يعتبر التخيل عملية اكتشاف واعادة تجديد للأشياء التي تقع ضمن المديات غير المنظورة وهذا الاكتشاف هو التعبير عن الحدود البعيدة والقصوى للإيقاع بالصور والمشاهد غير المتوقعة وغير المألوفة وتقديمها بما يتناسب وحجمها الجمالي وتعني هذه الافادة بمثابة تحويل المدلولات غير المرئية الى مشاهد تحتوي على مؤثرات قلقة والتي بواسطتها يمكن خلق ما يسمى اثارة أكثر من حاسة واحدة لدى المتلقي بعد ان يُقدم له من هذا الاكتشاف ما يعزز حيرته وقلقه ويؤمن له طرقا اخرى لسلامة تقبله لما يَقرأ.

تأهيل المفردة الشعرية

ان العوامل التي تساعد على هذا الاكتشاف وبالمستويات غير المعلومة هي قدرة الشاعر على الاشتغال المزدوج ضمن المدى القابل للتوأمة مع القدرات التحررية المتوقعة التي ينتجها احيانا عدم التوافق في رسم المشهد أو التردد في استخدام صورة دون أخرى او الحساسية من تطويع بعض الشائع والمتداول خوفا من جنوح النص نحو الخطابية المباشرة التي توقع الشاعر في مصيدة النمطية بتعبير ميشيل فوكو، لذلك يتطلب هذا الاكتشاف انبهارا عاليا يشتغل من خلاله الشاعر بدون تقدير لما قد يؤدي ذلك الانبهار الى نوع من الغموض المركب والذي يحول النص الشعري الى مقالة فلسفية تسطو على العناصر الشعرية ومقومات الجانب الجمالي للنص.
وقطعا ان هذا المنحى الخاطف الذي يتلبس النص ليس حالة دائمة تتصارع والنص الشعري لاستحواذ أحدهما على الآخر او بمسببات الطغيان المعرفي لدى الشاعر ويبقى القاسم المشترك لأي عمل هو الاحساس بالإثارة رغم ان هذه الاثارة لا تعبر عن مطلق خلاصي للقبول من عدمه لأنها ترتبط بعوامل أخرى تكون كمقدمات لهذه الاثارة منها وحدة النص وتدفقه ولحظته الخازنة المعروفة بــ "لحظة برغسون" بالرّغم من ان تلك الاثارة قد تتكون في مشهد ما او مجموعة مشاهد دون ايصال المتلقي الى نهايات ممتعة يكون بها الحكم على النص عاما وكليا وفق ما يبتغيه الشاعر من هذا النص، ولا شك بأن تأهيل المفردة وإبعادها عن الممرات التي كانت تستخدم فيها وتحويلها الى ممرات جديدة تطلق قدراتها على المزاوجة والتوالد لتكوين أنساق متضادة والتي تعطي للمتلقي امتدادا آخر لما يفسره النص وبذلك تتنافى قدرات الرصد والتفسير وعدم القبول والرضا الاحادي ثم تتعدد الرغبة بقراءة ثانية وثالثة لأن المتلقي سيجد في كل قراءة من تلك القراءات شيئا جديدا يرفع من حدسه وفطنته لينساق في قبول المجهول طمعا في استكشاف نوعية الفرص التي وفرها له الشاعر في النص وفق إمكانات غير معروفة سابقا لدى المتلقي.

بناء النص لأغراض متعددة

إن تدريب الذائقة الجمالية وتعزيز موجوداتها يمكنها من اختيار الممر المناسب الى النتائج الانبهارية المناسبة للشعور بالراحة وتجديد المشاعر والاحاسيس ثم خلق مناخات قادرة على اختزال عامل الوقت للوصول الى الممتع والفريد وهذا ما أشار اليه جاك دريدا ضمن مفاهيمه عن الاختلاف والكتابة والحضور وملامسته للوعي التفكيكي لخلق المناخات المخيفة ولن تكون تلك المناخات هدفا نهائيا تنتهي بانتهاء قراءة النص وتقبله وإنما السعي نحو إيجاد روابط مشتركة تقلص البعد بين الطرفين ليكون التلاقي على قدر استلهام طبيعة التجربة الشعرية رغم ما يكتنف هذا التقبل من صعوبة في ذلك التواصل خصوصا عندما تتنوع تجربة الشاعر ومغامراته في النص. إن عملية تخيل الاشياء خارج موصوفاتها يعني تفكيكها وتقديمها بشكل مغاير انسجاما مع الاختيار الامثل للغة والتي هي ليست أداة للتعبير فقط بل هي مصفاة الصور الشعرية حين يحسن استخدامها وهذا التفكيك يجب ان ينظر اليه بمزيد من الحذر كونه لا يشبه تفكيك لعب الميكانو بل هو تفكيك لا تتم بموجبه إعادة الاشياء الى طبيعتها الاصلية بل تهميشها والاحتفاظ بمكوناتها الرسمية واللونية وبعث الحياة فيها بمكونات أخرى قد لا تنتسب اليها في الماهية والغرض خارج عملية الاستبدال والاسترجاع وعمليتي التمويه والاختفاء والقصد في ذلك ان لا تكون المخيلة مطواعة للأشياء الجاهزة وسريعة لقبولها الامر الذي يؤثر سلبا في تعامل الشاعر ومفرداته ضمن جدلياته في البحث والاستقصاء لإحلال المناسب ضمن المشهد الشعري للنص وهو مران متواصل لتطوير قابلياته في نقل صورة من مكان الى آخر. إن الشعر لا يتدفق تدفقا تلقائيا للمشاعر القوية وحسب وإنما تتدفق مكوناته وقدرات هذه المكونات على الانسجام ومواصلة اتحادها بنسب متساوية بحيث لا تتجرد اللغة من شحنات الانفعال ولا ينجو التخيل بدون مؤثرات قوة اللغة ولا يمكن ان تكون هناك عملية شعرية دون موارد متكاملة فالشعر الان ينحو الى التجرد من قوانينه القديمة واغراضه المباشرة وعلى اساس المغايرة الشاملة في القصد وفي بناء النص ذي الاغراض المتعددة وبدون مبالغة في الصياغة للوصول الى الغرض المعني متخليا عن النظم والتراكيب التي زخرت بها القصيدة العربية القديمة.

النص والنقيض

ان ادراك الواقع تخيلا وليس ادراكه واقعا من الامور الحيوية والتي يسعى الشاعر الى الاقتران بالمؤثر التخيلي بحيث لا يطغى مفهوم الادراك على القدرات الحسية والتعامل مع هذه القدرات على اساس حيويتها في تنشيط العمليات الادراكية ومنها التذكر ليستطيع هذا الاخير فسح المجال امام الخاص والعام من العواطف للانسجام مع ما يتم اختياره من الماضي اي القبض على اصناف من الحقائق وتدجينها جماليا ضمن المدركات التخيلية لكي لا يغدو النص شكلا معرفيا او حتى شكلا تخيليا بحتا. ان هذا التعاطف ما بين الاشياء الغائبة والاشياء المحسوسة وبوجود الصوت الموسيقي لحركة اللغة وبفطنة مخففة لهذه المزاوجة يكون العمل ذاتيا مطلقا مبطنا بالتدفق الطبيعي للمشاعر أي القدرة على جمع اكثر من استجابة في آن واحد للتخلص من العوالق التركيبية او شكليات الرموز المباشرة بالشكل الذي يؤدي بالنهاية الى تخليص النص من "الفساد" ويؤمن الشاعر فيه قدرا عاليا من الشدة والابتكار ومن هنا يبدأ التكوين بنسب قياسية في الكم لاستدراج اي من خطوط الربط الصالحة لشد المرتكزات ثم معالجة "السوائب" التي تظهر هنا وهناك اثناء عملية الخلق حيث يبدأ الشاعر بالمعالجة وفق تفهم الوعي ورضا اللاوعي ضمن العمليات الجراحية التجميلية من خلال لعبة الاختفاء والظهور كي يشفي جسد النص من بقايا بعض المفردات المتيبسة التي تظهر عرضيا عند ظهور المشاهد في سياقها النهائي اذ ذاك تتهيأ للشاعر فرصة اكبر في تحريك جديد لصوره المتحركة والتي تحرر اي هذه الصور مفردات جديدة تكون بمثابة مغذيات جزئية للكل والكل هنا لا يعني الخلاصات النهائية لاكتمال النص بل الكل الذي يحتاج الى نقيضه وهنا يلجأ الشاعر الى البحث عن هذا النقيض ليتحرك تجاه تلك الاجزاء ببدائل اخرى قد تتشابه او تتنافر ضمن المساحات غير المعلومة والتي لم يحدد الشاعر أبعادها سوى ترك خياله طليقا للكشف والمغايرة والاستدلال وهنا تتلاءم الاجزاء لتشكل شكلا جديدا في مواجهة المتشكل اصلا في القياسات المتفاوتة والمتباينة وكأن انشطارا قد حدث في مخيلة الشاعر تجاه اجزاء كونت نصا واخرى كونت نقيضا وحين يحدث هذا الشكل من تضارب التكوين فهي رسالة اطمئنان تبعث الى الشاعر من ان عواطفه وتخيله قد اوصلته الى المطلق والماروائية بعيدا عن التسطيح والقبول بالأجزاء الواحدة والكل الواحد. ان هذا الاختفاء والظهور بين الموجودات جعل صيد المشاهد ممكنا وجعل سيولة المفردات المتناسقة جارية على اساس قوة الوصف وليس على اساس قوة التخمين ليصاحب ذلك ايقاع متجدد لم يكن لصيقا لنص مشابه آخر لأنه ما تم خلقه على اساس الصفات المذكورة والمستويات العالية من الانفلات قد حول النص الى ما يشبه الرموز الموسيقية لنقل المتلقي الى مساحات اوسع من الصور الكلامية واللونية والتي يمتزج فيها التأمل الخالص والانفعال المحايد واللذان يساعدان على القبول بالحيرة وهذه الحيرة تؤدي الى المزيد من الشك الذي يؤدي الى المزيد من الرغبة في الاكتشاف والاكتشاف يؤدي الى بلوغ اللذة. ان ايضاح بنية القصد لبيان قدرات المنظومة الذهنية على تغذية الخيال يعتبر عملا مفيدا شريطة ان لا ينحو الى ذكر الوقائع والتحديدات كحالة يريد منها الشاعر بيان امكاناته الفكرية وقياس قوة ذاكرته فيطغى الذهن على الخيال وينفض ذلك الانسجام الذي يزيد قدرة المخيلة لتعزيز قوتها في الالتقاط وبناء نظامها المحكم لاستقبال وانتاج الصور العالية التحسس بحيث يوفر هذا الالتقاط الجهد الاجباري الذي يبذله الشاعر للدخول عبر ممرات الاستقبال وحسم اختياراته المتشعبة من الصالح وغير الصالح. ان تعزيز القدرات التخيلية يساعد على سرعة الالتقاط واختيار المشاهد غير المحسوسة ورفع تنمية الموارد التي تقع تحت سيطرة الخيال بعيدا عن اي من الصور التقولية والتي تغزو النص احيانا بأشكال مختلفة وأغراض مختلفة رغم انها سريعة الزوال لتنشأ بدائل عنها بعملية تجديد مستمر لمعوقات انسيابية الخيال يصاحبها طواعية أكثر لما يتم استخدامه من اللغة بعد زوال.

تجديد عملية التخيل

ان تجديد عملية التخيّل يؤدي بدوره الى طواعية اكثر للغة وهذه الطواعية ليست استنهالا للتصرف بالمفردة وعلى اساس زجها في الفراغات المتروكة في المشهد انما تقدير لبنية المنتج على اساس ألا تكون هناك قياسات لهذه المفردات ضمن سوابقها في الاستخدام سواء على صعيد اخفاء العيوب المكررة او بيان قوتها كوسيلة من رسائل التخاطب والتعريف بها من خلال موقعها المكاني واستدلالته عن ذلك لا يمكن تجريدها من صفاتها عند الاستخدام الامر الذي يجعل من يستخدمها بهذه الطريقة وضعا مقاسا عليه كما هو الحال في اي نمط من انماط الكتابة. فالسعي الى تحرير اللغة الشعرية هو العمل على اخراجها من صفاتها ومرادفاتها ووظائفها دون التأثير على طباعها الحركية فلا يمكن ان يرى الشاعر في العين وسيلة للرؤيا فقط ولا يمكن للشاعر ان يتعامل مع الكرسي وسيلة للجلوس عليه ولا يمكن ان يرى الشمس والقمر وسيلتين ضوئيتين فقط وهكذا الحال بالتعامل مع اي من مفرداتنا ذات الصفات الازلية البصرية فما دام الشعر بلبلة الحواس وتشويش الذهن لمنع التطابقات التي تتألف ضمن مهمات اللغة فان عدم الاستقرار لدى الشاعر والشك بأي منتج يستدعي اعادة ثانية لتركيب الخيال لنسيان جهوزية الواقع الذي لا يصلح لتسميته شعرا، انه جوهر ما نراه ضمن توجه الشاعر في النص محاولته للتخلص من الملل اي ملل حضور المتراكم والمستخدم سواء في نمطية عملية التخيل او التصور على مسار وحيد لها او تصور الاشياء في الواقع وقبولها بالشكل المشاع بدلا من الافراج عن معطياتها تكون بعيدة في المسافات عن سياقاتها الاصلية. ان تأهيل منظومة التخيل للخروج من مجلبتها المعتادة الى اللا مرئي في التكوين سيؤدي بالشاعر الى تجنب العمليات التجميلية التي يجريها على النص بين آونة واخرى لان فضاء التحرك لديه سيكون شاسعا وخاليا من مطبات جنوح اللغة او الهذيان اللامجدي للانفعال وبالتالي فان تقديراته ستصب في طابع الغرائبية واستهجان كل ما هو ضعيف وغير قابل للمقاومة.

عرض مقالات: