برزت الحاجة الى طرائق جديدة وسريعة في ملاحقة الحدث المتضمن الاحتجاجات الأخيرة في العراق، حيث برز نمط جديد من التعبير الفني تجاوز حدود الرسم والنحت والياتهما المعروفة في تصنيع الخطاب البصري ومنحه بعدا جماليا لم يكن متداولا في النسق التشكيلي العراقي من قبل، وهذا النمط قائم على الرفض والاحتجاج أيضا وينتمي الى ( الفن الكرافيتي) الذي ظهر في نيويورك كتأشيرة على وضع اجتماعي مفكك ومتشظي لفئة مجتمعية تعاني الكبت والفقر والحرمان، ارادت هذه الطبقة لفت الأنظار الى حالتها الاقتصادية المأساوية، اذ قام عدد من الشباب المراهقين وضع رسوماتهم على جدران انفاق القطارات ومحطات المترو وأسطح عربات القطارات وجدران الأبنية العامة والخاصة ومركبات الشحن الطويلة وبعبارات تعكس وضعهم كنوع من الاحتجاج على الأنظمة والقوانين والأعراف الاجتماعية، وهو تيار من تيارات ما بعد الحداثة الفنية قائم في جوهره على الرفض الذي بدأ من لفت النظر الى الهامشي والمهمل واليومي وبدأ من الكتابات على دورات المياه والخربشات على الجدران، ومن ثم أصبح نمطا من الأنماط الفنية التي تحتفظ بعدد من الأسماء الفاعلة في الحياة التشكيلية، وان هذا الفن يجمع بين الصورة البسيطة او الكاريكاتورية والكتابات التي تعد معادلا موضوعيا للصورة وتتسق معها في فهم المعنى المراد، حيث انفتحت لحظة التلقي على مساحة واسعة حين ذهب الفن الى مواقع المتلقي وهجر القاعات المغلقة وأنساق العرض المألوفة، وعرف هذا الفن في البداية باسم (اسلوب نيويورك) لأن بعض الشباب المراهقين عمدوا الى استخدام بعض الخطوط المستعارة لتنفيذ علامات تعريفية لأسمائهم البديلة، وفي نيويورك ظهرت مجموعة أخرى من الشباب أطلقوا على أنفسهم (جامعة النهضة) ، وأخذوا يرسمون على عربات القطار ومحطات المترو، وكانت البداية متواضعة سرعان ما امتدت وانتشرت بشكل غريب وانظم اليها عدد كبير وأصبحت عالمهم الخاص وزينوا الكثير من أحياء المدينة. ويتسم هذا الفن بالشعبية ويتماثل مع الخربشات والكتابات الموجودة على جدران المباني المصرية القديمة ولدى الأغريق والرومان أيضا، ولكن احياءه بالشكل الجديد يشكل ظاهرة جديدة ترتبط بالتحولات السياسية والقهر الاجتماعي واعلان الرفض والاحتجاج وما يرافق ذلك من ممارسات قمعية من قبل السلطات.
وفي اللحظة العراقية الراهنة القائمة على رفض منظومة السلطة اتجه عدد من الفنانين الى المناطق القريبة والمحيطة بساحات الاحتجاج في ساحة التحرير ببغداد من أجل اسهام الفنانين ومشاركتهم في الاحتجاج ضمن تخصصاتهم ، حيث هرعوا الى تلك الساحات والأنفاق لتوشيحها بخطابهم الجمالي ضمن مقاصد سياسية وجمالية على السواء، وتسجيل أدانتهم الممارسات القمعية التي مارستها القوى المسلحة، حيث بدأ البعض بتدوين اسماء الضحايا على جدار نفق التحرير بألوان متعددة اشارة الى تعدد الملامح والاتجاهات والأعراق والطوائف، ولكنها تشكل علامة عراقية موحدة باتجاه المصدات الخارجية وتتوحد من أجل الوطن، وتكون هذه اللوحة الكرافيتية وثيقة ادانة لوحشية القوى القابضة على السلطة.
في حين قام (سجاد الخطاط) برسم زهرة كبيرة رباعية الفصوص ودون فيها اسماء الشهداء في الخط السنبلي المتعرج بشكل متقن بالصبغة الذهبية على أرضية سوداء رامزة للحزن الكامن في الأعماق، فيما كتبت الأسماء بماء الذهب نتيجة للتضحيات التي قدم فيها هؤلاء أثمن ما لديهم وهي أرواحهم، وبهذا المعنى فأن اللوحة تحمل خصوصياتها المرتبطة ببنيتي الزمان والمكان ، اذ ان اسماء الشهداء هم عراقيون وسقطوا في ساحة وسط بغداد وقد استثمر الفنان مرجعيته الجمالية العراقية من اجل تحويل اسماء مجردة الى فعل جمالي وسجل حضوره داخل ذات المتلقي، فضلا عن فضح هذه الحوادث التي تنال بشراسة من الذات العراقية المسالمة والمطالبة بحقوقها على الرغم من مظاهر الاحتجاج السلمية التي تقوم بها.
وقد نزع الفنان (رياض الجبوري) في توثيقه للحدث عن علامة مركزية في الواقعة الفعلية وهي "المطعم التركي"، وتم رسمه ضمن مساقطه الهندسية وبواقعية مفرطة كعلامة رئيسة في اللوحة وفي مظهر الاحتجاج والتعامل بطريقة الظل والضوء بالأسود والأبيض دون اقحام أي من الألوان الأخرى عليه نتيجة الأسى ومشاهد الحزن التي تخللتها هذه الفاصلة الزمنية العراقية، واستطاع أن ينشئ تكوينا فنيا من حوله ليتحول معمار بناية المطعم الى لوحة فنية فوشحها بالعلم العراقي وعلى يمين المبنى عين باكية بحجم كبير وهي اشارة الى عين العراق من خلال صيغ الجمع والتفاعل بين مكونات الشعب العراقي وتضامنهم مع قضية الاحتجاج، بينما رسم يدا مغلقة تقبض على العلم العراقي وهو تثوير رمزي لصمود المحتجين الى النهاية وهم يمسكون بالعراق بهذه القبضة التي لا تفتح الا عندما تتحق الحقوق المطلبية .
وفي اللحظة التي تعددت بها طرق التعبير التي تجترحه الذات الخلاقة، حاول البعض الذهاب الى العمق التأريخي والاشتباك معه من أجل انتاج خطاب بحمل دلالته التأريخية في ضوء المزاوجة بين القديم والمعاصر مثلما فعل جواد سليم في نصب الحرية، فجاء فنان آخر بمعمارية المطعم التركي ورسمها بواقعية وسط اللوحة ثم جعل الثور البابلي المجنح يحتضنها اشارة الى احتضان الحضارة العراقية بكامل عناوينها ودلالتها لهذا الحدث العراقي المعاصر واستمرار نزوع الشعب العراقي نحو التحرر، لكي يصنع لوحة خالصة الهوية في ضوء مرموزاتها (الثور المجنح والمطعم التركي) ، تلك المفردات العراقية التي لا تشبهها أية مفردة في أمكنة أخر. فيما حاول البعض استجلاب مرموزات عراقية كامنة في الذاكرة العراقية المعاصرة ومتواجدة بالقرب من ساحات الاحتجاج، فمثلا جيء بنصب الحرية في محيط ساحة التحرير ونفقها ليكون علامة دالة على الحدث والواقعة الفعلية، وقد استجلب آخرون نصب الشهيد في رصافة بغداد ليضعه علامة مركزية ثم يبني عليها فكرته الجمالية ليصنع خطابا مستندا الى المحلية في رمزيته وفي تناولها ايضا والتعبير عنها.