الوصول الى الحركة العميقة للوجود يصنعه فكرٌ ما  ،أي أن لكل معنى يوجد مكانٌ في الخيال. وقد ظلَ يُعتقد أن الأمورَ تسير كما سارت في الأرض اليباب، ولكنها أمام الواقع الذي ظل متصلاً ومتسلسلاً كأنها لم تُصِب صميمَ الضرورات، وخصوصا تلك الأحلامُ النفعيةُ التي تراهن على إخضاع الآخر وتشويه آماله وكذلك إخضاع مقتنيات أحلامه المفقودة .

اللامرئي والمتناقض الوهمي

وكما يقول أوكتافيو باز إن النزاع بين السخرية والقياس يُحول مرادفات الأمور الدنيوية والمعادلات السرية إلى حد ما بين القواعد العقلانية واللاعقلانية ليخلق من الفوضى نظاما مستقلا من أنظمة تحريك العقل، أما عن المستويات التي يبدأ بها التأثر، فيبدأ من مشهد ما حين يُحدث هذا المشهد إسقاطا على مشهدٍ آخر، وتلك أسلوبية لتوليف نصف الصورة الشعرية بنصفها المضاد، وتوليف اللامرئي بالمتناقض الوهمي، وهو ما يفتح باباً لطرح أسئلة كتلك التي طرحت في "عوليس" ومنها إلى أين ..؟ وإلى متى ..؟ وهذه المرة توضع نقاط بيضاء على الصفحات السّود لنفي النقاط السّود التي وضعت على الصفحات البيضاء.

العمل في اللحظة المرتقبة

ولعل ما يميز الحديث المتفرد الداخلي ليس ما يملكه هذا الحديث بل ما يفتقر إليه لتصحيح وضع الأشياء فوق روابط المكان دون الأخذ بالمستويات الملموسة ، ويمكن لهذه الأسباب أن تطال الصفات المجهولة ويُعاد من جديد رسم العالم المغلق ضمن المدى الأسطوري ببعدٍ متوازنٍ مع التفاهةِ الفجةِ للمزدوج الحياتي اليومي وتطبيقات فصول العقل حين يتم كل ذلك ويُدرك حينها لتكتملَ الأسئلة بـــ كيف تم كل ذلك..؟

إن الوصول الى الحركة العميقة للوجود يصنعها فكرٌ ما أي أن لكل معنى يوجد مكانٌ في الخيال، إن هذا التفكيك في مجمل عمليات اللاوعي هو العمل في اللحظة المرتقبة، وأن هناك شيئا ما في طريقهِ للحدوث، وهو يعني أيضا إدراك المعاني الخاصة لجذب التعبير الخاص وتكوين النظام الغامض للمكان، المكان الذي تنتفي فيه المسميات والوقائع المتداولة والثابت من عناصر الطبيعة، أي أن هذا المكان يريد أن يُقدم نفسه خارج مكوناته، ليبقى مفتوحا على نظامه الشكيّ.

ومن خلال هذا النظام لم يتحقق مسار الفلسفة الشريكة التي تهتم بمقولةِ:

لماذا ينبغي هكذا وهكذا.. لماذا؟

الآن باستطاعة النقطة أن تصل معادلها وكذا صورة الجسر والغروب، وكذا حيوانات السَّيرك والجَمال الذي يسود الصَمت، فكل ثابت ومتحول يخضعُ للتجريب رغم أن الإدراك يقول:

بأن العملَ قد أُنجز،لكنه لن يُنجز بشكلهِ النهائي. لن ينجز إلى الأبد.

البديل الذي يُعوضنا عن العالم الحالي

الشعر الإطاحة بالغايات الناقصة

الشعر يستوعب ذلك التناقض الفلسفي ففي فهم الكون كتب الإنسان أجمل ماكتب ، حين كتب الشعر ،لأن الشعرمصالحة مع النفس ومع الكون ،فكل ماكتب إنما هو إضاءة للروح البشرية من الشعر الحسي إلى الشعر السحري ،وهناك من يرى بأنه التطبيق النبيل والعميق عن الأفكار ،وهو المؤثر في كل الأشياء وهو الذي يكون مخرجه تارة العقل وتارة الخيال ،وهو حين يُجرب لاخوف من أن يكون بوسائل غير ملائمة عبر ماينسجم مع روح المغامرة الشعرية التي تقع خارج حدود الأساليب المنظمة لبلوغ التوازن العميق مابين التصور والتعبير أي بلوغ الإنسجام الكلي  الذي يوصل المنتج إلى الذروة .

إن الشعر ليس بالصياغة المؤثرة إنما العبث بالزيف ورؤيا الأشياء عارية من صفاتها عبر تلك القدسية التي تطيح بالغايات الناقصة

 كونه يستوعب ذلك التناقض الفلسفي في تصور الكون وصنعه

 وهو مزدحم بالمشكلات التي تجدد العقل ضمن الخاص والعام وضمن الإحساس بالوجود وبالضياع ،

ضرورات البعد الجمالي

يرى كولردج :

أن المشاعر قوة كبيرة بذاتها وقادرة على إستشارة الملكة الخيالية

 ولندع الإنفعال يقلق النفس ويسلبها وقارها ، ولاشك أن مهمات الشاعر أن يعي تجربته الشعرية من خلال وعيه للمشتركات المؤثرة في طبيعة فهم الوجود وحقائقه الأزلية القابلة للمغايرة الشعرية وهو الهدف الأسمى لاستمرارية دوام خلق الموجودات الجميلة ،أن الشعر قد يبدو احيانا ظاهرة تعسفية كونه يمارس قمع المألوف والمكررفهو حين يعيد تشكيلهما بغير دالاتهما فإنما يقدم الضرورات المطلوبة لبعده الجمالي المرتقب الذي يولد من الرمز والإشارة والتوقع غير المعلوم،

التناقضات الظاهرية الى الأكثر شمولاً

عملَ  الشّعر في مرحلةٍ ما على تكثيف نكهة الحزن ونزعة التوتر، فقدمَ للمتلقي مديات أوسع في تصفية العديد من العوائق للانتقال من التناقضات الظاهرية إلى التناقضات الأكثر شمولا والتي تدفع باتجاه تجاوز الإنسان لمعظم إحباطاته أو على أقل تقدير الإفادة من تلك الإحباطات للولوج الى عالم بديل يعوض عالمه الحالي ، المهم أن يُعبر عن الخاصية المميزة للأنا كوجود وكقدرة على ممارسة عملية التطهير ضمن النشاط النوعي الذي تقوم عليه العملية الإبداعية ،إذ أن الشعر تشكل على أساس أن هناك منطقا داخليا يتعارض مع المنطق ويتعارض مع السياقات النسبية والواضحة وفي ذلك وكما يرى المحدثون أن هناك تحولا قد طرأ، تحول من التعقيد والاغتراب على صعيد الجماعات والأفراد في المفاهيم التي أثرت في البناء النفسي والثقافي ،

الجديد في أعماق المجهول

أشار الحداثيون الى وجود ثقافة جديدة لا تتلاءم والمرجعيات القديمة وعليه فإن مستويات التقارب ما بين القديم والجديد أصبحت تشكل مفارقة مابين الجهتين ضمن زمن مستنفد بزمن ما وزمن لا يمكن استنفاده، وهوما يشير إلى طبيعة ماضي الأشياء وكمال وجودها في مجهولها الذي لم يكتشف بعد

يقول بودلير (إلى أعماق المجهول كي نجد جديدا )  وهذا البحث في المجهول باعتقادنا يعني البحث في مجهولية الأفكار واستقدام آلية جديدة للتأمل لتحديث الماضي ،  وإن لم يكن فاحتواؤه والذي يعني العمل ضمن متناقضي الانقطاع والتواصل مع مستلزمات  الخيال الذي يدخل كقوة جامعة ورابطة، كقوة مُفرقة وكقوة لامة ، وقدعُرِّف أي الخيال بأنه نمط من الذاكرة تَجَردَ من عنصري الزمان والمكان ،وذلك يعني أن مركز استقطاب اللحظة الشعرية سيشغل مساحة أوسع من الناحية الفعلية للاشتغال مع عمق اللغة وما ورائها وسيؤمن ذلك الكثير من اللحظات التي تنسجم مع لحظة التأمل تلك بما يتلاءم مع إخضاعِ غير المألوف ضمن مستويات رفيعة في بناء النص الشعري فيتيح ذلك المجال الى النزعات الإيهامية في بلوغ مستوياتها النادرة من التغريب لتتدرج في سريتها وغموض دالات قواها التعبيرية فلا وجود  لنهايات إنما مستويات من الحوار الداخلي  وتشعبات للسرد المطلق ، ليبدأ كل شيء يتحرك ضمن إستجاباته وتأثيرات قدرة التجربة الجمالية للشاعر وهو ينتقل مخادعا ظواهر الأشياء وعاكسا بعاكسته على روحها الباطن ،

هاجس الأولوية الإنسانية

وتلقائيا تسفه الدلالة الموروثة ويبدأ المزيد من البحث  عن مسرات مختلفة المعنى  تؤدي إلى الفوضى المنظمة فالعالم قد رُتبَ كما ينبغي ورتب الآخرون ضمن ترتيب سياقاته والمهمة إذن ليست إعادة ترتيب وإنما تكمن في كيفية تغيير هذا الشكل من الترتيب تغييرا في هندسته وموحياته لوضع الأولويات الإنسانية كهاجس متسلط يعيشه الشاعر لحظة بلحظة فكانت النتيجة المباشرة لهذا التمرد الشعري الجديد إن كل ماكتب كان مجرد أكذوبة ، كان مجرد ملاطفة الواقع ومحاباته ولايعدو في أرقى حالاته كونه تأملا سطحيا لايأتي إلى الحياة بشيء ولاينفخ فيها من السعادة أدنى شيء .

عرض مقالات: