ينهض الكاتب بمهمة إضاءة الواقع من خلال وعيه الذاتي للشروط المهيمنة في صلب حراك هذا الواقع؛ لكنه لا يفعل ذلك بصيغة فكرية مباشرة، وإنما هو يقدم صيغة فنية قابلة للقراءة والتأويل للوقوف على الرؤيا الضمنية الكامنة في المستوى الأعمق من النص الذي يقوم على لعبة الإيماء لا التصريح. والحقيقة أن الراحل محمود جنداري كان ذا موقف واضح بخصوص الموقف من المتغيرات الاجتماعية، فهو يرى أن الكاتب، إذا كتب بتجرد، "فإنه لن يقول شيئاً ذا أهمية."* ولكن قصصه تكشف أن القضايا الفكرية الميتافيزيقية والفنية قد كانت حاضرة في نصوصه. وفي هذا الصدد، قدم محمود جنداري قصصاً تستند إلى بنية متناصة مع الأساطير على نحو واضح ومن خلال العنوانات الصريحة. لكنه في قصة "الحريق" المنشورة في مجلة "الأقلام" العدد 5 أيار 1977 يبتكر حكاية رمزية أقرب إلى الصيغة الأسطورية ليقدم رؤيا عميقة وصادمة لما كان يدور في العراق حينذاك ولما يمكن أن تؤول إليه الأمور. ففي الوقت الذي لم تكن شجرة النظام الشمولي قد طرحت كل ثمارها الفجة المسمومة، تأتي هذه القصة ذات البنية الأليغورية لتقدم رؤيا سوداء لما يمكن أن يحدث في المستقبل.
تبدأ القصة بلعبة فنية تنطوي على مغزى فكري ذي جوهر اجتماعي وفلسفي في آن واحد. فالسطر الأول من الاستهلال يبدأ بنقاط تشير إلى زمان سابق لزمان السرد يؤشر بداية غير مصرح بها، مما يضع على عاتق القارئ أن ينهض بمهمة صوغ هذه البداية بوصفها بعداً زمانياً ومكانياً لشخصيات وأحداث سابقة لم تدون في القصة من دون أن يكون هناك حد واضح للبعد الزمني الذي يسبق زمان القصة، وعلى النحو الآتي: "... كلما اقترب صيف وجد نفسه إزاء ذلك الجدار الطيني الرطب، يبحث فيه عن مكان ما لصنع ثغرة صغيرة تنفذ منها الشمس والهواء. وكلما انتهى صيف وجد نفسه قد أحجم عن فعل أيما شيء وبقي الجدار على حاله، عريضاً متماسكاً تراوغ عنه الشمس ويلتم على عفن الغرفة وظلامها ووحشتها. وبقي هو ينتظر صيفاً آخر، ويجزم بينه وبين نفسه بأنه هذه المرة لن يدعه يمر دون أن يفعل شيئاً، وحتى تجاوز الرابعة عشر بقليل. ومع اقتراب هذا الصيف أدرك أن استسلامه لهذا الاستياء، أسوأ من قيامه بالمحاولة، فأعد كل شيء تقريباً." ص 51. ويظهر هذا الاستهلال وفرة العناصر الترميزية المهيمنة على النص منذ اللحظة الأولى. ونجد أن هذه القصة، بما تقدمه من محاولة صبي أن يخرق حصار الجدار حتى يجد ضوء الشمس والهواء طريقهما إلى الغرفة إنما ترقى إلى مستوى النبوءة بما سيحدث في حال انهيار سيادة نظام الأشياء الماثلة في الواقع التي ينتظمها خطأ جوهري كامن في التصميم الأساس وفي العلاقات بين الأشياء والمكونات داخل هذا التصميم. وبما أن أية قراءة لا بد أن تتأثر بالسياق الاجتماعي والتاريخي، نجد أنه بعد أربعين عاماً على نشر هذه القصة، تظهر المقاطع الأخيرة منها وصفاً رمزياً متطابقاً إلى حد بعيد مع ما يجري الآن في البلاد؛ فنقرأ عن خطة الصبي لجعل النور والهواء يدخلان إلى الغرفة المعتمة، فنكتشف أن هناك "أعداداً كبيرة من الحيوات الهلامية التي لا سبيل إلى إيقافها وهي تندفع في شتى الاتجاهات، متوثبة كالخيول، سريعة الحركة كالطائرات الحربية الصغيرة، تركض على الصفيح والمرايا في دائرة الضوء، يخترق بعضها بعضاً وتلتحم رؤوسها مع أجنحتها مع هذا الظل الخفي الذي تتركه إزاءها." ونلاحظ هنا أن ذكر الطائرات الحربية يشير ضمناً إلى أن الواقعة أكبر من مجرد محاولة لصبي قليل الخبرة لتصميم آلية معينة تسمح للضوء والهواء بالدخول إلى مكان معتم، تلك المحاولة التي تنتهي بأن تلتهم النيران الغرفة نتيجة خطأ الصبي إذ يرمي عود القصب المشتعل لتتسرب النار إلى ملابس متروكة. وفي لحظة عدم إدراك الصبي خطر الحريق الماثل نقرأ: "لم يكن يفطن إلى شيء غير هذا الإحساس المريب بأنه يبصر وجهاً بريئاً يطل من بين هذه الوجوه المشوهة، وجهاً نقياً لم يكن واضحاً لكنه كان يبتسم وهو يتسلق خيطين أزرقين من النار. كان وجه الصبي تتقاطر من قسماته وداعة لا حدود لها، ويضع بين حين وآخر، كفه البيضاء المرتعشة أمام عينيه ويتمتم بشيء غامض. لكنه مع ذلك ما زال يبتسم بعسر، بحيث لم يفطن الصبي إلى نفسه إلا عندما أدرك أن هذا الوجه الأليف، كان يريد أن يفتح باباً في ذلك الجدار الطيني الرطب." ص. 54.
هكذا تنتهي القصة بلحظة سردية خصبة يتداخل فيها الرائي بالمرئي لتجسيد تدمير البراءة والطفولة، وفشل كل محاولات البحث عن الخلاص. هكذا تؤول القصة إلى صورة قاتمة تعبر عن رؤيا متشائمة في حكاية تحفل بالدلالات الرمزية التي يقترحها سياق القراءة ويسمح بها النص نفسه. وهي هنا تتحول إلى قصة ذات بنية دائرية تفصح عن أن الخروج من الأزمة ليس سوى ضرب من الأمل المستحيل.
في هذه القصة، وفي سواها، صار واضحاً أن بنية النص الشكلية قد غدت دالة ترتبط بالتحول من كتابة الوعي إلى وعي الكتابة وممكناتها وهو مما يسمح للكاتب في أن يوظف طاقة السرد الكاملة في الإفصاح عن رؤاه الذاتية للتجربة البشرية في شتى مستوياتها. فالشكل الفني صار معطى فكرياً دالاً على الرؤيا الاجتماعية والوجودية الشاملة التي كان محمود جنداري يروم التعبير عنها من خلال استثمار البنية الفنية والشكلية للقصة، فكان هذا النص القصصي القصير ولكن المكتنز جمالاً ودلالات. وقد جاءت قصة (الحريق) لتظهر كيف أن عملية المزج بين الفني والفكري واحدة من أهم الاستراتيجيات التي يتبعها المبدعون لتحقيق هدفين مهمين في آن واحد: الأول، العمل الحثيث على تطوير الفن القصصي؛ والثاني، التعبير عن موقف الرفض للظواهر الاجتماعية والسياسية المدانة في الوقت نفسه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ينظر: العبارة الافتتاحية من مقالة محمود جنداري "الوجه الواحد في خطوات المسافر نحو الموت". مجلة (الأقلام) العدد المزدوج 11-12، العام 1070.