ينتمي الفنان المهندس رفعت الجادرجي الى جيل الريادات التحديثية الأولى في الثقافة العراقية وخطابه الذي كان خطابا مجموعيا ينحدر من كل الأجناس الابداعية من خلال تجليات النهضة العراقية منتصف القرن العشرين بعد بدء تشكلاتها قبل هذا الوقت بقليل، اذ رافقت اللحظة التحديثية في العمارة اللحظات ذاتها في نسقية الأجناس الفنية والأدبية الأخرى، وكان التطلع لايجاد معايير خاصة تنطلق من القديم ولكنها تتجاوزه وتضع نفسها في اطار الحداثة الأوربية . من هنا فكر الجادرجي وهو ابن العائلة السياسية والثقافية واطلاعه على مسارات التطور في متبنيات الفن المعماري الذي تجتمع عنده مسارات الفن والعمارة، أو في تصور العمارة التي لا تنفك عن حقول الفنون الأخرى في رؤية الفلسفة وتصنيفاتها كونها فن ينضوي على الكتلة والفراغ وجمال الشكل والمضمون وغيرها من المباديء الأساسية في جوهر الفن . ولعل أن الفكر الشبابي المتحدي دعا الجادرجي للتفكير بكل ما تعرف عليه ليكون شاهدا ومساهما في حركة التغيير للبنية المعمارية، فضلا عن تشكل شخصيته بنمطها الفرداني في التفكير أزاء معطيات حياتية أخرى تقترن بواقعية العيش .
وتبعا لهذا الفن المزاوج بين العمارة والتشكيل كان متحديا في تغيير اطر العمارة والتحول بها من النسق التقليدي الى نسق التحديث الذي يقترب من اللوحة الفنية أو القطعة المنحوتة ووصوله بها الى منصات التجريدية في ضوء اللعب الحر في الفضاء ومساقط الأشكال الهندسية التي يلجأ اليها كبار التجريدين . ولعل دراسته في جامعة هامرسميث البريطانية بداية القرن العشرين ومرافقته لظهور الجماعات والأساليب والحركات الفنية قادته للتأثر بها، فضلا عن النزعات الفلسفية السائدة، مما جعل لمشروعاته المعمارية الاقتران بروح الفلسفة، التي تمثلت بجدارية نصب الحرية التي نتجت عن تلك المخاضات الطويلة بأن تكون القاعدة علىى هيئة لافتة تحملها أكف الجماهير بأرتفاع ثمانية امتار وبعرض خمسون مترا لتتضاهى مع جوهر ثورة الرابع عشر من تموز، وهذا التفكير بجوهر البناء المعماري كان الأول في خطابات الرؤى المعمارية في العراق وفي العالم أيضا والابتعاد عن المهام الوظيفية التي تؤديها العمارة . وضمن هذا التفكير الرؤيوي أنجز نصب الجندي المجهول في ساحة الفردوس الذي يشي بشكل بسيط على صعيد التلقي الأول، ولكنه يحتفط برؤية عميقة من خلال تفكيك بنية الشكل وصولا الى المعنى المستتر في الشكل الظاهري من خلال هذا التقوس والثبات في اللحظة نفسها الذي يعتمد تداخل بنى وأجناس فنية ومعمارية من عصور مختلفة .
وعلى الرغم من تصنيف الجادرجي في مضمار العمارة، لكن البنية الفنية تنازع العمارة عليه بوصفه فنانا تشكيليا شكل الريادات الفنية الأولى وعمل على أن تكن عمارة بغداد أو العمارة العراقية الحديثة أنذاك تمتلك هويتها الخاصة والمتفردة مع آخرين من أبناء جيله (المدفعي، مكية) وآخرون ، ولكن الارتدادات السياسية على الساحة العراقية حالت دون تحقيق ذلك، ولكنها رسمت ملامح لحركة التجديد في هذا المسار من خلال المدونات التي تحفظها الذاكرة الفنية والمعمارية التي رافقت تأسيس مكتب ( الاستشاري الهندسي) الذي كان يعنى في مجالات الدراسات الفنية والعمارة والتخطيط الهندسي، والذي أنجز من خلاله مئات الأعمال الهندسية في العراق والمنطقة العربية والعالم تتعدد منافعها وأشكال خدمتها المجتمعية بما يغني الهدف الرئيس في تشكل رؤية عمارية ذات نزعة تحديثية على وفق ما توصل اليه من رؤى في ضوء المزاوجة والمجاورة بين الفنون الاسلامية واشتغالات المعمار الاسلامي الأول مع نزعات الحداثة المعمارية، فضلا عن استثمار التوصلات الفنية على صعيدي الرسم والنحت .
وتقع أهمية الجادرجي في المواءمة بين ما ينتجه على صعيد العمارة وبين ما يتركه من مدونات نصية تفسر وتشرح المرامي والفلسفات التي تقف خلف هذه التأسيسات الجمالية، فلكل فترة زمنية على صعيد التجليات الحية في العمارة كان هناك كتابا يرافق ذلك، تلك المدونات والمؤلفات التي أغنت المكتبة الهندسية بما يدعمها من ملامح ثقافية تعبر عن تلك المرحلة، وهذا ما يجعل فنه العماري مستندا لطروحات فلسفية تشغل صانع الخطاب، فقد أنجز عبر حياته كتابه الأول ( شارع طه وهامر سميث) ثم كتابه الجميل (الاخيضر والقصر البلوري) الذي يكتب فيه بعض ملاحقاته للنظم العمارية وبعض الشواهد والخلاصات النهائية للجدل القائم في بعض الموضوعات ، ليختم ذلك في مؤلفه (جدار بين ضفتين) وهي عناوين أدبية أكثر منها التصاقا في العمارة، بيد أنه يواكب التحليل في داخلها من اجل اثبات رؤيته التي عمل عليها خلال قرن كامل من القرءات الفنية والدراسية والاستقراء المنهجي للوصول الى نظام معماري متفرد يقترب من الروح العراقية الشرقية.

عرض مقالات: