لعل الخصيصة الأساسية للأدب، في شتى صوره من شعر وقصة ورواية ونص مسرحي، أنه ذو طبيعة وجودية وكيانية شاملة؛ فهو يقوم على استبطان مضامين التجربة الوجودية والاجتماعية والتأمل في جوانبها المختلفة: الفردية والاجتماعية، العيانية والميتافيزيقية، الذاتية والموضوعية. وبناء على هذا التأمل، تنشأ الذات الرائية للنص الأدبي من خلال قيامها بنسج تصوراتها الخاصة والفريدة لهذه التجربة وطرحها للمتلقي تعبيراً عن حاجة نفسية داخلية متمكنة من النفس البشرية. وهذا ما سيؤدي بالضرورة إلى تحقق حالة التعبير عن لحظة فائقة الخصوصية ذات صلة وثيقة بالجانب الميتافيزيقي من النفس الإنسانية. وتتخذ هذه التصورات صيغاً لسانية متباينة ولكنها ذات أشكال محددة وراسخة فنياً لأنها مكرسة عبر التجربة الأدبية والتقاليد الأدبية على مدى التاريخ. وهي صيغ وأشكال تتصل بالوجود الفردي والمجتمعي للإنسان في لحظته الراهنة، وفي ما يتجاوز هذه اللحظة. ونلاحظ هنا أن هذه الصيغ والأشكال لا تتكافل في دورها الأساس، إذ أن كل تجربة أدبية يجب أن تحوز ما يؤهلها لكي تنتمي الى السياق الإبداعي والأجناسي، وفي الوقت نفسه يجب أن تنطوي على قدر من التجاوز والانحراف عن هذه التقاليد. والحقيقة أن النصوص المعبرة عن التجربة الوجودية لا تتكافأ من حيث النجاعة وعمق التصورات وما تقترحه من اتجاهات التفسير التي يمكن أن تعزى للنص الأدبي. وهكذا يعمد المؤلف إلى تقديم نصه الأدبي ذي الوجود النوعي الذي يغدو مستقلاً عن الذات التي أنشأته وعن بواعث إنشائه الأولى في عملية تعويم شاملة وكلية لجوهر متعال هو جوهر العملية الجمالية التأملية التي تفرزها النصوص الأدبية أثناء الإنشاء. وفي حال تحقيق هذه النصوص لدرجة مقبولة من النجاح الفني، فإنها ستحوز المقدرة على إحداث إثارة جمالية في نفس المتلقي؛ وهذه الإثارة لا تتطابق، بالضرورة، مع تلك التجربة الجمالية التي تشكلت في نفس منشئ النص أثناء كتابته. على أن هذا الجوهر المتعالي للتجربة الأدبية الكيانية الشاملة يرتبط على نحو وثيق بالخصائص الفنية للنص الأدبي من جهة، وبالسياق النفسي والاجتماعي والتاريخي لعملية إنشاء النص ولعملية التلقي من جهة أخرى.
ولكن ما هي مهمات النقد الأدبي؟
لما كان الأدب، وهو موضوع النقد الأدبي الأساسي، تعبيراً عن تجربة كيانية شاملة، فإن النقد كلام أدبي ومعرفي يدرس الصياغات الأدبية وعلاقاتها المتشابكة مع التجربة الوجودية الشاملة. ومن هنا فإنه يتحمل أعباء مهمة عظيمة وذات تأثير بالغ في شتى الأنواع الأدبية وفي كل الحضارات. ومن الناحية التاريخية، تسبق التأملات الفطرية بخصوص الحاجة للتعبير عن الجوانب الشاملة في التجربة الوجودية، عملية التأمل الفلسفي المنظم بخصوص هذه التجربة. وتكشف الأدلة الأركيولوجية والنصوص الأدبية عن مثل هذا السَبْقِ التاريخي للتأمل الفطري على التصور الفلسفي المنظم؛ فمثلاً، تشير رسوم الكهوف، التي تعود إلى أزمنة سحيقة في العصر الحجري قبل ما يقرب من أربعين ألف سنة، إلى تمكن فكرة الحاجة للتعبير الجمالي عن التجربة المعيشة. ومن الناحية التقنية، تعد هذه الرسوم تعبيراً ينتمي للفن التشكيلي، ولكنها في الوقت نفسه تمثل نصوصاً أو مدونات القصد منها التواصل مع الآخرين قبل اختراع الكتابة بأكثر من ثلاثين ألف سنة. ولعل الملاحم المدونة في الهند وبلاد ما بين النهرين، التي تعود إلى أكثر من ألفي عام قبل الميلاد، خير دليل يؤكد أسبقية التأمل الفكري في التجربة الجمالية المرتبطة بالرسوم والنصوص الأدبية على التأمل الفلسفي بخصوص هذه التجربة، وهذا التأمل شهد مرحلة النضج والتحول إلى فكر فلسفي جمالي وذلك في الحضارة الإغريقية في مرحلة مهمة من تاريخ الحضارة تعود إلى حوالي خمسة قرون قبل الميلاد.
ومهما يكن من أمر، فإن وظائف النقد ومهماته، على وفق ما استقر في نظرية النقد الأدبي، تكاد تنحصر في الآتي:
الكشف عن طبيعة التجربة المطروحة في النص الأدبي، وبيان أبعادها الاجتماعية والفلسفية.
إثارة الأسئلة الجوهرية بخصوص آليات تشكل الرؤيا الفنية ونموها العضوي في النص.
الكشف عن مدى العلاقة التي تربط هذه التجربة بمجمل التاريخ الثقافي للبيئة المجتمعية التي انتجت النص المدروس عبر المؤلف.
بيان آليات الاستجابة المتحققة نتيجة ممارسة النص لفعله الجمالي في عملية المتلقي.
وتستند الفقرة الأخيرة على حقيقة مهمة هي أن الناقد ليس سوى ذات بشرية متلقية للنص. ولكنه ذات تتميز بكونها خبيرة وقادرة على تقديم تجربة التلقي في صيغة قراءة مدونة ستكون جزءاً من تاريخ الأدب والنقد. بيد أن ما تكشف عنه القراءة النقدية المدونة ليست حكماً مطلقاً أو نهائياً على ما تزخر به النصوص من إمكانات فكرية وجمالية؛ فهي بحكم ارتباطها الوثيق بذات الناقد الفرد لا تقدم إلا رؤية نسبية؛ وتكتسب هذه الرؤية جدارتها ومقدرتها على الفعل والتأثير من خلال اتساقها المنهجي والمعرفي والثقافي ومن المقدرة، عبر الوسائل النصية، على الارتقاء بفعل التلقي إلى مصاف الفعل التخييلي المتمثل في النص الأدبي, وينبغي للناقد أن يحافظ على المسافة الفاصلة بين تخييل الإنشاء الأدبي، وهو تخييل يفترض فيه أن يعبر عن رؤيا المبدع، وتخييل تلقي الإنشاء الأدبي الذي ينبغي أن يكشف عن طاقة البناء النقدي الذي يستمد حيويته من العمق في التأمل من دون الوقوع في أسر رؤيا المبدع.
هكذا يصبح واضحاً أن النتاج النقدي لكل ناقد ليس سوى عملية تراكمية، كمية ونوعية، لصيرورة الوعي النقدي لدى الناقد، وعلى وفق السياق الزمني المحدد لتطور هذا الوعي وتحولاته. ولذلك فإن كل ما يكتبه الناقد سيخضع لمنطق الذاكرة بوصف أن شخصية الناقد تتشكل، زمنياً، عبر محطات وتجارب متعددة تعطي التاريخ الشخصي للناقد وجوداً فاعلاً في التاريخ الأدبي. بيد أن ذاكرة الناقد ليست مخزناً للأشياء المستهلكة أو الصدئة، إنما هي كشف، وبيان، وتجسيد للدينامية والجدل اللذين يحتدمان في الذات الناقدة من جهة، وعن الصيرورة في الرؤيا والبناء الماثلين في النتاج الأدبي موضوع النقد من جهة أخرى. إنها تكشف عن علاقة حوارية عميقة وخاصة، وتتسم بالامتداد الزماني مع النتاج الأدبي، فضلاً عن أنها تقترح، وتومئ إلى سبل تلقي ذلك النتاج التي يمكن أن تنهض بمهمة توليد الأثر الجمالي لدى القراءة. ولا بد أن يكون هذا الإيماء متوافقاً مع التطور الإبداعي للنصوص الأدبية، ومع التطور المعرفي للناقد حتى يسهم في تطوير الذائقة الأدبية.
مما لا شك فيه لدي، أن تطوير الذائقة الأدبية مهمة جوهرية أخرى من مهمات النقد الأدبي. إنها المهمة التي لا تقل شأناً عن المهمات الأخرى المذكورة سابقاً. وهي مهمة لها جوانب معرفية صريحة، وأخرى بيداغوجية ضمنية. ولكنها ليست مما تجري ملاحظته ومراقبة تأثيره على نحو مباشر لأن تأثيرها النهائي بطيء ولكنه حثيث. وعلى أية حال، فإن مهمة تطوير الذائقة الأدبية تؤدي فعلها التنويري البيداغوجي من خلال الكشف عما هو جديد في النصوص الأدبية والتحفيز الضمني للمتلقي حتى يتفاعل على نحو إيجابي مع كل ما هو جديد وممتع.

عرض مقالات: