في مقهى “مدام” في وسط العاصمة الألمانية برلين، التقيت الكاتبة والشاعرة العراقية “ندا الخوام” نتجاذب أطراف الحديث حول ديوانها الشعري الجديد الموسوم “قصائد محاذية للنهر” وعرجنا على بعض المنشورات الأدبية التي صدرت مؤخرا وسنحت فرصة قرائتها أو الكتابة عنها. وكان الصديق الشاعر العراقي “فارس مطر” الذي صدر مؤخرا ديوانه الشعري الجديد “الفرح المتأخر يغمرني”،  قد أفشى لها سراً حول نيّتي الكتابة عن الديوان، ولهذا كانت مهيأة للإجابة على اسئلتي سواءً فيما يتعلق بالكتابة او الأمور الشخصية، بأسلوب تقليدي يقظ وعبارات منمقة.. الديوان يحتوي خمس وعشرون قصيدة نقية من “النثر المتقن”، يضم في آن ترجمتان، ألمانية وإنكليزية، أعزته اهمية أدبية قيمة، وجعلت تصفحه من اليمين أو اليسار أمراً ممكناً. لا يزيد عدد صفحاته عن 120 صفحة من حجم ما يعرف بكتاب الجيب. فنياً، لم يوفق الناشر في تصميم الغلاف على الاطلاق، إذ كان سطحياً، بعيداً عن الاقتباسات النثرية والتقاسيم التعبيرية والرمزية لقصائد الديوان المفتوحة على مصراعيها…

فوق أعشاب المنفى

أحتسي فناجين الوقت الهارب

فوق أعشاب المنفى

التقط المتساقط عمدا

من نشرات الأخبار

هناك يتحدثون عن بيتي القديم

عن كتبي نصف الميتة

وحبات النارنج المتساقطات

من شجيرات حيّنا

عن قطيعة دجلة والفرات.

أُتمتم شعراً على شفاه الفراغ

وأرجم شياطين اغترابي بالجمرات

أحزم ذكريات سفري الطويل

وما علق بأصابعي من العشب

في جيوب الأمنيات

وأمضي…

ندا الخوام شاعرة وصحافية وُلدت عام 1977 في بغداد، درست الأدب العربي وعلوم التربية في العراق، عضو في اتحاد الصحفيين العرب في أوروبا، و “مركز الشرق الأوسط للتنمية وحرية الإعلام” الذي تمثله في بيروت. وهي أيضاً عضو في “جمعية الكتّاب المصريين”. صدر كتابها الأول “خيانات بنكهة فرنــــــــــسية” عن منشورات ضفاف بيروت 2016. حصلت على منحة من منظمة “أيكورن” الألمانية وتعيش حالياً في برلين.. تقول الخوام: في الوقت الذي يتسابق فيه العالم مع الزمن لأجل كسب منافسته مع عجلة التقدم في مجالات الحياة الثقافية والعلمية والأقتصادية والتكلنوجية والعمرانية. نجد في الضفة الأخرى من العراق، سعيا كبيراً، الى سحب حبال الزمن الى الوراء والعودة بها الى ما يقارب أكثر من ألف واربعمائة سنة غير الموائمة للزمن الحاضر والمتطلع نحو الحياة المدنية..

ديوانها الشعري الجديد الموسوم “قصائد محاذية للنهر” بثلاث لغات، العربية والألمانية والإنكليزية، تخاطب الوطن في العمق. في قصائدها لا ينصب إهتمامها على ما يسمى في “الأدب الألماني” بالرباعية الأدبية “الشاعرية والجودة والسخونة والبلاغة” فحسب، إنما كيفية توليفها جمالية الظواهر الترفيهية في أدب الشعر. بالإضافة إلى أنواع أخرى من الوظائف، على سبيل المثال لا الحصر، الوصف الموجز للمحتوى، الصورة، السرد، الرسالة المفتوحة، المقولة، جودة النقد وجوهره، مع أشكال مختلفة من الوصف التفصيلي للجماليات اللغوية والتمثيل.

فوق شراشف التيه

النساء

اللواتي قتل القدر فرسانهن على جبهات الانتظار…

يوثقن عنوستهن على زند الرصاص

تدير الحرب بوابة أحلامهن

فوق شراشف التيه

ينتظرن بوارج النور

من خلف البحر

متضرعات الى السماء

ألا تزرع بين حنايا الروح

شجراً عقيماً

الشاعرية في قصائد الخوام ذا نكهة خاصة متعددة المواضيع وذات مقياس ثابت وقافية مكتوبة بالشكل التقليدي للشعر الذي يحاكي المرئيات. عالمُ حدسيُ أكثر تكاملاً في واقع أوسع للرؤية، يخلق معنى للظواهر الرمزية، النسق الكلي للافكار والاتجاهات الكامنة في أنماط وسلوكيات معينة.. في ناصية قصيدتها “عراق”، وهي أول قصيدة يبتدأ بها الديوان من جهة اليمين، نقف بين الأيديولوجيا وفلسفة القيّم في سياق جمالي أخلاقي مثير،

أيها المنزلق

فوق رداء الغيم مهلاً…

لست مستعدةً

لكل هذا العناق

ففي القلب يزاحمك

الحب

والجرح

والشعر

يزاحمك العراق

على النقيض من قصيدة ” إمرأةمن مدينة الرماد” التي لا تبدو غنائية بقدر ما تكون “جنائزية” تحمل على متنها أشكال مختلفة تقف بين عتبة الظواهر الأكثر سخونة و”قداسة” الوجداني غير التقليدي.

تلك الموشَّحةُ بالسواد

إمرأة من مدينة الرماد

تجر عربة الموتى بأذيال عباءتها

وتئن…

يخجل زرياب من موسيقاها الحزينة

تجاعيدها

أكتافها المهدلة بحزمة خروقٍ

كل خرق يوثق حرباً،

وصوتا قبيحا

يزمهر للموت العابث بالمدينة

تتلاشى ابتسامةُ أسنانها

الساقطة من حروب

تحمل حليب الحياة

لمن تبقىَّ على قيد الحلمات

يحلم بالسكينة

في كلمته في إحدى الأماسي الثقافية التي نظمتها في برلين،  (ذَكَر، عالم الآثار ومدير سابق متحف الفن الإسلامي ـ برلين المؤرخ المتخصص في الفن الإسلامي الأستاذ الدكتور كلاوس هازه C.P Haase بالشعراء الألمان العظماء، مَن يعرفهم كل إنسان، لكن لا يقرأ لهم أحد، في حين أن الشعر في العالم العربي لازال مزدهراً وحيوياً. مضيفاً ـ هناك في ساحة التحرير في بغداد حاجة للتعبير السياسي والثقافي، وضعت المعارضة بين “الحقيقة والخيال”، ولا يكاد أي شخص في هذا البلد إلا أن يدرك ما يجري، فإلى جانب الفعل السياسي، يتجمهر الناس يتناقشون حول الشعر. وسائل الاعلام المحلية والعالمية تتيح لنا رؤية هذه الأطر من واقع الحياة اليومية في العراق).. في هذا سياق وبأشكال مختلفة أقول: كثيرون هم الذين لا يستمعون للشعر أو يقرؤونه، ومن الناس من لا يجد متعة فيه، ويُعرف عن الشعر بأنه قبلة النخبة في المجتمعات المتحضرة، لكن من أين يستمد الشاعر تحديه لهذه الظاهرة. أعتقد أنّ المسألة بمنتهى السهولة، عندما يلجأ الشاعر إلى الاقتراب من فهم رغبات المتلقي وليس عالمه الخاص. في الشعر الألماني مثلاً، ليس هناك كحروف الهجاء ما يفصل الشاعر عن محيطه، أنت تقرأ شعراً في السياسة كما في الطبيعة والحيوان والخير والشر، للمرأة والرجل، بالشكل الذي يجد كُل فيه مبتغاه.. والقصائد الأكثر كثافة في التعبير، هي تلك القصائد الأكثر تحديا للواقع والأكثر تعبيراً عن الذات حيث يتكلم الشاعر بلسان الآخر وهذا ما أعنيه، كالتي نجدها في شعر ندا الخوام.

أنا ابنة النهرين

تحت قوس الحب

ينسبني البحر إليه

أنا ابنة النهرين

أعرت الى الفراشات أجنحتي لتطير

وعانقت عشتار

امنحيني يا قديستي الضوء

لأغني

قصائد جميلة

جميلة هي قصائد ندى الخوام، حيث تحمل شحنات لغة مؤثرة، وإن كانت تعتمد الرمز أحيانا أو تلجأ إليه، فهي جريئة تخزن في أحشائها مظاهر القلق تارة والإثارة تارة، حتى في السياسة لا تخلو من انسيابات تعبيرية نقدية مباشرة.

كما تمتلك مقتنيات وحكايات مثيرة خاصة، تكتنز سونتات غنائية “Sonette” مختارة، تجمع بين حساسية العاطفة وروح التحدي والتأمل في آن واحد.. في السريالية، كما في نقد الواقعية الاشتراكية تحدث أندريه بريتون Andre Breton عن أهمية الشعر من (تفاصيل الحياة) بمعنى موقف الشعر من الحياة العامة من أجل هدف له ما يبرره، بول إلوار Paul Eluard عن “المتعمد” و “غير المقصود” في الشعر، وتعرض جاك بريفير Jacques Préver لما كان شائعاً بـ “الشعر الملغز”. لكن ما أتاحه لنا شعر الخوام على المدى الحر قد صاغ معنى القصيدة من الناحية الأدبية بشكل تلقائي، قريباً من النموذج الألماني الذي يطلق عليه “الشعر الملموس” أو المعقول، الذي يدفع في إطار محكم “الرمزي” إلى أقصى الحدود.

وحسب نظرية “الأنواع الشعرية” كما تعزو إليه المصنفات القديمة والحديثة، منذ كان أرسطو على قيد الحياة وحتى القرن الثامن عشر، الذي امتاز بتقسيمات فرعية للشعر، كالتفصيلية والملحمية والدراما والمأساوي والهزلي والكوميدي الساخر، فأن شعر ندا الخوام  في المفهوم الحديث للأدب، إنتاج شمل الإثارة، بوصفها التقدير الحاسم، الذي يجسد الرغبة في إيقاظ الذائقة السياسية لدى المتلقي وتقريبه من فن الشعر بطريقة مفصلة للغاية.

عرض مقالات: