظةً من جبيني ثمَّ نمتُ على طلقةٍ في الظنون
في الطريق إلى الحرب
دوَّخني الجبناء الكثيرون
دارت بقربي المعارك
وانطفأتْ طلقةٌ في الظنون

الشاعر والروائي حسن مطلك

(قريبة هي الساعة التي سأقول فيها لكل شيء: وداعًا)
كان شاعرًا ورسامًا وروائيًّا ونحاتًا، وكان ثائرًا أيضًا. ولد حسن مطلك عام 1961 في قرية سديرة التابعة لقضاء الشرقاط في شمال العراق، بدأ ولعه بالرسم مبكرًا، لكنَّ أباه الذي كان رجلًا متدينًا كان يمزق لوحاته لأنَّه يعتقد أن الرسم حرام، ومن أجل هذا لم يحقق رغبته في دراسة الفنون الجميلة، واختار التخصص عوضًا عن ذلك في التربية وعلم النفس، في جامعة الموصل التي تخرج فيها عام 1983. أنهى روايته الأولى (دابادا) عام 1988، وأصدر مع مجموعة من أصدقائه مجلة «المُربّي»، ونشر فيها مقالتين إحداهما عن الفن التشكيلي، والأخرى قراءة لرواية الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال». حاز على جائزة الدولة التقديرية سنة 1988 عن قصته (بطل في المحاق). وفي عام 1990، شارك حسن مطلك في محاولة لقلب نظام الحكم مع مجموعة من الضباط، اعتقل على إثرها ونُقل إلى سجن الشعبة الخامسة بمديرية الأمن العامة، وأصدرت بحقه “محكمة الثورة” حكمًا بالإعدام، وأُعدم شنقًا في العام نفسه.
من شعره:
كن سعيدًا مرة واحدة وانتحر
مرةً واحدةً فقط
مرةً واحدة
أقول لك -وهذا اكتشافي-
إنَّني الناجي الوحيد على جبل الطوفان
وأقول إنَّني آخر من وجد السعادة
وعزفَ في ثقوبها
لن أسمع صرختك وأنت تقول لي: هي كذبة

 

الشاعر مناضل نعمة

(وحدي.. يسكنني ضدي)
حياةٌ قصيرة، لكنَّها حافلة بالمضايقات والاعتقالات والموت، هكذا يمكن تلخيص حياة الشاعر مناضل نعمة الجزائري الذي سقط في هاوية الموت وهو لم يزل في الرابعة والعشرين من عمره. ولد مناضل نعمة هاشم الجزائري في البصرة عام 1960. وهو من عائلة ثورية كانت تسكن في بداية منطقة (الجمعيات) التي كانت تسمى أيضاً بحي المعلمين. عمل فترة كاتباً في مصلحة التمور في البصرة. أكمل دراسته الثانوية (الفرع الأدبي) عام 1980 - 1981. كتب أثناء دراسته الثانوية قصائد عديدة رافضة ومشاكسة تعرض بسببها إلى المضايقات والاعتقال والضرب من قِبَل عناصر في الأمن الطلابي. أُجبر على الالتحاق بالجيش أثناء الحرب العراقية-الإيرانية، وكانت وحدته العسكرية في المنطقة الشمالية. فحاول اجتياز الحدود، ولكن ألقي عليه القبض هو وشقيقه الأصغر (باسم) في تشرين الثاني (نوفمبر) 1983، بتهمة محاولة اجتياز الحدود العراقية-التركية. فحكم على الشقيقين بالإعدام شنقاً. وفي شهادة الوفاة الرسمية التي حصلتْ عليها العائلة بعد سقوط النظام، ثُبِّت تاريخُ الوفاة في 17 نيسان 1984.
من شعره:
-
أتعرفها ...؟
-
انها جثةٌ باردة
-
أتعرفها ...؟
-
بلى
انها جثتي
ومن موضع حزني عواء يسيل
-
إذن أنت قاتل
-
إعترف
لن أبايعكم أبداً
--
إعترف
لن أبايعكم أبداً
وانحداراتكم دائماً
دائماً فاسدة

الشاعر خالد الأمين

(هنيئة الرقبة التي تحمل رأس البلاد)
أُعدم الشاعر خالد الأمين في سجن قصر النهاية ببغداد عام 1972، وتُرجِّح الروايات أنَّه أُلقي في حوض من «حامض النتريك (HNO3)»، وهذه الطريقة في الإعدامات كانت شائعة حينذاك عندما كان ناظم كزار مديرًا للأمن العامة. ولد خالد الأمين لعائلة كردية في مدينة الناصرية عام 1945، وكان أبوه من أثرياء المدينة القلائل، وقد أكمل تعليمه الابتدائي والثانوي في مدارس الناصرية، ثمَّ نال شهادة البكالوريوس بالاقتصاد من جامعة بغداد عام 1967. انتمى خالد الأمين إلى «الحزب الشيوعي العراقي»، وكان محظورًا حينها بعد سيطرة «حزب البعث» على السلطة. وعن هذا يقول الكاتب حسين الهنداوي الذي كان رفيقًا لخالد الأمين في تلك الفترة: (لا أذكر أننا تحدثنا بمفردات الأيديولوجيا اليابسة أو بالشعارات. وضع تنظيمنا الطلابي ورفده بالأعضاء الجدد كان موضوعنا الأساسي في لقاءاتنا السرية العديدة. تأثر خالد الأمين بالشعر الفرنسي، وقرأ رامبو وبودلير ومالارميه وسان جون بيرس واراغون، كما كتب مقدمات لقصائد فرنسية مختارة ترجمها الكاتب أحمد الباقري في كتاب حمل عنوان «رصيف سوق الأزهار». لا تتوفر للشاعر خالد الأمين سوى ثلاث قصائد هي “القلب البديع”، و”منفضة الأصابع المحشوة بالأصوات”، و”الغرف”.
من شعره:
وددت لو أثقب غرفتي
لأسيل نحو الشجر، حزينًا، وبغبرة خفيفة
لأني أعلم اليوم
ليس ثمة بلل في هذه الساقية
بل ولا حتى نافذة تشرق منها زهرة الليل

عرض مقالات: