تعد قضية الكرد الفيليين قضية وطنية معقدة بسبب تداخل جملة من الظروف المتجددة مع اي تغيير يطفح على سطح المسرح السياسي في العراق، وتتغير تبعا لها صور وأشكال الحكومات التي ما تنفك تواصل ذات النهج ازاءهم، إذ تعرضت هذه الشريحة الكوردية الى صنوف الاضطهاد والملاحقة والتهجير القسري، فضلا عن محاولات الانظمة المتعاقبة طمس تاريخهم تماشيا مع سياساتها الرامية الى تصفية وجودهم التي من أجلها عمدت السلطات الى فبركة الوقائع وتغيير الحقائق التاريخية بأضاليل ايديولوجية حاولت صناعة حجج وذرائع تتفق ورواياتها من أجل تزييف وعي الجماهير وامتصاص نقمتها.
معاناة الفيليين وأشجانهم مثلت مساحة واسعة من الاستهداف وتطرح مسائل متعددة، فالمسألة الاولى أنهم استهدفوا على أكثر من صعيد ومحور، شكلت هجمة شرسة عليهم ولوجودهم التاريخي على صعيد مناطقهم التاريخية التي تعرضت الى شتى اجراءات التعريب والتغيير الديمغرافي لتغيير هويتها الكردية، حيث تغيرت اسماء المدن والمواقع والقرى والمحلات والمدارس فضلا عن تغيير البنية السكانية بالتهجير والاستيطان، بدلا من بناء ثقافة تعايش أخوي تعزز اللحمة الاجتماعية وتزيد تماسكها. والمسألة الثانية ان السلطات المتعاقبة اقصت الكرد الفيليين من الوظائف الحكومية ذات الدرجات الخاصة بشكل عام وبأي درجة، بغض النظر عن شهاداتهم الجامعية وتحصيلهم العلمي أو كفاءتهم، مما أدى الى لجوئهم الى مختلف المهن التي برعوا فيها وفي المقدمة منها التجارة التي احتل بعضهم فيها مركز الصدارة، حيث اشارت بيانات غرف التجارة العراقية بذلك وخاصة في خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي، الأمر الذي أدى الى تسريع طاحونة التهجير القسري للاستيلاء على أموالهم، ولأسباب اخرى جاء ذكرها في مذكرات بعض الساسة مثل ( حردان التكريتي) أحد اقطاب النظام البائد.


قدم الكاتب أحمد ناصر الفيلي مطبوعه الذي صدر من وزارة الثقافة عام 2013 في 383 صفحة من القطع المتوسط، في سبعة فصول، تعريفا لكلمة فيلي وأصل اشتقاقها، واستعرض الأصول القديمة للكورد عبر مناطقهم التاريخية وتواجدهم في بغداد، ويتطرق الى التعريب والتغيير الديمغرافي، ويعرض هموم الفيليين ما بعد الدكتاتورية وفي ظل الحكومات الوطنية المنبثقة ويستعرض الآراء في حل أصل المشكلة.
اختلفت الآراء في معنى كلمة (فيلي) التي تطلق على جمهرة واسعة من الكرد، فهي تعني عند بعض الباحثين (الثورة) وعند اخرين تعني (المتمرد والعاصي)، ومصادر تاريخية أوردت أن معناها (الشجاع والفدائي الثائر)، ويذهب أغلب اللغويين الكرد في العراق أن تسمية (فيلي) تطلق على الكرد الذين يتكلمون اللهجة الكردية (اللورية) القاطنين شرق دجلة والعاصمة بغداد وبقية المدن من وسط العراق وجنوبه التي يتواجدون فيها، نتيجة موجات الترحيل القسرية وعمليات التطهير العرقي التي طالتهم في محاولات صهرهم قوميا وخاصة في عهد النظام السابق، وبرغم إشاعة التسمية عراقيا إلا أن هناك بعضا من العشائر من الكرد الفيليين التي لا تقر بلقب (فيلي) في مناطق مندلي وخانقين، وذلك لأسباب عديدة بينها أن السياسات الحكومية جعلت من التسمية تهمة، حيث عدتهم طابورا خامسا وحصرتهم في نطاق الوثائق المتعلقة بالتجنس، وحيث هنالك من يمتلك وثائق التجنس المعروفة (شهادة الجنسية العراقية)، فقد أطلقت السلطات التسمية (فيلي) على من قامت بتسفيره. يظهر مما تقدم أن مدلول كلمة الفيلي يشمل القبائل الكردية التي تقيم في الأجزاء الجنوبية من كوردستان على الجانب الايراني.
في العراق تواجه اللهجة الكردية الفيلية مخاطر حقيقية قد تؤدي الى انقراضها إذا لم يتم الاهتمام بها والتي تندرج تحت مجموعة (اللورية)، والسعي الى تنشيط آدابها ومساعدة الكرد الفيليين على التكلم بها، خاصة اولئك الذين تعرضوا للتهجير والترحيل القسريين من مناطقهم صغارا، حيث عاشوا في بيئة مغايرة لبيئتهم الكردية وصاروا بمواجهة جديدة على مختلف المستويات، مما أدى الى تركهم التكلم بلهجتهم بحكم سياسة الأمر الواقع، فاللغة السائدة الرسمية هي العربية فضلا عن كونها لغة التخاطب الوحيدة في الشارع والمحلات والدوائر والمؤسسات الحكومية وسط العراق وجنوبه، وهي من العوامل التي تضعف الحس القومي، لذا نرى ضرورة الاهتمام باللهجة الكردية الفيلية ودعم سبل انتشارها ما بين صفوف الكرد الفيليين وانشاء محطات اعلامية مسموعة ومقروءة ومرئية من أجل تنشيط آدابها واعادة الذاكرة الشعبية الى مجراها الطبيعي، ومساعدة الجيل الذي حرم من لغته وثقافتها.
وتغيب الاحصاءات الدقيقة والصحيحة التي تشير الى أعداد نفوس الكرد في أجزاء كوردستان، فالثابت تاريخيا ولأسباب سياسية ان الكرد بصورة عامة تعرضوا الى تجاهل السلطات فيما يتعلق بذكر أعدادهم بصورة صحيحة في البيانات الاحصائية التي أجروها مرارا عبر حقب تاريخية مختلفة، لعدّهم أقلية غير هامة وهامشية في سياسة رامية الى تقليص أعدادهم باستمرار، وفيما يتعلق بالكرد الفيليين فالمعروف انهم يتوزعون بين دولتي العراق وإيران حيث مناطقهم متجاورة بين الدولتين. وما واجه الكرد الفيليين من سياسات التعريب والتهجير والترحيل من مناطقهم بمراحل وفق السياسات المنظمة والمعدة لهذا الغرض، بالاضافة الى سياسات اضطر بسببها الكرد المهجرون للانتساب الى أحد العشائر العربية طمعا في حماية اجتماعية بعد ان أصبح قانون العشائر وحمايتها هو الأكثر فعالية من بين القوانين الأخرى. واجراء احصاءات سكانية بعد عمليات التهجير والترحيل في مناطق تواجد الكرد الفيليين الاصلية بعد ملئها بالمستوطنين العرب وتغيير اسماء المدن والقرى والقصبات والشوارع من أجل محو الوجود القومي الكردي الفيلي فيها، وقد أقدم النظام العام 1980 وما تلاه بأوسع عمليات تسفير في البلاد، حيث تم ابعاد حوالي نصف مليون نسمة من الكرد الفيليين سرا الى إيران، بعد الاستيلاء على أموالهم وممتلكاتهم، كما أن أعدادا منهم كانوا ضمن من رحل من البلاد بعد التسعينات من القرن المنصرم. وبعد سقوط الدكتاتورية عاد قسم من الكرد الفيليين وسط العراق وجنوبه الى مناطقهم الاصلية وبأعداد متفاوتة، نتيجة الوضع الاقتصادي لهذه المناطق وعدم قيام الحكومة الاتحادية بالشروع بإعادة بناها التحتية وتعويض المتضررين، حيث تشير التقديرات الى عودة عشرات الآلاف الى خانقين واعداد أخرى الى مدينة مندلي وبغداد الذين شملوا باجراءات المادة 140، كما أن الروتين والبيروقراطية المنتشرة في دوائر الدولة لم تشجع الكثيرين ممن هم في المنافي من العودة والعيش بصورة طبيعية في البلاد. لفد كشفت الوقائع التاريخية أن البعث استهدف ليس الكرد فحسب وانما كل القوى الوطنية والديمقراطية من خلال اتباعه سياسة (القضم التدريجي) لها تحقيقا لشعاره (الحزب القائد)، فدشن عهده الجديد بتنفيذ أولى مسار سياساته بترقين الوجود القومي الكردي، فقد تم تهجير أكثر من سبعين ألف مواطن عراقي من الكرد الفيليين الى الحدود الإيرانية بين 1970 ـ 1971 وبعد اتفاقية آذار.
تعرض الكرد الفيليون بجانب ذلك كله الى محاولة الطعن في وطنيتهم ومحاولة اخراجهم من أي عملية سياسية محتملة في البلاد، واتخذت التشريعات الظالمة ضدهم أشكالا أوسع وأعمق على وفق سيناريوهات مختلفة. ففي عام 1950 طرد المواطن الكردي الدكتور (جعفر محمد كريم) العضو المؤسس للحزب الديمقراطي الكردستاني، ثم صدر في العام نفسه قرار اسقاط الجنسية العراقية عن اليهود رقم 1 لسنة 1950، والجدير بالذكر ان قانون اسقاط الجنسية ابتدع في حكومة رشيد عالي الكيلاني عام 1933 عندما أسقطت الجنسية عن (المار شمعون) في أحداث سميل الشهيرة، وفي حالة مماثلة أقدم النظام الفاشي على إحياء هذا الموروث السيئ الصيت حيث أسقط الجنسية عن الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري والشاعر عبد الوهاب البياتي وآخرين. هذا الإجراء استغل جيدا من قبل نظام البعث الفاشي ومهد السبيل لاتساع الدائرة من ترحيل محدود الى عمليات تهجير جماعية شملت شريحة مهمة من الشعب العراقي، متمثلة بالكرد الفيليين ليكونوا أول ضحايا الانفال والتطهير العرقي المعروفة بالجينوسايد، وطالت قضية اسقاط الجنسية الشيوعيين ونفيهم الى خارج البلاد، وظهرت على السطح لكونها مخالفة لروح الدستور خاصة المادة 7 من القانون الاساسي العراقي التي حظرت ابعاد العراقيين ونفيهم الى خارج البلاد، وهذا ما كشفته وقائع جلسات محكمة الشعب بعد ثورة 14 تموز 1958 الوطنية أثناء محاكمة وزير الداخلية في العهد الملكي سعيد قزاز . ثم تطورت قضية التهجير المتلاحقة، ففي 30ايار 1963 صدر قانون الجنسية الجديد تحت رقم 43 لسنة 1963 وكانت نصوصه تنم عن نزعة انتقامية، حيث صدر بعد ثلاثة أشهر من وقوع انقلاب 8 شباط عقابا لهم لمقاومتهم الباسلة لانقلابيي 8 شباط ودفاعهم عن ثورة 14 تموز ومكتسباتها وانجازاتها الوطنية في مناطق سكناهم التي عدت آخر جيوب المقاومة مثل (حي الاكراد، ساحة النهضة، باب الشيخ، الكاظمية)، وزج في السجون الآلاف من شبابهم ليواجهوا التعذيب والموت. إن كل العطاء الوطني ونكران الذات الذي تحلى به الفيليون لم يمنعا القوى الشوفينية المتشدقة بالشعارات الفارغة من أي محتوى اجتماعي ووطني من التنكر لوطنيتهم، واعتبارهم أجانب دون مسوغ اخلاقي وسند قانوني سوى استخدامهم كورقة ضغط في أحابيل السياسة ومراهناتها الخاسرة.
إن المكافأة الوطنية التي تكافؤوا بها جراء دورهم الوطني هي اسقاط الجنسية عنهم وتهجيرهم بمئات من الألوف من الاطفال والشيوخ والنساء على قارعة الحدود، وتلك وصمة عار في التاريخ المعاصر للبلاد وتحتاج اعتذارا تاريخيا ومواصلة حقوقية واعتبارية كي تعاد اللحمة الوطنية.

عرض مقالات: