قالت: كيف ترى المنهج الانطباعي في النقد؟
قلت: هناك كتابة يطلق عليها النقد الانطباعي، وليس هناك من منهج انطباعي في النقد.
قالت: عجباً! وكيف ذلك؟
قلت: تكمن المشكلة في وصف الكتابة الأدبية الانطباعية بالمنهجية. فمن المهم هنا أن نؤكد أن الوظيفة الأولى للمنهج تتمثل في تعظيم مقدار الموضوعية وتقليل مقدار الذاتية في الكتابة النقدية. فالمنهج مجموعة من الإجراءات المنظمة التي تهدف إلى تحقيق هذه الوظيفة على نحو موضوعي. وكما تعلمين فإن ما يكتب تحت اسم “المنهج الانطباعي في النقد” ينطلق من رؤية ذاتية للنص، ويعبر عن قناعته المطلقة بأن هذه الرؤية الذاتية للنص الأدبي لا تتعارض مع المنهج في شيء، وأنها يمكن أن تتخذ لنفسها مكاناً بين مناهج النقد الأدبي. ولكن الحقيقة هي خلاف ذلك. فعنصر الذاتية المهيمن على ما يسمى بـ(النقد الانطباعي) هي مما لا يفسح المجال، مطلقاً، لحضور المنهج العلمي. وقد يقول قائل إن المنهج، في حالة الكتابة الانطباعية في النقد، يقوم على عَدِّ الانطلاق من الذات المنشئة للنص النقدي على أنها حقيقة صلبة ماثلة في الممارسة النقدية؛ وهذا هو المقصود بالمنهج في النقد الانطباعي. وأرى أن هذا الرأي يقوم على عملية تفريغ لمصطلح المنهج من وظيفته الإجرائية ومن محتواه العلمي الموضوعي من جهة، ونسبة وظيفة مغايرة لطبيعته العلمية من خلال افتراض إمكان نسبة محتوى ذاتي محض إليه. وهي مغالطة منطقية واضحة لأن هذا الادعاء ينبني على مزاعم هي على النقيض من وظيفة المنهج. ولما كانت الذوات الكاتبة للنقد مختلفة الرؤى بخصوص النص الأدبي، شعراً أو قصة أو نصاً مسرحياً، لأن هذه الذوات إنما تعبر عن تجربة ذاتية في الجوهر مع عملية تلقي النصوص فإن هذا التصور للمنهج الذي يتبناه من ينتمون للانطباعية في النقد ينسف الوظيفة الأساسية للمنهج بالكامل. وهكذا يكون من الجائز لنا القول إن النزعة الانطباعية في النقد ليست من المنهج في شيء من دون أن تتهم بالتعسف في الرأي.
قالت: فكيف تتصور خصائص النقد الانطباعي أو ما تسميه (الكتابة الانطباعية)؟
قلت: يمكن أن نجمل أهم خصائص الكتابة الانطباعية في الآتي:
أنها لا تقدم تصوراً واضحاً لما تقصده بالمنهج في الكتابة الانطباعية، ولا تخوض في طبيعته أو إجراءاته:
انها لا تناقش وظيفة المنهج أو علاقته بكل من: (أ) النص موضوع النقد الانطباعي، (ب) النص الانطباعي الناقد، (ت) القارئ بوصفه قارئاً لما ورد في (أ) و(ب).
وفي ممارسة الكتابة النقدية الانطباعية، فأنها لا تحفل كثيراً بتدعيم الآراء التي توردها بالحجج النصية الكافية. وفي كثير من الأحيان، تكتفي بإيراد الآراء على نحو مرسل، وكأن (الناقد) الانطباعي قد امتلك حق الإفتاء وتزكية النصوص أو إدانتها.
إن جلَّ ما تفعله الكتابة الانطباعية هو تفسير النص الأدبي من خلال حياة المؤلف، وتفسير مختلف جوانب حياة المؤلف من خلال نصه الأدبي. وهذا الأمر قد يبدو علمياً، ولكن تاريخ النقد الأدبي يخبرنا أن النصوص الأدبية تختلف، كثيراً أو قليلاً، عن حياة المؤلف. وفي بعض الأحيان قد تكون النصوص الأدبية مناقضة تماماً لسيرة المؤلف أو مسارة العقلي.
أنها تقوم على مبدأ الاستهواء البلاغي لغواية القارئ وجعله يتماهى مع موقف الناقد الانطباعي. وهذا سوف ينعكس في الأداء الكلامي (اللغة)، التي يتم تدوين الكتابة الانطباعية من خلالها، فتشيع فيه النزعة البلاغية من دون حاجة أو ضرورة.
قالت: لكن هناك أسماء معروفة اشتهرت بالنقد الانطباعي وهي تتحدث عن المنهج الانطباعي في النقد، منها الدكتور علي جواد الطاهر وعبد الجبار عباس وسواهما كثير، فضلاً عن وجود عدد كبير من البحوث الأكاديمية وغيرها التي تتبنى هذا المصطلح في الإشارة إلى ما يكتبون؛ أفلا ترى أنك قد أسرفت في القول فتطرفت؟
قلت: لعلي لا أجافي الحقيقة حين أقول إن الكثير مما يتم إنجازه من بحوث ودراسات في حقول العلوم الإنسانية في المؤسسات الأكاديمية يفتقر إلى الدقة في استخدام المصطلحات. وهذه مشكلة مزمنة ومشخصة ولا ينكرها إلَّا معاند. ولعل هذا الأمر ينطبق على نحو أعظم على ما يجري من دراسات تحت مصطلح المنهج الانطباعي؛ فهي دراسات تنحرف عن الدلالة الدقيقة لمفهوم المنهج، ولا تبدي اهتماماً حقيقياً بمسألة البحث النقدي الدقيق في الحدود المعرفية للمصطلحات وعلاقة ذلك بفلسفة العلم. وهي إذ تفعل ذلك، فإنها تتذرع بحجة واهية متمثلة بمقولة “لا مشاحة في المصطلح” حتى أن البعض تصور أن هذه الحجة تتيح له إمكانية استخدام المصطلح نفسه بمعانٍ مختلفة في البحث نفسه؛ فتصوري!
قالت: هل يعني هذا أن كل ما يكتب على وفق المنهج الأكاديمي في حقل الدراسات الأدبية والنقدية لا يخلو من التأثير الانطباعي؟
قلت: بل إن الكثير منه ليس سوى كتابة انطباعية لا علاقة لها بأي منهج.
قالتْ: والآن، وإذا لم يكن ما يطلق عليه البعض اسم (النقد الانطباعي) دقيقاً، فأين تضعه؟
قلتُ: المكان الحقيقي لما يُسمى بالنقد الانطباعي هو حقل المقالة الأدبية حين يتخذ كاتبها نصاً أدبياً معيناً ليجعله موضوعاً لمقالته. ولعل ما يدعم هذا الرأي هو أننا نلاحظ أن أغلب من يكتبون المقالة الأدبية يحررون أيضاً مقالات يسمونها النقد الانطباعي؛ ولو درسنا كتاباتهم في الحقلين، لرأينا أن هناك مشتركات بنيوية، وأسلوبية ورؤيوية كثيرة تربط بين ما يكتبونه من مقالة أدبية وما يحلو لهم أن يطلقوا عليه (النقد الانطباعي). ثم أنهم يستكملون ذلك بالقول إن ما يحررون من كتابة انطباعية إنما هي منهج مستقل تماماً؛ وقد بيننا أن الكتابة الانطباعية تقوم، أساساً، على التهرب من الاستحقاقات الموضوعية والمعرفية لمفهوم المنهج والاحتماء بمفهوم الذات المنشأة للكتابة الانطباعية بوصفها الحقيقة الأهم التي لا ينهض النقد الأدبي إلا حين تكون هذه الذات هي قطب الرحى.
قالتْ: وأخيراً، أود القول إنني ما زلت أختلف معك!
قلتُ: وهذا هو المهم والمطلوب.

عرض مقالات: