بقيت اللغة في الشعر العربي القديم لغة الواقع ضمن ضرورات الحاجات المعبرة عنها ونتفهم هذا القول حين نتفهم ما يعنيه إيصال الرسالة الشعرية وكذلك نتفهم ما كان عليه الشعراء إزاء قواعد النحو وفقه اللغة (الفيلولوجيا) وفي دراسة اللغة لابد من الإجابة عما يتعلق بالمشكلات الفلسفية اللغوية والسوسيولوجية وكذلك التحولات التي شهدتها اللغة الشعرية.

التقنية الجديدة

ولاشك أن حركة الحداثة الشعرية قد أوجدت ضمن حراكها المتشعب العديد من التراكيب المغايرة سواء لقواعد اللغة أو مفهوم وظيفة اللغة وعملها ومنها على سبيل المثال إذابة الجملة الشعرية وكذلك استبعاد الحدود الفاصلة بينها والتعامل مع إشارات الفصل والتنقيط وتقويض سلطة حروف العطف والجر وكيفية توزيع النص، وهذه أشياء مغايرة في البناء التقليدي للقصيدة القديمة.

وتدخل من باب التجريب اللغوي. ورغم احتجاج نازك الملائكة على بعض هذه المغايرات اللغوية فلا شك بأن هناك من الشعراء من قد تقبل هذه التقنية الكتابية.

محددات اللغة

فاللغة في الشعر العربي القديم وكما عبر عنها أدونيس والتي كما ذكرنا ولأنها تكتفي من الواقع فأنها تمس هذا الواقع بقول أدونيس مسا عابرا رقيقا أي أنها لغة تعبير تقدم الأشياء بدلالاتها المألوفة وفيها أثر عال من التوازن والهدوء كما أن نظام المفردات والعلاقات ما بينهما يتحكم به في أغلب الأحيان الميزان النحوي ويأتي الانفعال والتجربة والقدرات التصورية واختراع الوهم وخلقه في المرتبة الثانية، وبذلك تكون هناك محددات واضحة ضمن القاموس الشعري للغة في الشعر القديم.

الانسجام وتطورات التجربة الشعرية

لقد ذكر يوسف الخال أن الشاعر الحديث يفضل التضحية بالقيمة الأصلية أو القيمة المفروضة للكلمة بغية إعطائها معنى جديدا (إيحائيا وخلاقا) أما اللغة المستخدمة في الشعر القديم فقد أجبرت الشاعر على الولوج الى التشبيه والاستعارة والتجريد اللفظي والفذلكة البيانية الأمر الذي انسحب على بقاء الإيقاع الشعري العربي على مغذيات مضامينه القديمة وأوزانه التقليدية التي وصلت حد التقديس لذلك دعا رواد الحداثة الشعرية الى إبدال كل المفردات والتعابير التي يبست حيويتها، استبدالها مع ما ينسجم من تطورات التجربة الشعرية لكي تكون مساحة الجو العاطفي مساحة غير محددة بقوالب صياغية وعاطفة وصفية وهذا يستدعي أيضا تقويض مهمة العقل التتابعية وأي شكل من أشكال التسلسل المنطقي في وحدات البناء الشعري.

لقد وجدت حركة الحداثة الشعرية أن هناك العديد من المحددات في اللغة المستخدمة في الشعر القديم وهذه التحديدات تشكل تحديدا لحرية التعبير وقدرة اللغة على الاكتشاف والتحول والنمو كما أنها قيد على تطور الوعي الشعري والفكري.

من مرونة متدنية إلى مرونة فائقة

إن معطيات العصر الحديث استوجبت في البدء برقعة ثوب اللغة القديمة ولكن بالمحصلة استوجبت هذه المعطيات تمزيق ذلك الثوب والتمرد على المنحى الصوري وإحلال مرونة فائقة في الحركات التعبيرية ما بين مدلولات اللغة الجديدة وهذا ما أشار إليه محمد الماغوط قبل انضمامه للكتابة في مجلة شعر.

بلا شك فقد تحقق التجديد وعمل الشعراء بمبدأ تفكيك اللغة وفككوا الصورة الى أجزاء بحيث يأخذ كل جزء معناه ضمن كلية المشهد وأصبحت الفرادة الجمالية الشكل المميز للتجربة الشعرية وأصبحت ضوابط الشعر القديم اختيارية وليست إجبارية.

لقد شحنت اللغة الجديدة نفسها بشيء من الغرابة التي استطاع الشاعر من خلالها الانتقال من الظواهر الى مواجهة باطن العالم وأسراره، ولمواجهة هذا الباطن كتبت قصيدة النثر.

داخل بناء المعنى

اهتمت قصيدة النثر بايجاد صياغة جديدة للأشياء التي ينتجها الواقع وهذا يعني أن الخيال لا يتمثل بها رغم تأثيرها عليه فعلى الخيال أن يمنح قدرا آخر من القيمة لموجوداته كونه قادر على الابتعاد عن المناطق المألوفة وفيه سرعة المغادرة لكل الصور الشعرية التي سبق وأنتجها وهذا يعني أن هناك علاقة ما بين الانسجام والتناقض غير مرهونة بآلية معينة سوى آلية اللحظة المبتكرة التي تساعد على تقديم الشكل المتحرر الذي يؤمن استخدام المطلق من الحرية والمطلق من العبث المنظم، ووفق هذا التصور فأن المعرفة البنائية في قصيدة النثر لا تخضع إلى معمارية ترتيب الكلمات أو نظام تركيب الجملة الشعرية المعهود في القصيدة القديمة لا من حيث الشكل فقط وإنما من حيث الترابط التصويري حيث تعمل المخيلة المفتوحة على استكمال مظاهر الكلمات واستدلالاتها، وبذلك فأن العناصر الشعرية تكون على درجة من التوتر والحيوية وتؤمن انسيابية السرد الشعري ضمن الدوائر المضغوطة وغير السائبة داخل بناء المعنى.

لحظة الاكتشاف لحظة قائمة

لقد أشارت سوزان برنار حيث اتخذت من بودلير ورامبو ولوتريامون ومالارميه ما يجمع ويتقاطع في الإيقاع والعنصر المخادع وأنماط الجمل والتراكيب اللغوية وعدم القدرة على تفسير القصيدة النماذج الإشراقية لفاعلية قصيدة النثر فهي تقدم تعريفا لمفهوم الشعر استنادا لما يراه مالارميه (إن الشعر هو التعبير الخفي عن مظاهر الوجود) ولاشك أن ذلك يعني عدم مس الوجود مسا مباشرا وكذلك إعادة نثر أجزائه المتناثرة في صدفة لانهائية أمام عالم آخر لتأخذ المغامرة الشعرية فرصتها في تقديم آخر لغير المتجاوب الذي يمكن تحقيق علاقات جديدة من خلاله باعتبار أن لحظة الاكتشاف هي لحظة قائمة في كل انتقالية بين جملة شعرية وأخرى.

من نظام الأشياء إلى نظام الأحاسيس

لقد غيرت قصيدة النثر، أي انتقلت من نظام لآخر، من نظام الأشياء التي اتخذت لها انساقا متقاربة إلى نظام الأحاسيس ليصبح كل شيء مأخوذا بقدرة كثافة المخيلة عند خلقها ليرسم الفراغ لما تشاء من صوره عبر إرسالية غير قابلة للانتهاء.

إن الحداثة الجديدة عملت على توسيع اهتمامات الشعراء وتعمقوا في التجربة الإنسانية وتفننوا في الرؤيا لتجارب الحياة للظفر بالأصيل الذي يلائم تطوره الحداثوي بعد أن هيأت لهم تجربتهم الشعرية وسائل جديدة للتعبير باللغة الملائمة ولم يكتفوا فقط بكشف أسرارها بل عملوا على إعادة صياغة تلك الأسرار وفق متطلبات حاجاتهم الشعرية الجديدة.

عرض مقالات: