مشى المواطن الأفريقي نلسون مانديلا ٥٠ عاماً  ، نحو الحرية ،

مشى على جسرٍ من التضحيات ، حتى حصل شعبه عليها  . 

الحرية ، نفسها ، تمشي ، وميضاً و لهباً ، بخافقيها نحو  المواطن العراقي ، مظفر النواب .

برقٌ يبرق في أنحاء الغيوم يقول : أنا الحرية .. أنا ، بقوامٍ ممشوقٍ ، أرفع صوتي ، رخيماً ،  امام الريل ،

امام حمد ،

امام ( النقرة).

الحرية تنادي:

لا تكتموا السر .. لا تخفوا شيئاً: 

أنا  أطأطأ رأسي   لكل شهيد عراقي سما الى العُلا :

أنا منكَ إليكَ . 

يا قطار الليل. 

لأن أهم صفة من صفات الشاعر مظفر النواب هي (الغيرة الوطنية ) فأنه حظي بصديقٍ قادمٍ من قريةٍ، ليستْ مطلّةً على بحرٍ و لا يطل عليها جبلٌ،  لكنها من ربضةٍ خصيبةٍ بغاباتِ البرتقال   .

حظي بصداقةِ إنسانٍ مشى الى الحرية ،

كما مشتْ إليه من مدينةٍ اسمها هويدر،

اشتمل  على طائفةٍ من خصالٍ  طيباتٍ ،

خصالٍ نلسنياتٍ مندلياتٍ ،

خصالٍ نادرات ٍ ،  بهذا العصر و الزمان،  في مقدمتها انه موهوب منذ أيام شبابه بمعرفةٍ عقليةٍ قائلة : إرادة الخير تنتصر بالشعر وبالسلالة الشريفة من الشعراء  وبكل الأصدقاء . المنحدرين من  اقوال الحرية و افعالها .

من اكثر مراحل  حياة صديق  الشعر و الشاعر ،  الدكتور عزيز الشيباني، صعوبةً ، منذ ولادتهِ عام ١٩٥٩ في قرية الهويدر بمحافظة ديالى،  أي في نفس عام ولادة  قصيدة الريل و حمد، هي الفترة الحالية ، المليئة بالعقد  الكبرى ، المختلفة ،   حين يقدّر الدكتور الشيباني - بالعلوم و المعرفة - ان (الباركنسون) ليس مرضاً من امراض المشقة المتعالية على أعصاب الدماغ الإنساني . هو عدو شرس ،

يولد ملعوناً،

يغضب ملعوناً و يفرح ملعوناً عند التعب و الأوجاع.   

مرض ملحاح ،  يقتحم دماغ صاحبه ( مظفر النواب) بمسافاتٍ تجعله  عاجزاً عن إيجاد الصلة العملية بين (التمني) في شفاء الشاعر مظفر النواب و بين ازمة (الواقع)  الصحي ، المحيط بدماغ الشاعر، النواب . ليس عجزاً علمياً – طبياً ، لكنه عجز الزمان المكاني ، أي بُعد المسافة بين هيوستن الامريكية ، حيث عيادة (الطبيب ) و بين شقةِ صديقهِ الأعز  (المريض)  في مدينة الشارقة الاماراتية  ، دون ان يستطيع اسكات  صوت  العدو الشرس المنغرس بين اعصاب دماغ صاحبه الشاعر .  لا تثمر مع هذا العدو ، أية حركة متتابعة ، دوائية او فلسفية ، لإيقاف عمليات الباركنسون  المشوشة لأعصاب دماغ الشاعر مظفر النواب  ، مهما كانت الاستكشافات السيكولوجية للشخصية الشاعرية بمكانها الصحيح، مكان نيلسون مانديلا في التاريخ الحديث. 

التقى الغيوران بصداقةٍ سارتْ بطريقٍ ليست مخصصة للخوف او الموت ، بل سارتْ بطريقِ نلسون مانديلا ، طريق  (حقوق الانسان) ، طريق موحدة ، يمشيان  ، معاً،  في حقول الغيرة الوطنية. احدهما يغار على (الطب) و الاخر يغار على (الشعر) . كلُ واحدٍ، منهما ، مدفوعٌ الى حبِ الوطن بأعلى أشكال الغيرة . مظفر النواب شاعر غيور من نوع انه لا يغضب بوجه احد من الاصحاب و الخصوم و الأعداء، ربما الغضب مضمور بداخله .. ربما الغضب يمكن ملاحظته بنبرات صوته اثناء القاء قصيدة من قصائده الشعبية عندها يكون صوته غاضبا مسموعا مهما ارتفعت الاف الايدي من اشخاص جالسين امامه في قاعة كبرى او في ساحة عامة او ما شابه  ملوحين له بتأييدٍ  و تصفيقٍ . الشيء المهم ، الذي يجب ان يكون متوفرا هو الأرض و الماء و الهواء .

الأرض يقف عليها في اثناء القاء القصيدة ،

الماء يشربه ، حتى يستطيع استعادة ذهبية صوتهِ،  بعد كل بيتٍ شعريٍ من ابيات قصيدته.

يحتاج  من الهواء الى مركبه الأوكسجين  ، كي يواصل القراءة و الإلقاء  حتى نهاية القصيدة .

ينحدر مظفر النواب بصوتهِ من الشعب الى اسماع الشعب. لا يستوطن بيتاً إلّا الأرض ينام عليها و الماء يشرب منه و الاوكسجين يتنفس منه وفيه  .

ما يهمه  عمّا يحدث في ما   وراء الباب او النافذة إلّا شيئاً واحداً هو ان لا يُجبِر الراعون رعيتهم على العيش القسري  بالحظائر في شرق غياب الضمير العشائري أو في غرب موقف السفن القومية أو في حشودِ غزوِ البلدان و الشعوب و تجريف حقوق الانسان تحت حوافر المدفعية و الدبابات  أو تحت سياط بناة السجون و المعتقلات .

لا يهمه ان يكون ما يرتديه ثوباً محفوظاً من الخرق او ليس محفوظاً . لا يود تلبية دعوات بني سلمى او بني سالم . لا يحمل سيفاً عشائرياً ، يرفضه.. لأنه يريد ان يظل مستمراً في السير مع الذين هربوا من وجوهٍ ليست بيضاء ،  وجوه من آل الفلان او العلاّن . لا يستحي من مواجهة القطن المندوف ليقول له صراحة القول : انك قطن مندوف .. ندفك ندّاف و حملك ندّاف و توكّل بك ،  بنهاية المطاف،  ندّاف. 

لا يخجل مظفر النواب من القول الحق لأن نطفته من ماءٍ صافٍ قرب  أشجار حمراء ، نَمَتْ في أرضٍ ممتدةٍ من البصرة و انتشرت حول الأنهار و في الوديان ، التي كان مهرها ثلجاً بكل شتاءٍ و زفافها موكب جارٍ مع سعة المياه في نهرين كبيرين ، فرات و دجلة،  بكل صيف.

بعض الأصدقاء يرى ان الشيء الغريب في مسلكية  مظفر النواب أنه  يهوى السباحة في نهر الفرات أكثر من السباحة في  نهر دجلة .  آخرون يسارعون إلى تفنيدِ هذا القول حيث ، يتوجون عيني الحبِ لدى الشاعر مظفر النواب  في أنه يهوى السباحة في النهرين بنفس الدرجة من الحب . يعتقد أن جسده يزداد قوة إذا سبح في أي واحدٍ منهما .  تظل جميع  نبال جوقة التعذيب و ( التحقيق)  في سراديب التحقيقات الجنائية و من ثم في قصر النهاية و مقرات الحرس القومي بكل المدن العراقية . بإمكانها أن  تنهي حياة مَنْ توجه الى صدورها،  لكنها تعجز عن إنهاء  ما يؤمنون به .  تلك النبال تجد مقاومة حديدية في اجساد من سبحوا بمياه دجلة و الفرات و جميع فروعها. كان مظفر النواب قد احكم صنعة السباحة في دجلة سلمان باك و الكاظمية و الطارمية ، كما اتقن السباحة في نهر الحلة و العباسية و الحسينية . كذلك  حمّ جسده في شط العرب و في فروعِ أنهرٍ أخرى .

فعل مظفر النواب مثلما فعل  الجواهري و البياتي  و بحر العلوم و محمد سعيد الصكَار و شيركو بيكه سه  وعشرات الشعراء العراقيين  الآخرين  . انتزع لعينيه مياهً باردةً و حارةً من كل بقعة من بقاع العراق يمر فيها هواء بارد في  وقت الغروب الحار أو  يدفأ جسده بحرارة الشمس في ظهرية يومٍ كانونيٍ بارد . نعم مظفر النواب ليس شاعراً اعتيادياً . درس وضعية الظالم و المظلوم بكل العهود و تحت جميع انواع الحكومات المتعاقبة  . عرف صوت البقر عند خوفها من هجمة الكلاب في أهوار العمارة و الناصرية  . تعلّم الفرق بين روائح البخور المشتعلة في يوم العيد عن صفات البخور المشتعل في احتفالٍ  من احتفالات الأحزان بالمناسبات العراقية الكثيرة .  تعلّم أسباب حب الفتاة العراقية أكل الخوخ و التين و التمر قبل الوقوف امام النافذة المطلة على الشارع .

تعلّمَ كل شيء عن علاقة العرب و العجم في النضال المشترك ضد العدو الأجنبي المشترك  .. تعلّمَ  تهديم هذه العلاقة  عندما وجد نفسه معتقلاً في طهران بأيدٍ تدربتْ من دونِ حياءٍ على أيادٍ عراقيةٍ من وحوشِ جهنم تحت مسمى (الحرس القومي). . 

لا يتقاعس مظفر  النواب  عن القراءة و لا عن الانغمار بكتابةِ قصيدةٍ ، بكلِ يومٍ من أيامِ صحوهِ و كمالِ  صحته.    يبالغ ، أحياناً،  في إكرام ما يكتبه من اشعارٍ  للشعب العراقي، كله.   أحيانا أخرى لا يبالغ  حين يكرّم المناضلين العرب و بالمقدمة منهم ، الفلسطينيين و مناضلين آخرين من كلِ لونٍ و جنسٍ و جنسيةٍ من مصريين و لبنانيين و جزائريين و غيرهم  . لا يعصي امر ضميره في الحالين.  

مضى زمانٌ ليس قصيراً من زمانٍ عاشه عراقي آخر اسمه عزيز الشيباني. مناضلٌ مدوّنٌ ،منذ فترة يفاعته، على أرض مدارس   محافظة ديالى.  خاض النضالات الصعبة دفاعاً عن تقدمية الشعب وعن  تاريخ الوطن بمغامراتِ الصعود الى جبال كردستان،  استمراراً لبلاغ التاريخ،  بذلك الزمان.   وضع يده مع يدِ آخرين من أبناء بلدته للمطالبة ببقاء وطنه و شعبه و عائلته ، أحياءً كرماء، كي  لا تصيبهم مصيبة من مصائب الوطن العراقي،  المنهك بإنظمةِ حكمٍ دكتاتوريةٍ،  معادية للشعب و المواطنين، انهكتْ نفسها بإتقان أساليب حراس  8 شباط 1963 .

 تعذّر على الشاب عزيز الشيباني ضمان حيوية التواصل في اثناء وجوده في الوطن .  ما استطاع ان يمتلك حياته في بغداد، مما اضطرّ ان يتجه نحو كردستان، لمقاومة السلاح الدكتاتوري ، المرير. وجد نفسه مسؤولاً عن معالجةِ و مشافاةِ  المناضلين الجبليين ، الجرحى.  كان يتشبث بالقليل من الأدوية و الشحيح من المعدات ليحفّ جراح رفاقه المقاتلين ، اضطراراً،  في الجبال الكردية  ، حتى اندلعتْ أمامه،  نار الهجرة الاضطرارية  من العراق الى سوريا.  

كان يغشي على صوت مظفر منذ اول يوم وضع قدميه على تربة البلد السوري ثم التقط في يومٍ ما من أيام العيش في دمشق لاقطةً ، تنشد :  (هودر هواهم) .

كان اول معنى من معاني (هودر هواهم )  في دمشق الشام  هو الهتاف باسم : (مرينة بيكم حمد واحنه بغطار الليل)  .. ثم مدّ يده إلى  أنديةِ الأدباء و الشعراء بدمشق ، لكي يكتشف ، بيدهِ،   وتد الخيمة الثقافية لمن كان يحلم بلقائهِ،  منذ أيام اليفاعة ، أيام  البحث عن (صانع الريل و حمد)  و شاعرها مظفر النواب .

هذا الشاعر موجود ، هنا، و طبيب المرضى ، هنا في دمشق ، أيضاً.  لابدّ من العناق بينهما ، بين الطبيب و المريض ، بين الشاعر و محب الشاعر،  بين الرفيق و الرفيق،  بين شمسٍ و قمرٍ متألقين بإنسانيتهما .

لا يتوقف اسم مظفر النواب  ، عن الظهور بكل مكان فيه ضمائر عراقية ، مناضلة من اجل الحرية . كما لا يتوقف اسم الطبيب (عزيز) لأنه ناصَرَ الضمائر المتيقظة ، الماشية نحو الحرية ، مثلما مشى نحوها نلسن مانديلا و مارتن لوثر كنك و انجيلا ديفز و تومان العبد أو كما ساغ لنا الدكتور فيصل السامر عما مضى عن مشية  ثورة الزنج في الكوفة و البصرة و اتجاهها نحو البحرين .

اسمان عراقيان لشابين  تلازما بعد عقودٍ من  التهاب أعصاب بلدهما ، كان  يستدعي علاجاً طبياً .. املهما الأول هو فك الحصار عن رغبتهما المشتركة  بتحقيق التقاءِ الأثنين :

  • في مرحلة شباب مظفر النواب ، مرحلة صدور قصيدةٍ اسمها الريل و حمد ، كان عزيز الشيباني  بمرحلة الطفولة  .. تتبصر  عيناه بالقصيدة متمنياً التعرف على صانعها.
  • في مرحلة الكهولة المظفرية ،   آخر الثمانينات ، حقّق عزيز الشيباني  بمدينة دمشق ، الهارب إليها من كردستان ، حلم اللقاء بالشاعر المحفور اسمه مع قصيدة الريل في أوّل صفحةٍ من ذاكرتهِ . صارا من أصدقاء دهرٍ، متباين العقائد،  متنازع الأهداف .. لكنهما أوجدا،  بصداقتهما، فعل التاريخ بين علوم أعصاب الدماغ و وجدان النهوض بأعباء ابداع الدماغ كي يكون للعالم وحدةً حيويةً .
  • في فترة التسعينات من القرن الماضي هجم مكروهٌ اسمه (باركنسون) على دماغ الشاعر مظفر النواب . فما كان من رفيقه  الطبيب ،المشاع علمه في ولاية هيوستن  بالولايات المتحدة الامريكية ، غير حفظ دموعه وتنظيم زيارة طبية،  خاصة و سريعة ،  يقوم بها مظفر النواب الى  الولاية  الْامريكيةٍ ، حيث مشفى الدكتور عزيز. استمرتْ الزيارة ثلاث شهور قضاها مظفر سعيداً ، معتنى به إلى أقصى حدٍ، في مشتملِ دار الدكتور عزيز. كانت جميع فحوصات الجسد و الدماغ ، كاملة ، شاملة و بلا قيود ومن دون تحميل الشاعر المريض  أية كلفةٍ مالية .

اصغى مظفر النواب لوصايا الأطباء الامريكان في مقدمتهم الدكتور عزيز، الذين حاولوا بكل جهدهم ، القضاء على آثام باركنسون و غطرستهِ الصلفة على دماغ الشاعر الملهم .

عادَ مظفر النواب الى ديارهِ السورية،   الى دمشق،  متعهداً الالتزام بتوصياتٍ لا علاقة لها بمؤونة الشعرِ أو ربما يتراجع (حصن)  الشعر امام غضب  باركنسون  .  لكي نتعرف على حجج الدهر المعاصر سنظل  بانتظار  الوعد النبيل الموسوم باسم (عزيز الشيباني) ، أن يكون مقتبل النشاط العصبي – الإبداعي بين (الطبيب) و (المريض)  ان يكشف لنا  الطبيب عزيز الشيباني  مضامين تسجيلات اللقاء بين الشعر العراقي  و الأيديولوجيا الامريكية  ،  بين الشاعر العراقي (مظفر النواب) و المفكر الأمريكي (تشومسكي) في تلك الفترة ،  للتعرف على جلسة نقاش،  فريدة النوع ، لا شك أنها  كانت جريئة و فهيمة،  من ابتكار عقلين، جريئين ، فهيمين، نظمها باقتراحٍ من مظفر و دبّرها و قام بدور المترجم   الدكتور عزيز الشيباني ،صاحب العقل الطبي ،  الواسع الفهم و الجرأة  ،  الباحث عمّا وراء أعصاب المخ البشري  .

ظلّ الدكتور عزيز مضطرباً، منذ تلك الزيارة حتى اليوم،  لأن المرض الشرير قرّر أن يجاور دماغ مظفر النواب ، رافضاً مغادرتهِ.

صار الشاعر ، مطعوناً، مأسوراً. ربما تتخلى يده عن صولجانِ الشعرِ. صار مظفر النواب بحاجةٍ ماسةٍ إلى معينٍ، شجاعٍ ،  يعينه في تغشية جميع أمور حياته،  بمثل هذه السن الصعبة  و بمثل هذا المرض الأصعب .  منذ تلك الفترة صار من واجب صديق مظفر النواب ،   السيد (حازم الشيخ)  أن يكون راعياً وحيداً للشاعر النواب. عليه أن يطير منتقلاً بأجنحته، ليلاً و نهاراً،  في مطبخ البيت ومكتبه و فراشه و ادويته و حمّامه ،  كأنه (قسم عام ) مهمته تبديد الرعب عن صحة الشاعر النواب  وتقديم الرعاية الطبية بالساعات على امتداد كل 24 ساعة . جاء  هذا الانسان خلاصاً مقدّراً لرعاية المريض مظفر النواب ، منتقلين في العيش ، معاً، من شقةٍ بدمشق الى شقةٍ في  بيروت ثم الى شقةِ  الشارقة،  حسب اجبارية نظام الخلاص بالكلفة المالية الخاصة.  

  من اكثر مراحل حياة الدكتور الشيباني صعوبةً، منذ ولادته عام ١٩٥٩ في قرية الهويدر بمحافظة ديالى ، أي في نفس عام ولادة  قصيدة الريل و حمد، هي الفترة الحالية ، حين يقدّر الدكتور عزيز  الشيباني بالعلوم و المعرفة ان الباركنسون  إذ يقتحم دماغ صاحبه فأنه يجد نفسه ، بعيداً ،  ليس قادراً على تجاوز  بُعْدِ المسافة بين هيوستن الامريكية ، عيادة الطبيب و بين شقة المريض  في مدينة الشارقة الاماراتية  . صديق الشعر و وقصيدة (الريل)   لا  يستطيع وقف حركة عدوٍ شرسٍ بين اعصاب دماغ صاحبه الشاعر مظفر. لا تثمر معه أية حركة متابعة ، دوائية او فلسفية ، لإيقاف عمليات عدو اصم  .. لا يسمعْ و لا يتكلمْ،  هو الباركنسون  المشوش للدماغ الشاعري .

 الباركنسون عدوٌ آثمٌ، متجبرٌ،  تفيض حيويته عدواناً متزايداً بكل ساعةٍ من ساعات حياة مظفر النواب ، الذي بُليتْ اعصابه بما يوقف تدفق بهاء قلمهِ  و انتعاشِ اشعارهِ الأخيرة،  قبل  ان يرتكب باركنسون إثماً أخيراً بأذيتنا ، نحن العراقيين ،  عبر ترحيل شاعرنا الفذّ إلى عالمٍ يبهج جميع أعداء حرية نلسون مانديلا. 

أوجد الدكتور عزيز الشيباني حقيقةً تفاؤليةً جديدةً بين (الطب) و (الشعر) من خلال  ما رسمه لنا ، من  قدرةٍ إدراكيةٍ، قويةٍ،  في ما يتعلق بفعالية الجانب الإبداعي من اعصاب الدماغ الانساني . لقد أجّجَ ابحاثه الطبية – العلمية عسى ان تتصاعد منها بقعةُ عطرٍ مجمّرة بدواءٍ يقي أعصاب و امخاخ انسان المستقبل و شعرائه و كل المبدعين.  من حسن حظنا أن يمنحنا التاريخ الطبي  موهبةً عراقيةً، ما وجدنا مثيلاً لها منذ الاغريق و العصر العباسي ،حتى اليوم ، بما يقوم به و يتصدى له ، الدكتور عزيز الشيباني ، العالم الدماغي، تعليلاً و جراحةً ،  مكرساً تأليفاته  الإيجابية ، عن طاقات العلاقة بين الفن و الادب و الشعر و أعصاب الدماغ.  إنه يتولّى جهداً عصرياً ليتشوّف ما بين الوعي و اللاوعي في أفكار المفكرين و المبدعين ، في عصرنا الراهن،  عصر الأعماق الكونية لتوطيد الحرية الإنسانية بالمنطق التاريخي و الجغرافي ، على وفق معطيات المناضل التاريخي نلسون مانديلا .

ألقى الطبيب الشيباني ، العديد من أسس و  مفاهيم نظريته العلمية – الطبية  بمراكز أبحاث علمية كثيرة في أمريكا  و اسبانيا و أمستردام و غيرها. كما ألقى محاضرات باللغة العربية في بغداد و هولندا  امام منتديات عراقية و عربية.  تناولتْ محاضراته ، جوهر  العلاقة المتناسقة ، بين المحتوى الإبداعي  و الشكل الإبداعي، تعبيراً  عن ذاتية و موضوعية ( الوهم) و (الحقيقة) حول حضور واستيعاب  نظرية العلاج بـ( الوهم) كوسيلة علمية – طبية .  لقد جعل العنصر الإبداعي  المعاصر يبدو تطبيقاً لكل إمكانيات الرقيّ بالواقع الإبداعي ، الثقافي – الاجتماعي  و دور اعصاب المخ في هذا الرقي. أشار بمحاضراته الى ابداعية شاعرية صاحب الريل و حمد ، مظفر النواب، مثلما أشار الى مبدعين عالميين آخرين . صرنا وصار العراقيون المثقفون يَرَوْن في الدكتور المختص بعلم الدماغ و جراحته عزيز الشيباني،  واحداً من اهم الأطباء التجريبيين في علم الفن . كما صار طبيباً نموذجياً ، في رعاية الدماغ الإبداعي،  المريض،  عند الشاعر مظفر النواب ، الذي  يواجه تعاملاً مقززاً من حكومةِ دولتهِ،  منذ حوالي عقدين من زمان ِمطالباتهِ،  المتواصلة،  بشأن أبسط حق من حقوق الانسان ، كل انسان ، أقصد به  تخصيص الحق  التقاعدي الوظيفي و صرف ما يستحقه  الشاعر العراقي مظفر النواب من حقوق مالية.    

فرضية العلاقة بين الشاعر مظفر النواب والسلطة الحاكمة في العراق - في مختلف العهود والعصور ، حتى هذه اللحظة - هي فرضية الحكام الساعين لإيجاد علاقة ذات توصيف ومعالم أساسية تميّزت مفاصلها بأنها محاولة تحويل قصيدته الثورية إلى دخان وهي لهب، إلى إغواء وهي بهجة ، إلى شلل بينما هي أعلى شكل من أشكال النشاط والحركة. أرادوا و يريدون تحويل شعر مظفر النواب ،  ذي الامتداد مع نداء نلسن مانديلا،  حول الحرية،  الى مجردِ رحمةٍ غنائيةٍ – موسيقيةٍ بصوت مطربٍ من فريق الطرب العراقي ،  مما لا تؤدي تلك الاشعار الحرة ، مغزاها الحقيقي في انقاذ الغد العراقي بعد ضياع امسه و يومه .

الإنسان العراقي في الريف والمدينة يدرك حق الإدراك أن (وجود) مظفر النواب لن يزول من ذاكرته ، سواء كان في الغربة السورية السابقة أو في الغربة اللبنانية  أو في الغربة الإماراتية ،الحالية ، سواء كان مرمياً على تراب سجن نقرة السلمان،  البغيض أو كان على فراش المرض في بيروت وهو يكتسي ، في هذه الأيام، رذاذ نسيم الخليج العربي ، وحيداً في سباتٍ لا أحد يرعاه غير صديقه المخلص (حازم الشيخ) بسعيه الدؤوب من اجل أن لا تـُحجب الشمس عن وجه مظفر النواب . يلف هذا الرجل الصديق المخلص حوله ، أخبار الضحايا والبؤساء في العراق والعالم ،كله، قارئاً له رسائل الأحباء، متخطياً الخوف والعذاب ، ليمد كل يوم حياة شاعر الشعب بشذى ونبضات الحياة، حينما يكون يقظاً في ساعة من ساعات الليل أو النهار . لا يطاول هذا الرجل الوفي كربٌ ولا ترددٌ ولا مللٌ ولا كللٌ جراء ما يبذله من جهود متواصلة 24 ساعة في اليوم الواحد ،لكي يساعد الشاعر الطريح على نيل العلاج الطبي، والتوقير، والراحة، ولكي يمنع عنه صفير العزلة وظلالها . بناء على مكالمة تلفونية ، متعاقبة ، بين فترة و أخرى ،  من الدكتور عزيز الشيباني،  الموصوف ، دائماً و ابداً،  بأنه خُلق من اجل ان يكون روح الكائنات الإبداعية الحية،  و نموذجها مظفر النواب ، باعتبارهِ ، بوّاب الجنّة  الشرقية للشعر العربي ، بعد رحيل محمد مهدي الجواهري عام 1997 ،بينما وهبتنا الأرض العراقية المعطاء بديلاً لامعاً في شاعرية مظفر النواب .

يظلّ الشاعر (مظفر النواب) بمستقرٍ من عمقِ الحركة الاجتماعية. كما يظلّ الطبيب (عزيز الشيباني) دوّامة التطور الإبداعي،  العراقي،  في زمانٍ متضاربٍ مع المكان،  في  اقسى ظروف اصطراع مسائل (الإبداع) كاشفةً حقيقة  سلطات  (التوتر) و (القلق) داخل الحياة،  داخل حريتها و عقلها .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

يتبع

عرض مقالات: