وجيز سيرة القاص والروائي علي جاسم شبيب

*24/ آب/ 1946 في محلة صبخة العرب في البصرة كانت صرخته الأولى

*أكمل دراسته الأبتدائية في مدرسة (صبخة العرب): سميت فيما بعد مدرسة الرصافي

* دراسته المتوسطة في (النضال)  ومنها إلى ثانوية البصرة

*تخرج في معهد المعلمين في 1966- 1967 عيّن معلما في مدرسة (حضر موت) في الفاو. ثم تم نقله إلى مدرسة (طلحة) في الزبير 1971

*أضطر إلى الهجرة القسرية في 1978، بتوقيت الهجمة البربرية على الحزب الشيوعي العراقي

*تنقل بين المنافي حتى عام 2006 مكتسبا مكابدات تعلم منها كل ما هو مفيد ونافع في ثقافته الموسوعية وتعامله مع الناس

*تنتقل في 1982 في جبال كردستان مقاتلا في حركة الأنصار وقد قاسى من مجزرة بشتا شان وكان يعمل في الإعلام العسكري ويحرر البلاغات العسكرية كما عمل في صحيفة ريبازي بيشمركة (نهج الأنصار)

*كتب َ سيناريو فيلم عن حركة الأنصار وتم انتاج الفيلم آنذاك 

*له مجموعة قصصية منشورة عنوانها( الأفق ضيق ..أيتها الأوزة)

*لديه مخطوطة قصصية تنتظر مَن ينشرها

*صدرت روايتان له : (صيد الحمام) و(وردة للفرح)

*له رواية لم تكتمل بصيغة مخطوطة عن الفاو

المؤسف عانت أعماله الادبية من أهمال النقد العراقي

*عاد علي جاسم شبيب إلى البصرة في 2006 ثم أعيد إلى التعليم لفترة محدودة وأحيل إلى التقاعد ثم التحق بعائلته التي عاشت معه في أربيل. ولكن الحنين الى الترحال شده ُ

إلى منفى أختياري فكانت تركيا وهناك في مدينة سامسون أمضى بقية عمره ُ وباغتنا برحيله في الثاني والعشرين من آب 2020

  • ولِد علي جاسم شبيب في 24 / آب وغادرنا في 22/ آب
  • بين آبين كانت أيامه

(*)

*************************

جبل البصرة الذي غنى لكردستان /  محمد الموسوي

إلى البطل الأنصاري الروائي على جاسم شبيب

قرارك في اللحظة الحاسمة

٠حان وقت التحدي

واللحظة الحاسمة

رحيلك في اللحظة الحاسمة

للمحبة اطيافها

وللرفاق أحاديثهم

يا طيب القلب

مقاتل كنت في وطن يقاتل

قوة الاوطان...تقاس

بعزم مقاتليها

واحيانا تقاس بعدد الاشرعة

التي تتحدى الريح

علي يا علي

هل كنت شراعا يتحدى الريح

او كاسر امواج يتحدى القدر

يا صديق حين يشح الاصدقاء

يا رفيق حين نعد الرفاق

علي..يا علي

ا غربة الروح

يا وحشة الروح

في لحظات الوداع الاخير

في كردستان العراق

ذكريات رفاق تعرفهم

كانوا يسمونك ابو بدر

كانوا ينادوك يا طيب القلب

في كردستان العراق

الفتك الغابات فصرت صديقا لها

آوتك وديانها فعانقت

جبالها

ابتساماتك الصادقة

1

كانت تشد عزم الانصار

كنت صادقا   كالحلم

نقيا كحصا الينبوع

والبصرة التي كنت تفارقها

بين الحين والحين

نثرت شعرها البنفسجي

وارتدت فستان زفافها

الناصع بياضا والمطرز بخيوط ذهبية من صنع شمس بصرتنا الحبيبة

لبست

وارتدت فستان زفا فها

لتودع فارسا قد ترجل

هكذا يودع الفرسان في وطني

يا فارسا للمحبة اطيافها

وللشجاعة انواطها

انا لا ابكيك يا علي

لآني ادرك انك قمر فضي

يتألق في سماء العراق

يعانق النجم ويبعث في الغيوم الحياة

يصنع من الغيم مطرا فضيا

حلما جميلا

من البرق قصة جميلة للطفولة

انا لا ابكيك يا علي

انا لا ابكي قمرا فضيا في سماء العراق

وحين يحدق خطر في سماء العراق

في سماء كردستان العراق

اوفي سماء الفاو

يتحول القمر الفضي الى رعد مخيف الى مطر

يبعث الحب والحياة

في اللحظات الأخيرة بم كنت تفكر يا علي

بالعودة للوطن

او كتابة شيء ما او قول شيء ما

بم كنت تفكر

ام كنت تقرا قصيدة لرفيقك العظيم ناظم حكمت

ام كنت تلملم قواك للقيام بزيارة لدور الايتام التي شيدها رفيقك شاعر تركيا الكبير عزيز يسنين والذي غادرنا قبلك بأعوام

نم قرير العين يا صديقي فان ارض تركيا الطيبة ومثلما احتضنت رفاقك العظماء حكمت وعزيز يسنين

ستحتضنك برفق وحنان

وستمنحك الدفء والمحبة مثلما منحتهم

(*)

 *********************

القاص على جاسم شبيب من خلال جديده القصصي / جميل الشبيبي

كتب القاص علي جاسم شبيب هذه القصص وقصص أخرى في منفاه الاختياري في سامسون – تركيا، قبيل وفاته في 22 اب 2020 ....كان في عزلة اسماها (عزلة تنبع من داخل الشخصية المفردة..) وهي عزلة منتجة تستقي تفردها من (معايشة خاصة ،مع نفسه..ذكرياته  وحياته وما يقوله في داخل هذا القوس اللامع.. ابداع او تارخة حياته وعلاقاته.) وهي على وفق ذلك تجربة جديدة في كتاباته الجديدة التي اتسمت بالتأمل وتجسيد المشهد المقرب والايحاء بما يحدث دون تصريح او تفسير والقاص يختم كلمته عن العزلة بجملة بليغة يمكن ان تكون مدخلا لتأويل هذه القصص الصامتة حين يقول :(ادوات صامتة، تعطيك فرحة التعايش معها.. تحركها وتعدّل اماكنها..لا تتركها صامتة.) وينهي كلمته عن العزلة قائلا :( هناك حديث مع النفس، مع الذاكرة لا ينفد.. انه ديمومة صبر بهيج.. يعطّل السنوات من عبور جسرها ويبقي الشمس فوق الحائط.)

        (*)

قصص صامتة / علي جاسم شبيب   

(1)

 تلتهب وتدور، الاشعة البرونزية، ثم.. تهبط، مثل ضربة كفّ مباغتة على قلب الشجرة، فترفرف ظلال الاوراق على القلب المفجوع، ثمة غصن ندي، برزت منه اغصان عارية، كان الغصن غليظا، مغطى بخضرة، تتخطفها، الاشعة البرونزية.
الشجرة صامتة وقلبها يغلي، ينث انفاسا من ندى، سرعان ما تأخذها الاوراق، بهزة الريح، فتعبر، سور البستان الى الشارع حيث الضجيج.. يستلقي الغصن الغليظ بهدوء تحت الظل البارد ..يتمدد كي يقترب من جذع الام، والقلب مشغول برد صفعات الاشعة البرونزية.
..شيئا فشيئا ينزل الندى من عين القلب ويتساقط على الغصن المجذوذ، الراقد على العشب اليابس، فترتعش اغصانه العارية.

(2)

ثمة حفرة، انتهى العامل من حفرها، على محيطها، تلال صغيرة من تراب البطن، أنزل مسطرته لقياس العمق، وبحركة سريعة، ثبت صفيحة، يظهر على خاصرتها ،رأس ذي قرنين، فامتلأت   بالتراب. وقف العامل ينظر الى التراب الضجر، الذي سدّ فوهة الصفيحة، وتناثر بعضه على محيط الحفرة، كأنه يود العودة الى العمق الذي اوقفته مسطرة القياس.

(3)

العقرب ،ميتة قرب فتحة بيتها، يتجمع عليها النمل، يدخل جوفها ويخرج من تحت كلاباتها، يحمل شيئا ولا يعود.. جمهرة النمل، تقف مثل طابور متمرس على السرقة، كل واحدة تدفع التي امامها، فتغتاظ وترفع مجساتها وتتقدم.. الطابور يقل ثم يختفي مع هبوطا لظل على فتحة البيت. تقف انثى العقرب قرب فتحة بيتها وتعرف ان طابور النمل قد اختفى، تقترب من العقرب الذي اصبح إشلاءا ، تعبره وتدخل بيته، خافضة دبوسها مثل ذيل نحيل

(4)

خرطوم الماء منتفخ، يتمايل، ينقل الماء من الحوض، صوب البستان الصغير، كان الملل قد صبغ لونه الاصفر، الشبيه بلون حلي فاخرة، مرصع بنقش احمر، يمتد النقش عليه وهو ملول وخدر من سرعة الماء البارد، الذي تدفعه، مضخة صغيرة ترقد مثل قطة وديعة قرب الحوض.. الماء يفيض ويغمر سيقان الاشجار وشجيرة الورد الوحيدة، ذات القرون الخضر المكتنزة بالورود البيضاء الصغيرة، المطعونة ببقع حمراء فاقعة فوق الشسع الملموم للون الابيض..عندما توقف الماء، اخذت يدّ خرطوم الماء ولفته مثل افعى ودودة، بجانب الحوض، وعندما استعرت شمس الظهيرة. عطش الخرطوم وتغضن جلده المرقط واصبح لزجا، فتحسر على لحظات الملل والخدر السابقة فلملم اطرافه ،ينتظر ان تنهض المضخة من غفوة الظهيرة

(5)

لما فتح حارس البستان، غطاء البئر، توقعت ان الافاعي ستنزعج وتقفز بوجهه، لكن هبة النسيم الغليظ، البارد، جعلني اقترب من الفوهة اللامعة، المرصوصة، الساكنة، مثل سبيكة دراهم فضية..
قال الحارس: انك تخاف من الاعماق.. مصّ سيجارته ووقف،، رأيتك تبتعد، التفت الى الاشجار الصامتة وهي تنتظر هطيل الماء من الخطوم العريض ..عندما فزّ المكان على صوت المضخة، كأنه عويل، طارت عصافير صغيرة من غصن الى غصن،، ثم اندلق الماء.. البرد الكامن فوق السبيكة، إهتز ونهض مثل مارد من فانوس سحري.
بقيت واقفا انتظر حركة الافاعي، ارقب كيف سيكون غيظها بعد إهتزاز  السبيكة، لكن الحارس غمر كفيّ بماء بارد كأنه لعاب جبل الثلج واقتربت العصافير من فوهة البئر ورقصت بين الرذاذ المتطاير وحام جمع من فراشات ملونة على الفوهة الطيبة تختفي قرب المخزن تلك الفأرة الصغيرة، العنيدة، فقد رأت بتجوالها اليومي محتوياته، حينما تفتح امرأة البيت، بابه، وترش باحته ومدخله، بالماء المخلوط بالنفط..رأت طويات السجاد الاحمر والاخضر والبني، ملفوفا ومنضدا مثل لفائف بسكويت شهي.. فاقتعدت أياما في مربض خلف طابوقتين من البلوك المثقب بدوائر صغيرة، وحالما طبعت يد الشمس على الباحة المربعة وازالت اللون والرائحة، تقدمت وانست المكان، ترقب المرأة، وتأخذ من ركن صغير، من التقاء ظلفة الباب والحائط مكانا.
فتحت المرأة الباب فأنسلت الفأرة مثل خيط او ضوء شعاع.. رشت المرأة الباحة بالماء والنفط وأغلقت الباب.
كانت نزهة كبيرة بين لفائف البسكويت المطعّم بالمذاق الترابي.
...جاء الرجل بعد طعام الفطور وفتح الباب، حمل لفائف السجاد وهو يصرخ بوجه المرأة.. ان لا شيء.. فرش السجاد على سطح البيت ولم يعثر على دليل.. هناك خرزات سود متناثرة بين طيّات حواف السجاد المشرشب، وكانت شمس الضحى تدغدغ انف المكان. قال وقد نفض التراب عن يديه..لا يوجد غير الوهم.
..تساءلت المرأة مع نفسها. لقد رأيت شيئا يخطف كأنه طير صغير.
..في المساء الذي تهب فيه ريح الشمال من الجبل القريب، كانت الفأرة تقفز على سجاد مملكتها.

(*)

**************************

ليس رثاءً.. في رحيل الصديق علي شبيب (أبو بدر) / جورج منصور

2020 / 8 / 23

شاءت ظروف الزمن والتزامات النضال، ان أحط الرحال في محطة جديدة بربوع كردستان وجبالها وسهولها ووديانها. إذ بعد "ناوزنك" انتقلت في العام 1982 الى "بشتئاشان" وهناك تعرفت لاول مرة على "أبو بدر" لنعمل سوية في إعلام المكتب العسكري.
لم أكن اعرف اسمه الصريح ولا من أي مدينة عراقية ينحدر، وهو لم يكن يعرف اسمي الصريح ولا من أي مدينة انا، لكنه كان يعرف أنني من خريجي ألاتحاد السوفيتي" واسمي الحركي "أبو أمل". كان ثالثنا الرفيق "دارا" وهذا اسمه الحركي، نقوم بتحرير البلاغات العسكرية التي تصلنا من المكتب العسكري المركزي وصحيفة "ريبازي بيشمركة"- نهج الأنصار- باللغتين العربية والكردية.
بعد فترة، وبعد ان توطدت علاقتنا واحرزنا تقدما في مهمتنا الاعلامية، تم تكليف "أبو بدر" بمسؤولية اخرى لينتقل الى موقع آخر، وانا كذلك تم تكليفي بمهمة اخرى وانتقلتُ الى مكان آخر... هكذا افترقنا.
بعد سنوات طويلة، وبعد ان فكّت "السوشيال ميديا" عقدة الحزن والغاز فراق الأحبة، وساعدتنا في البحث عن الأصدقاء البعيدين ولم شمل الكثيرين من الذين فرقتهم الحياة، وجدتُ على الماسنجر رسالة قديمة من أبي بدر كان قد ارسلها لي قبل فترة طويلة، لم اكن، لسوء الحظ، قد انتبهت اليها، قرأتها وأنا اطير من الفرح: "هلو جورج أنا ابو بدر. كنا سوية في المكتب العسكري نحرر ريبازي بيشمركة في بشت آشان".
وهكذا صارت رسالة "أبو بدر" بداية لعلاقة قديمة- جديدة بيننا، وتواصلنا بشكل جميل، شعرت انه، نتيجة ظروفه الخاصة، أحوج ما يكون اليه للتخفيف عن غربته ولم اشلائه المبعثرة.
كتب لي: "كنت في المانيا ورجعتُ قبل عشر سنوات للوطن. عشتُ فترة في اربيل مع العائلة والآن في تركيا بمدينة سامسون على البحر الأسود. تعبتُ من الوطن والجماعة والعائلة ووسخ البلاد وحكامها". وأضاف "أنا وحدي سأنشغل مع ذاتي في آواخر العمر".
في احدى المرات ونحن نتحدث على الماسنجر، كتب لي: سأذهب الى الإقامة، طلعتْ اليوم. وجهك خير وهو ما كان وما زال خيرا. واردف: الصداقة شريان الدم النظيف بين مخلصين للحرية والحياة. دمت صديقي ودامت ذكرياتنا الجميلة أريجا ومحبة.
بعد فترة انقطع مرة اخرى، فبادرتُ بالسؤال عنه. أجاب: مازلتُ في سامسون في تركيا. حصلت على الاقامة لمدة سنة. مدينة جميلة وهادئة على البحر الأسود. معي أصدقاء... الكاتب جهاد مجيد ورسام بصراوي وافراد مسجلين على (يو إن). الحياة ليست رتيبة. اقرأ واكتب واذهب الى البار في الظهيرة، وهكذا... الحياة مثل غصن لابد ان يرى الشمس. محبتي.
ثم انقطع تواصله لفترة غير قليلة، فكتبت له مستفسرا عن احواله، فرد: "سأبقى.. الغيم الأسود يغطي البلاد".
وهكذا غطاه الغيم الأسود وأنهى حياته الحافلة بالنضال والإبداع. إذ بدون سابق إنذار،وصلني خبر رحيله المفاجئ، شديدا كالصاعقة. وها أنا ألملم حزني على رفيق المحطات الصعبة. نم قرير العين صديقي العزيز علي جاسم شبيب (ابو بدر)... لن أنساك، وكلنا على الدرب سائرون. لروحك السلام والسكينة.

************************

العودة إلى حضن الأم، الطفولة المفقودة قراءة في رواية (صيد الحمام ) للقاص والروائي علي جاسم شبيب / عبد السادة البصري

الناشئة..فئة عمرية تتوسط بين الطفولة والشباب ، والكتابات كأن تكون قصة أو رواية أو شعراً لم تتطرق إلى هذه الفئة إلا ما ندر ، الكلّ يكتب أما للأطفال أو للكبار ، وهذه الفئة مركونة جانبا .

القاص والروائي علي جاسم شبيب رغم قصصه التي تحاكي الكبار إلاّ انه اختص بإصدار رواياته أو بالأحرى كتابتها لهذه الفئة . لقد اصدر روايتين الأولى خارج العراق – اليمن – تحت عنوان ( وردة الفرح) حينما كان يعيش حياة المنافي هربا من بطش النظام الفاشي آنذاك ، والثانية صدرت مؤخرا في البصرة تحت عنوان ( صيد الحمام ) كان قد كتبها في المنفى أيضا – ألمانيا – قرأت وردة الفرح قبل سنوات حيث استعرتها منه شخصيا . تحدثت معه حولها وسألته ذات يوم : لماذا كتبت لهذه الفئة بالذات ؟ أجابني أنها فئة لم يحاكها أي كاتب أبدا ، وأننا بالتأكيد قد عشنا هذه المرحلة جميعا واختزنت ذاكرتنا أشياء كثيرة منها ، أنها سنوات تكوين ذواتنا الأولى فلماذا لا نكتب عنها .؟!

اعتقد بان القاص في جوابه هذا قد اختزل الكثير من التساؤلات التي تدور في رؤوسنا لأننا بالتأكيد نمتلك خزينا هائلاً من الذكريات التي عشناها في هذه المرحلة وإنها المرحلة التي كونتنا كتّاباً كل في مجاله.

اليوم يعود بروايته صيد الحمام إلى تلك المرحلة ،ابتدأها بإهداء مقصود (إلى روح والدتي :زكية نايف0 وروح خالتي جوزة الحسن ) من هنا نجد هيمنة الأم والخالة في هذه الرواية واضحة تماماً ، بطل الرواية في كل مساراتها يعيش ذكرياته وتداعياته مع أمه التي فارقت الحياة مبكراً بعد هجران زوجها لها 00 تركته وديعةً عند خالته التي تحنو عليه كأمه ، وفي هذه الحالة يتأكد مغزى الإهداء 0 (الأم ـــــــ الخالة ) هما مهيمن واحد في سرد الإحداث أو الوصاية على الفتى . ( كانت والدته ترقد بجانبه وقد عمل لها مسنداً من مخدّات وحشيات ، كان تنفسها يضايقه ، فسرعان ما تغفو لتهبّ جالسةً تعبُّ الهواء عبّا  كانت تنظر إليه وهو يرتّب المساند ودموعها تنساب على خديها ص7).     

اخذ مسار الرواية حكائيا وفق عنوانات جانبية هي المحور الذي تدور حوله الذكريات ، ما يدل على أن الراوي العليم كان حاضراً ليقصّ علينا حكايةً هي أشبه بالخرافة  أو ما علق في أذهاننا من حكايات جدّاتنا وأمهاتنا ، نجدُ كمتلقّين أن هناك استذكارات وتداعيات تركت انطباعاً على أكثر من محور في تساؤلاتنا حول مسار الأحداث 0 ولد يتيم الأم فاقد الأب لا يعرف أين وجهته يعيش بعد موت أمّه عند خالته يخرج باحثاً عن أشيائه الخاصة في خضمّ فضاءاتٍ تبدو لأكثرنا غريبة لكنها منطبعة في ذهن الراوي منذ طفولته 0 هذه الانطباعات تؤكد على تمسّك الراوي بحياته الأولى – الطفولة –وحمْلِ كل رسوماتها في ذهنه أينما حلّ ليؤكد ارتباطه في الأرض ، الرحم الأول والأخير لنا جميعا رغم استباحة أذهاننا من قِبَل أحداث كثيرة مرّت علينا ، ورغم ابتعاده عن هذه الأرض- ارض الطفولة- سنوات قبل تركه الوطن باحثاً عن ملاذ آمن يظلّ الفتى في دوّامةٍ من الأفكار والهواجس التي تعطيك إيحاءً بأنّ عقله اكبر من عمره – وهنا تبصر عقل الراوي – منذ العنوان الفرعي –الحكائي الأول للرواية أو لمسار أحداثها ( ريح الفجر ) تجد نفسك على بساط الريح يأخذك حيث عوالم الاهوار وما فيها من تضاريس طبيعية وجغرافيا مكانية وحيوات ( إنسية وحيوانية ) إلى غير ذلك 0 ثم يبدأ الراوي العليم ( شخصية الفتى ) بطل الرواية بسرد ما يلاقيه عبر أيامه القادمة ( الروف العالي ) و ( المغارة البيضوية ) ،(عيده)،..الى آخره . وعلينا أن نتوقف قليلا لنسأل الكاتب عن تركه هذه الأسماء وما ورد في الرواية من عبارات يعرفها أهل الهور وسكان القرى والأرياف ويجهلها بعض أبناء المدينة وجميع أبناء الشعوب الأخرى دون تعريف ؟ وخصوصا إذا عرفنا بأنها كتبت خارج العراق .

كيف ترك ما ورد في هذه الرواية دون إعطاء معلومات كاملة للقارئ عن هذه الأشياء ؟ ثم لماذا تركنا هائمين مع الفتى دون الوصول إلى نتيجة لأشياء كثيرة حدثت أو كادت أن تحدث لكنه تركها ورحل ، أين أبوه المفقود ؟ ولماذا لم يعد ؟ أين وصلت علاقته بـ (الشيخة) صاحبة المزار وهل بقي عندها للأبد ؟ أين وصلت علاقته بأصدقائه الذين التقى بهم  إثناء تطوافه بين البراري والاهوار ؟ لم يبيّن مغزى المكان المعروف ب( صيد الحمام )؟ أسئلة كثيرة ظلت مبهمة دون الوصول إلى أجوبة كافية 0 وهذا ما يؤكد أن الكاتب اختزن حوادث حصلت له أيام طفولته وأضاف عليها من خياله الكثير ليصنع رواية تدهش قرّاءها ( الناشئة ) وتضعهم أمام كاتب يمتلك الكثير من زوّادات صنعته لهم .

علي جاسم شبيب اختط لنفسه عالماً خاصاً بالكتابة باختياره فئة عمرية لم يشتغل عليها احد – وهذا يحسب له كإبداع آخر ضمن مسارات الإبداع .

تعيدك الرواية إلى طفولتك التي انفرطت سنواتها من بين يديك دونما وعي ، بذلك تكون قريبا جدا من البطل ، تسير معه ، تغضب، تتأسى ، تنفعل ، ثم تظلّ في دوّامةٍ من التساؤلات . روايات من هذا النوع ممكن صياغتها للتلفاز أو السينما كعمل درامي متكامل ، متى ننتبه إلى هكذا كتابات ونسلط عليها الضوء كي تأخذ طريقها للانتشار أكثر فأكثر ؟ وأنا على يقين تام بان مخيلة الكاتب تختزن الكثير .

*صيد الحمام / رواية – علي جاسم شبيب / صدرت عام 2009 ضمن إصدارات اتحاد أدباء البصرة وعلى نفقة شركة أسيا سيل

(*)

 *****************************

  حياة خارج البيت  وسرد الشيئية الروائي على جاسم شبيب في (صيد الحمام) /  مقداد مسعود

  ذبالة الفانوس تتمايل

المعزى تتمايل من ثقل حملها

هي رواية للجميع وليس للناشئة، وهي الرواية المظلومة نقدياً أعني الرواية التي لم تتوقف عندها إلاّ الأقل من القليل من المقالات ومعظم الذين قرأوها لم يكلّف نفسه حتى بكتابة صفحة فولسكاب واحدة !!

(*)

بالنسبة لي لو كنت مترجماً لما ترددت ُ من ترجمتها إلى اللغة الانكليزية أو الفرنسية. وكلامي هذا قلته وجها لوجه مع مؤلفها حين كنا معاً في الغرفة المخصصة له في بيتنا زهرة الرمان حين كان البيت في شارع السعدي .

تأجلت كتابتي عن هذه الرواية : مرة من أجل أن يستقر إندفاعي نحوها

وثانية ًاستوقفني الملح الذي فيها ولكن هذا الملح لا يغترف إلاّ القليل من (فتيات الملح) للقاص والروائي البصري المغبون مجيد جاسم العلي، والملح الذي في (صيد الحمام)  علاقته ضئيلة  مع (مدن الملح) للروائي عبد الرحمن منيف. الملح الناصع الذي تستقوي به أسباب الحياة اليومية في( صيد الحمام) جعلني أعاود قراءة كتاب (الملح تاريخ عالمي) للباحث مارك كور لانسكي/ دار الساقي/ 2005

(*)

سؤالي منبثق من القراءة الاولى في 2010 ماهي الأسباب التي دعت (أبو بدر) لهذه الكتابة وهو في ألمانيا ؟ هل الحنين وحده للرحم الجغرافي/ البصرة؟ هل تحصنه بزمنه النفسي الخاص؟ والسؤال الآخر هو أن تجربته في حركة الأنصار غزيرة، فماهي الأسباب التي حالت دون كتابته عن تلك التجربة الجبلية؟ هل (صيد الحمام) محاولة واعية تستقوي بزمن نفسي عاشه المؤلف ؟

(*)

 (صيد الحمام) هي رواية العزلة البيضاء ذات التجويف البيضاوي كالمغارة وهي حكاية الولد الوحيد المتعلق بأمه بحبل أبيض كالملح. بيت ناءٍ عن البيوت : ولد ٌ وأم ٌ من الكادحات في كشط الملح وبيعه في المدينة. حياتهما : الولد والأم : رصاصية كالفجر ومزمومة كفم يبسّه الموت. الولد يخرج من البيت يقف في عراء بياضه معتم بفراق الأم للتو. الولد يخرج من البيت. حزنه القديم يدخل عليه وحدته في البيت تدخل عليه.. كل يوم الأم تغادر وحيدها من أجل أن تستحلب أسباب الحياة اليومية. وهي لا تعرف أن الزائر الأخير كانت يستحلب حياتها. ربما الام تدري لكنها خشيت على وحيدها ولم...

(*)

يسري في الرواية سرد الشيئية، كأنني مع سرديات كلود سيمون في رائعته الروائية (طريق فلاندرا)..الروف الذي ينبطح طويلا وتغيب نهايته في السراب الذي تشكل مثل سنام،يعلو ويهبط . لكن الولد الوحيد يسعى صعودا ولا أحد معه سوى فأسه ويعتلي الحدبة الصلبة فتمتد البطاح أمامه بلا نهاية . هنا في توحده مع / في حزنه ينتابه أحساسٌ جديد : ها هو حزنه يفلت بجناحيه الأسودين ويطير نحو سعة البطاح ومع الطيران ، يتذاوب الرماد في روحه الجريحة فيسترخي الولد الوحيد في غفوة ٍ هل ترك حزنه ؟ كما يترك هو نعاله الذي ترغمه (عيدة) على لبسه وهكذا كانت عيدة : تجد زوجيّ النعال عند باب البيت كل صباح فكفت عن لك ويواصل الولد رغبته في الصعود في ص50 سيرتقي عمودا أملساً مع الأعمدة الأربع في (صيد الحمام) وتكون جلسته على قمة العمود وعلى جانب العمود وهو يترجل سيرى شفرات متراكبة/ 54

(*)

هي رواية  الأم في سلطتها الرحيمة تتسيد فيها المرأة ويغيب أو يتغيب الأب وتتضح السيادة المطلقة للمرأة من خلال شخصية العارفة والحكيمة غدنة الخير

الأم كينونة لا تتوارى، كلما اقترب الوحيد من ضياء البحيرات الملحية أستنشق رائحة الام الزكية. الولد تراكم ألمه في روحه. فتضخم حزنه يبيسا، راح الولد يركل كل حجارة تعترض ألمه، يركلها بقدمه الضخمة وأصابعه الغليظة المكورة،لا عزاء ولا مواساة ..إلى أين يتجه الوحيد اليتيم؟ بادر مسرعا.. فتح الحظيرة وقن الطيور فتعالت الأصوات : ثغاء الخراف والماعز وصياح الديكة . ثم راح الشمس تطلي اليوم ببهجتها المذهبة فتذهبت أغصان السدرة . في اللحظة الكرنفالية. ودّ الولد الوحيد : أن لا يحضرأي أحد ويبقى كل شيء كما هو.. هنا مهارة الروائي علي جاسم شبيب: الكيونة الإنسانية تكتمل بهذه اللحظة النباتية وألفة الحيوان الوفي

ما هي الجدوى من أقارب يسلبون المرأة الميتة، ولا يفكرون بحياة وحيدها ؟

لم يبق له  من أرثٍ سوى شجرة التوت المغمورة شمسا وظلا رطبا هنيئا . لم يبق له سوى مخروطية القمم الملحية في الغرفة . من قسوة هذه اللحظة الملحية ستبزغ  أمه مجددا  نكاية بالموت : تبزغ/ تنهض/ تظهر بيضاء مثل بلورات ملح

متراصة متماسكة، ظهرت الأم الكادحة ..وأول ما ظهر منها خطواتها وهي تخوض في ملوحة الماء، يتقوس جذعها تمتد كفاها تجمع أكواماً مدورة ً، ترصها على هيئة كرات . ثم تنقلها وتنضدها في زنبيل .. الأم تواصل كدحها والرهق يتوغل في جسدها الهش المكابر: نزيز الملح يسيل على ربلة ساقيها وكعب قدميها. راحة البال محض لطخات في حياة الأم .. فالحياة : ملابس سوداء لطخها العجين الأبيض

والولد نفسه يشعر بأن حزنه يفلت بجناحيه الأسودين ويطير في فضاء البطاح الواسع. وبهذا الشعور هدأت روحه  فأسترخى وغفا ..

(*)

الولد الوحيد يرص حياته كما يرص فجوة ً داخل الروف. حياته واخزة وممتدة ومسودة مثل حصران العاقول بإبرها المسّودة، تقطع أمتدادها نباتات خضراء ذات أوراق صغيرة. وحياة الولد الوحيد ملتمة على نفسها مثل هذه الأوراق وأيامه لا تشبه أيام الآخرين فمن أيامه تنبجس رائحة العاقول بخليط من روائح تراب فجوة مغارته، مساراته : رملٌ يشكل في كل مسافة ٍ حاجزاً مثل السيوف. والولد نظيف الذات مثل حجرة والدته المتوفاة

(*)

الذهب لاغوية له على الولدين.

أكتفى الولد اليتيم بخاتم ذهب لحبيبته (عيدة)

وذو الرائحة وهو مكتشف الكنز الذهبي : قرر مقايضة الذهب كله مقابل شفاءه مماهو فيه .

(*)

السرد

في الرواية :  يتغلب الصمت على الكلام، ومن الصمت يستحلب القارىء أجراس الطبيعة وجغرافية الأمكنة وهنا تكون الغلبة لمسردة الأشياء. ذلك السرد الثمين الجميل الأنيق بحركته المتباطئة حتى نتذوق النص بحاستيّ الرؤية والسمع وبمهارة من طراز خاص استغنى المؤلف الروائي علي جاسم شبيب من عنصر مهم من عناصر الرواية وهو الحوار. قولي هذا ينطبق على بداية الرواية حتى ص37 حيث يطل علينا الحوار مكثفا وكاشفا لشخصية ولد ثان عائش بين بقايا الاموات والتوابيت المتكأة على الجدار ومن هذا الولد الثاني سنستلم كشوفات الغموض وتأويلاته البرية حول المكان المسمّى (صيد الحمام) هنا ينسحب السارد المطلق بظهور سارد مشارك وهو الولد الوحيد الثاني. وهذا هو المفترض لكن المؤلف / السارد المطلق يزيحه ويسرد لنا حكاية الولد الثاني، ويصادر صوته وينوب أيضا عن شهرزاديات المتواليات الحكائية التي مر بها الولد الثاني .ورغم الحوارات المقتضبة، فأن كفة سرد الأشياء  لها نسبة عالية في الرواية

(*)

يقوم الولد الأول بوظيفة سردية تفصيلية لحياة الولد الثاني المميّز برائحته والمتلقي لهذه السردية هو الراعي، وهنا أيضا سيقوم السارد المطلق بتوجيز ذلك التفصيل بأقل من سطرٍ وتقديمه للقارىء (تقدم من الراعي وجلس بجانبه. قصّ عليه حكاية الطويلة / 76)

(*)

يتحول الراعي عبعوب الذي كان يتلقى سردا من الولد الأول إلى سارد في ص93

وهكذا يتم تدوير السرد وتقديمه إلى شقيق عبعوب ..

(*)

لماذا تأخرت تسمية الولدين ..!! حتى ص101؟  ما المقصود من هذا التأخير؟ ولماذا ذو الرائحة بادر/ كشف عن اسمه؟ رافضا علامته الفارقة / رائحته؟ : (فوقفوا مذعورين من هيئته كانت عينا ذي الرائحة واسعتين خائفتين... رفع رأسه  وقال بتحدّ وصوت قاطع: أنا لست ذا الرائحة.. اسمي شهاب) وبسبب هذا الجهد المبذول في الإشهار.سيلتقط السارد ظلال ذلك على شهاب( تقطعت أنفاسه وحشرج صوته.) وهذا جانب ثر آخر في رواية (صيد الحمام) أعني أنها رواية تنتج أسئلة وتدعو القارىء للمشاركة في تحريك السرد إلى مديات أوسع

*علي جاسم شبيب/ صيد الحمام/ إصدارات اتحاد أدباء البصرة/  2009

عرض مقالات: