نشرنا في ثقافية الاثنين الماضي هذه القصائد ووعدنا بتقديم دراسة نقدية لها.. ننشرها ادناه.
(المحرر الثقافي)
إذا كان من مهمات الشعر استجلاء شتى جوانب التجربة الوجودية، فإن الكتابة الشعرية عن العوق البدني والعقلي تمثل ركناً مهماً وحاجة أساسية لأنه ممارسة شعرية تستكمل أحد الجوانب المهمة والقصية من المعاناة الإنسانية لتجربة الوجود. وهكذا تكون هذه النصوص محاولة من الشعر للخروج على تعويق الرؤية وقصورها عن تقديم ما يضيء هذا الجانب.
كانت العلاقة بين الشعر والعوق البدني، تاريخياً، تتمثل في كتابة شعراء معوقين، هم في الغالب من فاقدي البصر، عن عالم البشر من ذوي الأبدان الصحيحة، وهكذا شهدنا شعراء عميان يؤلفون نصوصاً عظيمة عن عالم المبصرين. فكان هناك الشاعر الإغريقي القديم هوميروس صاحب ملحمتي “الإلياذة” والأوذيسة” اللتين تناولتا مآثر الأصحاء المبصرين؛ وفي أدبنا العربي كان هناك من فاقدي البصر، ومنهم بشار بن برد (96-168 هـ)، وهو من كبار الشعراء في العربية وإن يكن ذا أصول فارسية، وكان شعره يتسم بطاقة تصويرية بصرية على الرغم من كونه أعمى, وأيضاً أبو العلاء المعري (363-449 هـ) الذي كان ضريراً ولكنه أبصر ما لم تدركه أبصار الأصحاء، وفي الشعر العربي الحديث هناك: عبد الله البردوني من اليمن الذي يمثل قامة مهمة في قصيدة الشطرين. وفي الشعر الإنجليزي، اشتهر الشاعر الضرير جون ميلتون (1608-1674 م) صاحب مطولة “الفردوس المفقود”. كما نجد فيه أن الشعراء العميان موجودون في كل الثقافات وفي شتى الثقافات.
في هذه المجموعة من النصوص الشعرية المنتقاة، نلاحظ أن المترجمة الفاضلة قد عمدت إلى اختيار نصوص للشواعر فقط، وهن من الشواعر اللائي يعانين من العوق وقد فضلنَّ الكتابة عن معاناتهن مع العوق من حيث آثاره النفسية والاجتماعية، فقدمن رؤىً تتسم بالعمق عن تجربة شديدة الخصوصية؛ وهي تجربة ليس من الوارد، غالباً، أن يمرَّ بها الأصحاء من بني البشر مما يطرح سؤالاً عن الكيفية التي نستجيب بها، نحن الأصحاء، لهذا النمط من الموضوعات.
تبني الشاعرة دينا س. ديلي قصيدتها “تخيل إنـَّك أنا” على مسعى لنقل مرارة تجربة العوق إلى من لا يعانون من العوق من خلال المشاركة المتخيلة التي يمكن أن تحدث فرقاً في الموقف من المعوق. ونلاحظ أن طلب المشاركة الوجدانية الضمني لم يكن مرتبطاً بنوع من أنواع العوق؛ فهي تبدأ بالإشارة إلى حالات العمى، والصمم، والمقعدين. ثم تدفع بالموضوع إلى حافة التحدي النفسي قائلة:
“جرب هذا الإحساس، أن تكون مُعاقاً،
يا له من أحساس قاسٍ مُمزِقٍ!”
ثم تأتي خاتمة القصيدة لتشير إلى حقيقة أن وضع الإعاقة دائم، ولذلك فهو لا يطاق. وتسعى إلى حالة من الحراك النفسي لدى الأشخاص الذين لا يعانون مِنْ العوق طامحة إلى أن يرتقي موقفهم من المعاقين إلى مستوى أفضل.
تركز قصيدة “الفتاة ذات الكعب العالي” للشاعرة سارة إسماعيل على العوق البدني المتمثل بفقدان القدرة على المشي؛ وهذا الأمر غير مصرح به في النص، إنما نستشفه من خلال المونولوج الشعري المرير، ولكن الجميل، حيث تعشق فتاة مقعدة فتى سليماً وعاشقاً لفتاة لا تعاني من العوق؛ فتستهل الشاعرة نصها في ضربة فنية متقنة للغاية:
“فتى أحلامي مُغرمٌ بفتاة ترتدي الكعب العالي.
جلست أشاهده يبتسمُ لها من كرسييِّ المتحرك.”
وتقدم لنا الشاعرة صوراً مفعمة بالحياة للفتاة المعشوقة وحيويتها وحراكها مع فتى أحلام الذات المتحدثة في النص:
“فتى أحلامي مُغرمٌ بفتاة تقود سيارةً سريعةً،
إنهما يتجولان بها في طرقٍ تأخذهما إلى الأعلى وإلى الأسفل،
يتحدثان، يمرحان، ويحدقان في النجوم.
ثم يأتي تصوير الإحساس بعمق مأساة العوق حين تضع الشاعرة هذه العبارة المهمة:
“آه، لو أجعله يُدرك أن صمتي في حبه هو الحب الحقيقي؟”.
إذن هو حب من طرف واحد لأن الذات المتحدثة في النص معوقة ولا تستطيع أن تجاري الفتاة التي يعشقها فتى الأحلام! وأجد أن النص قد تضمن فائضاً لغوياً في الأسطر الخمس الأخيرة من النص لأنها تعيد انتاج ما تم تصويره شعرياً على نحو نثري يقلل من كثافة النص.
وفي قصيدة (في جنتي) للشاعرة نفسها، تتسع الرؤية الشعرية لتشمل أنواع العوق الأخرى. والحقيقة أن الثيمة الأساسية في القصيدة هي أن الجنة تتمثل بزوال حالة العوق أياً كان نوعه؛ ففي جنتها:
“في جنتي ليس هناك كراسٍ متحركة.”
ثم، تتلاحق الصور التي تشمل انواع الإعاقة الأخرى وفي الوقت نفسه تشكل جنة الشاعرة:
“ في جنتي، الجميع قادر على الحركة، الهبَة الأغلى والأثمن!.
في جنتي ليس هناك عصي مشي،
ولا كلاب مرشدة،
ولا طريقة برايل للقراءة،
ولا سبب للسقوط أرضاً،
ولا لغة إشارة،
ولا سماعات أذن مساعدة.
في جنتي، الجميع يسمع الكلمة المنطوقة،
وهذا يعني ان الجنة، هي الوجود البدني السوي في هذا العالم؛ وهو ما يعني ضمنياً رفض فكرة الجنة الميتافيزيقية المرتبطة بالفكر الديني.
وفي “الأمهات المُتميزات” يتبين معاناة امهات الأشخاص المعوقين وهن يبصرن عزلة أبنائهن وبناتهن ومعاناتهم، ومع ذلك فإنهن يتحملن آلامهن بصمت ويواصلن الابتسام إذ:
“ولكنهم، بعد كل ذلك، أطفالهنَ، فلذات أكبادهنَ،
عليهم مشاهدة كل ذلك مبتسمات.”
أن معاناة المعوقين لا تقتصر على شخوصهم حسب، وإنما تمتد لتشمل أسرهم، وبخاصة أمهاتهم.
ويفصح عنوان قصيدة سارة بريل “يمكنني القراءة بطريقة بريل!” عن طبيعة العوق الذي يصوره النص، وهو العمى. لذلك فإن السطر الثالث يعبر عن هذه الحالة إذ نقرأ:
“ليس بقدرتي أن أخبرك كم ثقباً هناك في لحاء تلك الشجرة،”
ثم تتوالى الصور التي تجسد، على نحو فني، معاناة الأعمى/ العمياء اليومية مع العالم الخارجي الذي يقتضي وجود حاسة البصر السليمة.
وبهذا فإن الشاعرة تعبر، على مضضٍ، عن قناعة بوضعها لأنها لم تفقد كل القدرات. فالقراءة بطريقة بريل تمثل نافذة على العالم من خلال المخيلة والتصور. ولنا أن نتساءل عن صورة العالم في ذاكرة الأعمى!
وفي “أنا” تتصدى الشاعرة نيكول ليونغو لمهمة تصوير الألم الداخلي العميق الذي تعانيه لأنها معوقة. وتقدم لنا حواراً شعرياً افتراضياً عن شخص مخاطب متسائلة: “ما الذي تراه عندما تنظر إلي؟” وثم تتساءل: “هل ستجرأ على النظر إلى الخلف، هل ستقبل أن تكون معلماً لي؟” كما تصور حالة الإحساس العميق بالكرامة الإنسانية إذ تقول:
“آه، هل سيأتي يوم تراني فيه على حقيقتي،
تراني كما أنا، إنسانة مثلك! أريد أن اعيش بكرامةٍ
أريد ان أضحك وأرقص وأغني!
وتتسع دلالة “كم هو جميل أن تقبلني كما أنا!” لتتعدى الطلب فتعبر ضمناً عن أن الذات المتحدثة في النص قد تصالحت مع ذاتها، وهذا يظهر أن المعنى الشعري قد اكتمل.
إن الشعر الذي كتبه من يعانون الإعاقة يمثل حقلاً أدبياً واسعاً لا يقتصر على شعر العميان، وهو حقلٌ جديرٌ بالدراسة والتأمل.