الثنائية البليغة

اشتغل فوتوغرافيون كثر على ثنائية (الأبيض والأسود) أي الضوء والظِل/ الضوء والعتمة ،فهما مفردتان فنيتان يوظفهما الفنان للكشف عن معاني ومفردات حراك الواقع . أي ما يحدث في المكان والزمان.. ولعل ( مراد الداغستاني ،جاسم الزبيدي ، فؤاد شاكر، عادل قاسم ، عبد الرسول الجابري ،عبد علي مناحي) تميزوا في هذا النمط من فن التصوير في تعميق هذين الضربين الفنيين من التعبير ، ولم يبقوه ضمن حيّز ثابت ، فقد خضعوا إلى مستوى وعي العلاقة بين أطراف الثنائية ، فانصّب جهدهم في ابتكار الصيغة الفنية والأبستمولوجية في التطبيق ، عبر تشكيل بنى فنية صاعدة . مما خلق علاقات جديدة تُحسب لكل من هؤلاء الفنانين. بينما انشغل الآخرون بتوظيف اللوّن في مصوراتهم ومنهم( عادل قاسم ، عادل الطائي ،احسان الجيزاني، ناصر عساف ، صلاح حيدر، أكرم جرجيس ، زياد تركي ) وغيرهم الكثير . فالضوء غير الأبيض ، والظِل غير العتمة ، إذا ما نظرنا إلى الثنائيات تلك من باب البنية المتحصلة من وجودهما كوسائل فنية . كذلك من اعتبارات فكرية تخص مبررات الصراع الحاصل في الصورة، نتيجة الصراع الحاصل في الواقع . فالضوّء صيغة فنية تصعّد وتيرة الأشياء باتجاه الانفتاح ، وهو جزء من سردية بصرية مهمة ، لأنه يكشف عن الخفايا ويُجسّد المرئيات ضمن إطار مكوناتي داخل كادر الصورة ، أي تنفتح جوانب الشيء عبر ضوء عين الكاميرا . أما الأسوّد فهو صيغة فنية لرسم الحواشي والجوانب والزوايا التي تحقق نوعاً من التعادل والمعادل الموضوعي في النص البصري ، عبر التعادل الموضوعي الفني . أما العتمة ، فها دلالة مضادة كما يبدو للضوّء ، لكنها أيضاً تتظافر من أجل وضع الأشياء ضمن معادلها الموضوعي والفني . وفي كلا النمطين تتحقق معادلة فنية لرسم مكونات الصورة التي هي حاملة لمكوّنات الواقع . فالصورة عالم قائم بذاته .لأن الصورة الفوتوغرافية نص كبقية الأجناس الإبداعية اختار وسائل تعبيره ، بعد أن تعدى انتاجها  مجال الحِرفة والوسيلة لكسب ما يُديم الحياة. إذاً نحن نتعامل مع هذا الاشتغال من منطلق وظيفة الفن الفكرية ، وليس فقط من وظيفته الجمالية ، التي هي مرتكز أساسي في النص ،مهما اختلف جنسه . إن تعدد الخصائص ؛ يعني قابلية فن التصوير على استيعاب ممكنات التحقق الذاتي والموضوعي . لذا نجد أن المحاور تعددت وفق محاور الرؤى والبنى الأُخرى التي تُسهم في تصعيد وتيرة القدرة الذاتية في اختيار ضروب الوظيفة الفنية في انتاج الصورة . فانظر إلى فنان الفوتو من زاوي ضيّقة ، يعني تعطيل وتيرة التطور الحاصلة ، والتي حفّزت كبار المفكرين والنقاد على وضع الأسس والرؤى التي أقرّت وجود الصورة الفاعل ، وعدّته واحد من ضروب التعبير الأُخرى ، فكان تعاملهم مع الصورة كتعاملهم مع أي منتج إنساني راقي ، بل تفاعلوا معه من باب تمثيله لذاكرة التاريخ بكل تجلياته .فاعتمده الأنثروبولوجيون باعتباره متن يمكن الاعتماد عليه لدراسة الواقع الاجتماعي والسياسي . وحصراً ما قام به الباحثان( كفاح الأمين ، عامر بدر حسون) في قراءة تاريخ بغداد ضمن الحقل الاجتماعي والسياسي خلال موجودات الصورة .

الخاصية الفكرية

الفنان الفوتوغرافي ( هادي النجار) من بين الفنانين الذي وظفوا هذه الثنائية.  .خلال لوحاته( صورّه) . فهو يعمل على معالجة فكرة التدمير التي يجدها سائدة لإزاحة كينونة الوجود الجمالي في حياة الإنسان بما يعتبر الصورة صيانة للوجود عبر توثيقها لتاريخ الزمان والمكان  ، لذا نجده ينظر إلى هذه الظاهرة عبر ارتباطها ، ليس بما يُشاهده في الواقع والذي لزاماً عليه عكسه في لوحته ، بل تعدى ذلك باتجاه كشف العلة والمعلول ، أي جدلية الواقع، وذلك بتحفيز ذاكرة الآخر لمحاورة ما يجده شاخصاً في الصورة .وهو أمر طبيعي إذا ما كان اشتغال المنتِج يروم رمي الحجر في البِرك الساكنة والساخنة ، دون التخلي عن امكانياته الفنية .فالفنان هنا يتفحص مفردات الواقع ، ويُراقب المتغيرات ، وتستوقفه اللقطات في وجوده اليومي ، يتحاور معها ، يتأملها بعين مجردة . مما يدفعه بعد استكمال دورته هذه إلى الاستعانة بعين ثانية هي عين الكاميرا ، والاهتمام بحِرفية ودقة وحساسية العين هذه والتحكم بها ، خلال اصطفاء العينين (عين المصوّر+ عين الكاميرا) وعين المصور هنا ؛ الأداة المرهفة التي اختارت هذه اللقطة دون غيرها ، أما عين الكاميرا ؛فهي ليست أداة ترتبط بجهاز آلي ، وإنما هي عين تنشّطها التقنية الفنية .أي يعالج صورة الواقع بعقل الكتروني متفوّق. بمعنى أن الكاميرا لها حساسية خاصة ( علماً أن العدسات تُقاس بدرجة رهافة حساسيتها / كما أوضح لي في الستينيات من القرن الماضي الشاعر والمصوّر رشيد مجيد ) لذا فنحن إزاء رهافة بشرية وآلية تخضع لتقنية عالية . وهذا التواجد الثنائي لعينين مركزيتين ، تنتجان صورة تنتظرها عين ثالثة ،هي عين المتلقي البصري( ينظر في هذا كتابنا "العين والضوء" الصادر عن دار سردم في السليمانية عن فناني الفوتو الكرد 2014). الفعل الانتاجي هذا يرمي كوظيفة إبداعية إلى كشف الصراع خارج التقنية الصوّرية ، أي يتعامل مع مفردة الضوء والعتمة ، التي هي مفردات التعبير المجازي ، غير الأبيض والأسود ، أي غير الضوء والظِل. هنا يحدث نوع من الاختراق الذي يُحققه الضوّء اتجاه هيمنة العتمة .وفي هذا تخريج لبنيات صراع داخل المجتمع والوجود بشكل عام وهو قريب إلى حد ما بالمفهوم العام لصراع الوجود ،مع الاشتغال الأول ، لكنه يمتلك بلاغته الذاتية في التعبير . ولعلنا وجدنا هذا في لوحات الفنان(النجار) قيد الدرس ، وما سوف ندرسه عند فنانين آخرين ، حيث شكّلت ثنائية الضوء والعتمة ، مركز أتاح للصورة  في كوّنها تتخذ لها مآلاً فنياً من بين كل الأجناس ، وتتجاوب مع متطلبات الهم اليومي للإنسان ، وهو يبحث عن ضالته في الذاكرة . وبالأساس ذاكرة التاريخ ..

لما كان التاريخ بكل تفاصيله الصغيرة والكبيرة ، ودلالات كل منها ، فمعنى هذا أنه سجّل يتحرك ضمن مدونة ، ومدونة تحصل على بينى فكرية . فالذي يُحرك مدوّنة التاريخ هي الأفكار . والصورة وسيلة للتدوين ، شأنها شأن الأجناس والوسائل الأُخرى . كن ما يُميّز الصورة كوّنها تتعامل مع الوقائع من باب التوثيق دون أن تستأثر بتاريخه . فقد يكون الاستئثار من باب الاختيار لتصوير هذا المشهد أو ذاك ، بدوافع فكر المصوّر ، فهو أمام ظواهر اجتماعية تنتجها ظواهر سياسية . وهو أيضاً بمواجهة أمكنة لها تاريخ . فالاستجابة لحسه الفكريــ الفني مرهون بقدرة حساسيته في الاختيار . وهو ضرب من الانحياز . غير أنه انحياز مهادن وحيادي صرف .

مجالات متحققة

في فوتوغرافيات الفنان( هادي النجار) انتقاء ذي صلة بالموضوعية ، أي رصد الاستثنائي ، ليس من باب عرضه ، بقدر ما العمل على محاورته . فاللقطات المتيسرة لدينا ، تومئ إلى مثل هذا الحوار الذي يتوفر على عناصر مهمة محركة  في كادر الصورة . بمعنى أنه لا يقدم مفردات لكادر ملتقطة له الصورة ، بل أنه يُحيل محتوى الصورة إلى حراك متمكن من انتاج حراك إنساني عام . إنه يحاور الأشياء ، سواء كانت ( جدران، عطفات أزقة ، أمكنة غامضة كالمزارع والغابات ، مجالات البيوت الداخلية كالسلالم ، أطفال ، شيوخ) إلى غير ذلك من مفردات تستعين بها عين الكاميرة لإنتاج قطعة جمالية خالصة ، ذات محتوى فكري ، يستمد من الفلسفي علاقاته ، ومن الفكري جدليته . لأنه يرتبط بمحوّر العقل في التعامل مع العلاقات الإنسانية ، أي أنه يبلوّر نظرة فلسفية للواقع. فلسفية تجمع بين الفكري الخالص ، والصيغة الفلسفية التي تؤكد على جدلية مثالية من جهة ، ووجودية من جهة أُخرى

عرض مقالات: