إذا كانت معركة ذي قار لم تحدث في التاريخ حسب عدد من المستشرقين، وإن المدائن، التي أُسقطت في معركة القادسية الشهيرة، لم تكن عاصمة للإمبراطورية الفارسية العظمى، وإن الدولة العباسية أنشئت على أيدي الفرس باسم العباسيين، وإن سقوط الدولة الأموية هو آخر العهد بالإمبراطوريات العربية الصرفة، وإن متحف اللوفر يصنف أغلب آثار العراق وسوريا القديمة “ميزوبوتاميا” تحت يافطة Persian Civilization، أقول إذا كانت هذه الحقائق، معتبرة أو مشكوكا فيها، مطروحة على طاولة النقاش، أليس الأجدر بنا عدم الاحتكام للتاريخ والتخلص من عقد الماضي ومحاولة البحث عن مشتركات ضرورية لرسم ملامح الأمة؟

تقول فنانة المعمار العظيمة زها حديد التي رحلت عن عالمنا أخيرا، إن العرب مازالوا متمسكين بماضيهم، لهذا لن يتقدموا خطوة واحدة إلى الأمام.

أسوق هذه الأدلة للتنويه بأهمية الأدب بصورة خاصة في رصد حركة المجتمعات بطريقة خالصة وحقيقية، من دون التأثر بأهواء الحكّام ورغباتهم وسعيهم الدائم إلى رسم مجدهم الزائف على حساب الشعوب، فالأدب لا يكذب ولا يُزيّف ولا يُداهن، كما أن انحيازه للجوانب الإنسانية لا يرقى إليه الشّكّ، ناهيك عن امتلاكه للأدوات المعرفية الفذّة اللازمة لاستلهام وقراءة حركة التاريخ واستقرائها في أي مجتمع من المجتمعات. الأمر مرهون بالاحتكام للثقافة فحسب. الشعوب الحيّة تفتخر بثقافاتها التي تؤمّن

للأجيال المقبلة حاجتها من التاريخ، إذا كان للتاريخ ثمّة حاجة، لكن تجارب الشعوب السابقة، كونها مجموعة نتاج العقول الحرّة والمبتكرة، على صعيد الموسيقى والغناء والفنون التشكيلية والسينما والمسرح والأدب، هي الأولى بالتدوين، أما التاريخ فقد عُلق بالمتاحف في أحسن أحواله، وبوابة عشتار العظيمة تقبع الآن في متحف اللوفر ليلتقط البعض من الزائرين “السيلفيات” تحتها، بينما تحترق الأرض التي جاءت منها الآن، ميزوبوتاميا القديمة تحترق في الحقيقة بنيران الجهل والتخلف والاشتباك العقائدي المبهر.

التاريخ مُلتبَس، أو مُدلَّس في أحسن الأحوال، بينما الأدب والثقافة نتاج تفاعل جمعي للشعوب. لا يمكنك وضع الأدب في المتاحف وتأمله كما هو الأمر مع التاريخ، على المرء قراءته والغوص فيه والتحليق برؤاه المجنّحة لتنمو مقدرته على امتلاك الحلم، وكلما أوغلنا في الماضي ضعفت المصداقية واختلط الحديث وغامت الأفكار، عندما لم يكن ثمّة وعاء يحفظ العلم سوى صدور الرجال، ولا أدري لم قالوا الرجال فقط من دون النساء؟ وإذا كان المثل القائل “كل علم ليس في القرطاس ضاع” صحيحا على الأغلب، فإن القرطاس هنا هو الصحف والكتب ووسائل التدوين الحديثة، فأي قرطاس هذا الذي حفظ لنا كل تلك الترهات التي مازالت تردنا من الماضي السحيق؟ يوم لم يكن ثمّة ورق ومطابع ولا حتّى رُقم طينيّة يعتدّ بها.

ليس أقدر من الأدب في الواقع على تنمية الخيال والتحريض على الحلم، فعندما يكون المرء قادرا على الحلم يكون قد قطع نصف المسافة إلى الحقيقة، لا يمكن العيش من دون أحلام مجنّحة، وكل شيء يبدأ بحلم، وكلّما انطوى الأدب على الخيال الفعّال كلّما كان أكثر قدرة على إكساب الجمهور شعورا بالاستقرار النفسي والصفاء الذهني ورؤية الأشياء من حوله بوضوح، وبالتالي التأثير في حياته، ولا أعني هنا إعطاء الدروس والمواعظ والأفكار، بل المتعة المطلقة والإدهاش والعصف الذهني اللازم لشحذ الخيال، عندها فقط يمكن التخلص من هيمنة التاريخ الطاغية على حياتنا في العالم العربي وتقنين دورها الخادع في رسم رؤانا وتطلعاتنا إلى المستقبل.

عرض مقالات: