كتب أحمد ناجي عن الشيخ عبد الكريم الماشطة كأحد رواد التنوير في العراق في كتاب صدر في عام 2019 في تسعة فصول قدم له الدكتور رشيد الخيون معرفا به كعضو في مجلس السلم العالمي يذكره كل سجين بسبب ارائه الفكرية والسياسية وكل عدو للحرب ومحاولات السلطات المتعاقبة على العراق ربط اسم كل التواقين الى السلم والانسانية بالشأن الحزبي ويتهمون بالانتماء الى الحزب الشيوعي العراقي وهذا لم يسلم منه شيخنا الجليل . ويلقي الضوء على وعي الشيخ المتقدم مقاربة مع اوضاع العراق آنذاك حيث كان هدفه نصرة السلم ووقاية البشرية من حرب ذرية او نووية مرتقبة بعد ان اخذت الدول الكبرى بعد الحرب العالمية الثانية بالتعبئة الذرية وتتنافس على امتلاك رؤوس هذا السلاح المدمر فكان شيخنا واعيا وشاعرا بالخطر على البشرية جمعاء ،  ابعد افقا من حدود بلدته الحلة ، ووطنه العراق ، وقوميته وديانته ومذهبه عندما قبل بعضوية مجلس السلم العالمي جنبا الى جنب مع الفنان بيكاسو وعالمة الفيزباء أيرينا كوري ويعانقه في هذا الشعور والانتماء الشاعر محمد مهدي الجواهري ومات الشيخ عام 1959 متوشحا الوسام الذهبي منحه اياه مجلس السلم العالمي بذكرى تأسيه العاشرة.

يورد في المقدمة ايضا ان مجموع ما كتب عن الشيخ الماشطة في حقبة طويلة من تاريخ العراق المعاصر هو فقط عدد من الدراسات والمقالات قد لا تتجاوز اصابع اليد الواحدة والسبب يعود الى خطابه النابع من صميم الواقع الذي ناجى به وجدان الانسان وحرض على تحرير طاقاته الكامنة وفي ذلك تماس واضح مع الاشياء المنسية والمهدورة التي مثلت اختراقا للمألوف. تعارضت مواقفه وآراؤه مع الحكومات والسائد من الفكر بشكل وآخر، ولم يأل جهدا في مواجهة اعراف التسلط والاستبداد والاستعباد وظل الى جانب الناس مما جعله مصنفا ضمن الممنوعات حتى بعد وفاته.

استوعب الشيخ الماشطة حيثيات حالة التخلف التي تسود مجتمعه ومظاهر القبلية والعشائرية والبدوية وأدرك مبكرا ان تقدم المجتمع لا يمكن ان يتم بمعزل عن ضرورات التقدم العالمي وعليه واجه اشكالية القديم والجديد وهذه الاشكالية معركة دائمة التجدد في المجتمع الانساني وبحاجة الى وعي بالتراث والمعاصرة وقد حسم الشيخ الماشطة بصفته رجل ديني تحديد مساره مبكرا في الاتجاه التحرري والتجديدي ولم تأت افكاره وتصوراته طيلة حياته من مواقع مستقلة عن المسلمات الدينية، بل خاض غمار هذه الطريق الوعر الملأى بالمطبات ماسكا بها وبمنهجه الاجتهاد حول الجزئيات. ان مسيرته العملية التي قاربت نصف قرن حافلة بالمواقف الوطنية والمآثر والنشاطات الفكرية والاجتماعية والسياسية التي سعى من خلالها الى مواجهة التحديات بتوعية الجماهير واستنهاضها في مقارعة معوقات التقدم للتخلص من موروثات القرون الاستبدادية : الفقر والمرض والجهل والتخلف وتحقيق طموحاتها في الاستقلال والحرية والتقدم والازدهار.

السيرة الذاتية

في الفصل الاول من الكتاب يستعرض الكاتب (أحمد ناجي) السيرة الذاتية للشيخ عبد الكريم الماشطة الذي ولد سنة 1881 في احد بيوتات محلة جبران في الحلة المدينة التي شعت بالعلم والفكر والشعر واستوعبت كل التنوعات وهي حاضنته البيئية التي نشأ فيها وسط محيط عائلي مترف متمثلا باسرة تجارية تتمتع بمكانة اجتماعية مرموقة.والشيخ الماشطة هو آكبر اولاد الحاج عبد الرضا السبعة وله من الاخوان ستة ومن الاخوات اثنان. والحاج رضا كان من الشخصيات الحلية الوطنية التي طالبت بالدستور وسعت الى تنظيم نفسها منذ بدايات القرن العشرين لتحقيق ما جاء به على ارض الواقع وامتدت طموحاتهم الى ازالة الوضع الاستبدادي القائم وتحسين احوال الناس الاجتماعية والمعيشية وعرف عنه ايضا ورعه واهتمامه بالادب والشعر والتعليم ونشر المعرفة ومما يذكر عنه انه قام في سنة 1920 بتشييد مسجد عرف بمسجد الماشطة وكان بمثابة مدرسة دينية وكتاب يقوم الشيخ الماشطة بالتدريس فيه وما زال قائما ليومنا هذا حيث قام الشيخ عبد الكريم الماشطة بتجديده منتصف اربعينيات القرن الماضي.

في الفصل الثاني يتابع الكاتب رحلته الدراسية تلبية لرغبة والده بمتابعة الدراسة والتي ابتدأت الى مدينة النجف حيث مناهل الفكر والعلم والاجواء الزاخرة باعداد كبيرة من العلماء والفقهاء وطلاب العلم والمكتبات العامرة بالكتب والمخطوطات. اكمل فيها دراسة المناهج المقررة في الحوزة الدينية وبذلك امتلك ارضية رصينة حفزت لديه شغف البحث في الموروث الاسلامي والتواصل مع كل ما هو جديد ، فتتبع الاصالة وتقصى في النظريات الفلسفية للكون والوجود. ومن اولى الومضات التي تواصل معها الشيخ الماشطة وشعت في مخيلته متألقة هي احداث المطالبة بالدستور في ايران المعروفة بالمشروطة سنة 1905 التي استمرت احداثها الى ان تم اعلان الدستور في كانون الثاني 1907. ومن ثم اعقبتها حركة المطالبة بالدستور في الدولة العثمانية وتم الاعلان عن تشكيل الحكومة الدستورية في 23 تموز 1908. وعدت نقطة التحول هذه انبعاثا لنهضة العراق المعاصر على اساس ان الهزة القوية التي احدثها اعلان الدستور جاءت لتوقظ النائم مثلما فجرت الحرية النسبية القوى الكامنة في نفوس الكثيرين من ابناء الشعب العراقي فتحرك الساكن ونطق الساكت واستيقظ المجتمع الراكد وبدأ العراق يعبر عن وجوده. وعلى اثر ذلك امتلأ فضاء مدينة النجف بالدعوة الى الدستور والعدالة وكان الشيخ عبد الكريم الماشطة احد طلاب الحوزة الدينية المدافعين عن الدستور متأثرا بافكار والده في هذا الشأن والموجهة لقناعاته. وقد تبلورت ملامح التكوين الفكري والسياسي لديه مع تطور تأثيرات اعلان الدستور وسط اجواء تمخضت عن معطيات جديدة تخاطب العقل وتملأ القلب بطموحات وآمال تصبو اليها الجماهير. وتطورت مداركه بعدما ادرك بوعي اهمية الجدل والتأمل في فضاء المعرفة والثقافة والبحث والتقصي عن اجابات عن تساؤلات العقل المقلقة وافضت به الى مخاض وعي مكنه من اجتراح جملة من المتبنيات الفكرية والسياسية التي ترمي الى حق المجتمع بحياة كريمة تسودها الحرية والعدالة والمساواة وقد رافقته هذه المتبنيات طوال مسيرته حيث ظل مشدودا اليها على الدوام يبتغي تحقيقها بالافادة من الجوانب المضيئة في التراث الاسلامي ومن منجزات الفكر الانساني وبذلك جسد حقيقة كونه رائدا تنويريا تمكن من فهم وتحليل جدلية العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل. وقد تأثر الشيخ الماشطة بافكار وطروحات العلامة محمد حسين النائيني الذي نظر الى التقدم الغربي كنتيجة ولدها الانفتاح على عوالم وثقافات مختلفة بما فيها الثقافة الاسلامية نفسها وبدا له بالمقابل ان الأخذ بالسنن الحضارية بما يعود على بلاد المسلمين بالاستفادة والتطور لا يتعارض مع روح الاسلام ومفاهيمه.

وطنية راسخة

في الفصل الثالث حيث ظهرت مواقف الشيخ عبد الكريم الماشطة الوطنية الراسخة والمقرونة بالنشاط السياسي والاجتماعي في المجتمع الحلي في دعم حركة الجهاد ومقاومة الاحتلال البريطاني 1914 1918 وكانت ذروتها معركة الشعيبة في نيسان 1915، او في الاحداث المروعة التي لحقت بمدينة الحلة اواخر العهد العثماني خلال ما عرف بـ ( دكة عاكف ) سنة 1916 وبقت حاضرة في ذاكرة الحليين. ومن الجدير بالذكر ان البريطانيين جعلوا مدينة الحلة قبل اندلاع ثورة العشرين مركزا لقواتهم العسكرية وقام الحليون بدور مميز ومساند لما كان يجري في محيطها الريفي او مدن الفرات الاوسط وقاموا باحتضان الثوار والتمويه على تواجدهم باستخدام مختلف الاساليب اثناء حملات التفتيش التي كانت تقوم بها القوات البريطانية وقد ناصر معظم الحليين الثورة ولهم مراسلات مع قادتها من المراجع ورؤساء العشائر وعبروا عن مواقفهم المساندة لها وتصدر الشيخ عبد الكريم الماشطة وآخرون الاجتماعات في المساجد محركين مشاعر الناس بخطب داعمة للثورة بعدما تبين لهم ان المستعمر لا يفهم الا لغة القوة. واعتقل الشيخ مع عدد من افراد عائلته ومكثوا فترة في المعتقل الى ان اطلق سراحهم بعد نجاح وساطة الحاج عبد الرزاق الشريف وهو واحدا من وجهاء المدينة ورئيس بلدية الحلة آنذاك وقيل انهم كانوا عرضة لعقوبة الاعدام لولا تلك الشفاعة. نلاحظ هنا بواكير سمة الانسجام والتوافق بين الفكر والسلوك عند الشيخ الماشطة التي ظلت ملازمة له طيلة حياته من خلال تتبع مواقفه في احداث المطالبة بالدستور وحركة الجهاد ضد الاحتلال البريطاني وثورة العشرين.

كان للشيخ اجتهاده الشخصي بقضية التعليم الحديث في المدارس الرسمية وضرورة العمل على نشره، فلم يتهيب من مخالفة فتاوى التحريم يومئذ حتى وان كانت صادرة من مرجعيات يجلها ويحترمها وسبق ان وقف بجانبها مدافعا عن مواقفها الوطنية فنراه واضحا في منهجه المرتكز على بديهيات التنوير ومنطق كون المعرفة وسيلة للتحرر. فالتعليم بنظره من مقومات نهضة المجتمع. مدركا ضرورته في التقدم الاجتماعي. انتصر بكل جرأة لقضية تعليم المرأة وعبر عن ضرورة تمكينها من ابراز طاقاتها واداء دورها في بناء المجتمع وقد جسد قناعاته بتلك الافكار والرؤى واقعا ملموسا على حياته الشخصية حين دخل ابناؤه الى المدارس الرسمية منذ بداية تأسيسها في وقت كان لتلك الفتاوى سطوة كبيرة على المجتمع العراقي.

عززت الازمة الاقتصادية التي حاقت بالنظام الرأسمالي العالمي (1929ـ 1933) من افكار الشيخ الماشطة الوطنية بما خلفته من انعكاسات على الاقتصاد العراقي ووضحت معطيات هذه الازمة ما كان خافيا من ارتباط وثيق بين الاستقلال السياسي والاستقلال الاقتصادي وكان لمجرباتها تأثيرات اسهمت في تعميق مواقف الشيخ الماشطة الوطنية وآرائه ومبادئه المناهضة لسياسة الحكومات المتعاقبة المرتبطة مع الاستعمار البريطاني. ولم يكن بعيدا عن مشاورات واجواء تأسيس حزب الشعب في بغداد وقد حفلت الاجواء في منتصف الاربعينيات بنوع من الانفتاح على القوى والاحزاب السياسية وتحقق اثر ذلك هامش من الحريات كانت متنفسا للعمل السياسي وقد اجيزت خمسة احزاب ارتبط الشيخ الماشطة بعلاقات ودية مع قادة وعناصر هذه الاحزاب في الحلة مسهما بدور مميز خلال انتعاش الحياة السياسية في تلك الفترة من خلال الانشطة والفعاليات وتقريب وجهات النظر وتطويق الاختلافات فيما بين الاحزاب والقوى والشخصيات الوطنية على مختلف توجهاتها وتلك العلاقة كانت ممتدة ايضا مع الاحزاب السرية غير المجازة كحزب التحرر الوطني والحزب الشيوعي. توجت العناصر الوطنية والتقدمية بالحلة نشاطاتها في تلك الفترة بنجاح اول اضراب عمالي منظم للمطالبة بتحديد ساعات العمل والتعطيل يوم الجمعة وفيما بعد بدأت الاوضاع السياسية بالتدهور وقد مثلت تلك الفترة القصيرة فسحة للقوى والاحزاب والشخصيات السياسية الوطنية وحراكا شعبيا بلور الموقف الوطني لابناء الشعب العراقي فيما بعد بوثبة كانون 1948 وتصديهم لتوجهات السلطة الرامية الى توقيع معاهدة برتسموث وكان لمجلس الشيخ الماشطة في احداث الوثبة وافكاره الداعمة موقف مشهود ودور فاعل في مساندة انشطة الوطنيين والتقدميين، اعقب احداث الوثبة اعتقالات واسعة في مدينة الحلة بين صفوف الشباب من الوطنيين والتقدميين واعتقل في مطلع الخمسينيات الاستاذ محمد علي وهو احد ابناء الشيخ الماشطة وابن شقيقه الاستاذ عبدالله بن الحاج عبد الوهاب وكانا من ضمن الذين احيلوا الى المحاكم العرفية ومكثا ثلاث سنوات في سجن نقرة السلمان. واستجابة لضرورات العمل الوطني وبناء قاعدة حركة انصار السلم سعى الشيخ الماشطة الى اصدار جريدة صوت الفرات بالحلة مطلع سنة 1953 كما خاض الانتخابات النيابية سنة 1954 متحالفا مع تكوينات الجبهة الوطنية التي تم توقيع ميثاقها في 12ايار 1954 وكانت مطالبها تتضمن اطلاق الحريات والغاء معاهدة 1930 وكل امتيازات الشركات الاجنبية ورفض المساعدات الامريكية العسكرية. لم يفز الشيخ الماشطة في الانتخابات الا ان الاجهزة الامنية شددت الرقابة عليه وبقيت مهتمة بتتبع نشاطاته وقد اوكلت مهمة ملازمته الى احد رجال الامن حيث كان يجلس على عتبة خان امام بيته لا يبرحها راصدا حركة الشيخ والداخلين اليه وللشيخ مع هذا الرجل طرائف ونوادر كثيرة تعكس تعامله الانساني وسعة قلبه الرحيم ولعلها جعلت من رقيبه في النهاية مأسورا اليه لا يتوانى عن تقديم الاحترام والطاعة وحتى المساعدة باداء بعض المتطلبات.

في غمار الكفاح الوطني

تأججت الروح الوطنية عند الحليين لمناصرة الشعب المصري وتجلى ذلك بتأييد قرار تأميم قناة السويس والتنديد بالعدوان الثلاثي على مصر 1956 حيث خرجت للتظاهر بعض المجاميع من الطلبة والوطنيين بمدينة الحلة على الرغم من اجراءات الاجهزة الامنية التي اتبعتها للحليولة دون خروجها وما صاحبها من اساليب القمع والتنكيل والاعتقالات ولم يكن الشيخ عبد الكريم الماشطة بعيدا عن تلك الاجواء ولا عن نوايا الحكومة ومحاولاتها الرامية الى عقد حلف بغداد لكي يحل محل المعاهدة مع بريطانيا التي عقدت سنة 1930 وقاربت على الانتهاء بعدما ان افشل الشعب العراقي اعادة الحياة لها في انتفاضته بوثبة كانون 1948 بل كان في غمرة احداثها التي بلورت ضرورات قيام جبهة الاتحاد الوطني مطلع شباط 1957 التي اسهمت بتكوين الارضية الاجتماعية والسياسية الممهدة لقيام ثورة 14 تموز 1958 حيث ساند تشكيل فرعها بمدينة الحلة منتدبا الى عضوية لجنتها الرئيسة اخلص المقربين اليه الشخصية الحلية الوطنية المعروفة وعضو المؤتمر التأسيسي لحركة انصار السلم الحاج عبد اللطيف الحاج محمد مطلب ممثلا عن المستقلين ، وجرى توزيع بيان جبهة الاتحاد الوطني الاول الذي صدر في 9 اذار 1957 واعقب ذلك وصول ممثل اللجنة العليا الدكتور صفاء الحافظ ليشرف على تكوين فرع الجبهة في لواء الحلة. وبعد قيام ثورة 14 تموز 1958 وقف الشيخ الماشطة بثقل مكانته الاجتماعية وثرائه الفكري وانشطته السياسية مدافعا عن ثورة الفقراء التي انجزت اكثر مما اعلنت وفعلت اكثر مما قالت في ظل اجواء مليئة بالتناقضات والتعقيدات مسهما بنشاطات حركة انصار السلم اذ كان من ضمن تشكيلة المجلس الوطني لأنصار السلم في العراق ونشر مقالاته في بعض الصحف البغدادية مثل صوت الاحرار واتحاد الشعب هادفا الى صيانة الجمهورية الفتية ومعبرا عن افكاره ورؤاه وما يحلم به من امال وتطلعات ومخاوف مشروعة ستلاحق هذا الحلم الحقيقة، ناظرا في الافق بوادر المخاطر التي تحف بالثورة من كل الاركان وما ينسج في الخفاء لخنقها. فسعى مع بعض علماء الدين الى تشكيل جملعة علماء الدين الاحرار وكانت استجابة وطنية لضرورات المرحلة تناخى لها عدد من علماء ورجال الدين للوقوف بالضد من المخططات الخارجية التي استطاعت استغلال الاختلافات الداخلية لصالحها موظفة قوى الداخل لمصلحتها فوقفوا بجانب الشعب وقواه الوطنية والتقدمية من اجل الحفاظ على مكتسبات ثورة الفقراء والكادحين وتحملوا لاجل ذلك الكثير من الهجمات سواء على صفحات الجرائد او في المحافل العامة.

تناول الكاتب أحمد ناجي في الفصل الرابع المقالات التي تضمنتها مجلة (العدل) التي صدرمنها عدد واحد فقط في شهر اذار 1938 طبعت في المطبعة العصرية بالحلة وقد قامت السلطة بمصادرتها قبل توزيعها ومن ثم الغت امتياز المجلة وقد جاء في تصنيفها مجلة قانونية صاحبها ومديرها المسؤول عبد الكريم رضا. تضمن عدده الاول والاخير مقدمة مع سبع مقالات جميعها محررة بقلمه، جاءت بالعناوين التالية حسب تسلسلها : العدل، الحرية، الغزالي وزكي مبارك، الدعوة الاسلامية، فوائد العقوبات الشرعية على الجرائم، ترجمة ياسين الهاشمي، حول كتابة الاستاذ ساطع الحصري بين الوطنية والاممية. وعند قراءة المجلة يمكن للقارئ ان يتصور انسانية الشيخ الماشطة الجامحة ومعرفة مدى تفاعل اطروحاته مع ميدان الفكر في العراق وخارجه وهي انعكاس لرسالته التنويرية التي تتضح في استقراء الواقع وتحليله وفق نظرة وطنية متحررة من القيود ومنفتحة على معطيات الحضارة، متضمنة انتقادات جريئة غايتها تنوير المواطنين مقرونة بمعالجات دقيقة لمجمل الاوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

في الفصل الخامس يلقي الكاتب الضوء على دراسة الشيخ عبد الكريم الماشطة، الاغتراب عند الصوفية بصفته دافعا ومحركا مهما للمعرفة البشرية وتناوله المنهج الاشراقي دراسة وتمحيصا في خمس مقالات بعنوان مبادئ الصوفية وحكمة الاشراق، نشرها متسلسلة في اعداد مجلة ( الحكمة ) التي اصدرها الشيخ رؤوف جبوري بالحلة اواخر سنة 1936.قدم الشيخ الماشطة دراسة مستفيضة في سلسلة مقالاته عن الصوفية متطرقا الى عناصرها وافكارها ومفاهيمها وموروثها وتأثيرها على المفكرين المسلمين فكشف بذلك عن ثراء معرفي وعمق فكري مكتنز لا ريب من سنين مضنية قضاها في البحث والتقصي عن ينابيع معرفية نقلت الفكر الى حالة من الانفتاح العقلي والانطلاق بعيدا عن متاهات الجدل الدائر لسنين طوال بين الجبر والاختيار والاشعرية والمعتزلة. وقد عبرت مقالاته عن مدى اهتمامه والمامه بعذه الظاهرة وسعة اطلاعه على منجزات الصوفيين الفكرية، فنقل في مقالاته ما مثلته الصوفية من خطوات في خرق المألوف ورفع الأغشية عن بعض الاجابات غير الواضحة عن تساؤلات العقل منذ بداية القرن الثالث الهجري لحظة ولادتها حيث ابتغت تذليل الانماط التقليدية للمعرفة، بالاخلاص خلاصا من اهوال قلق المطلق، وما تفرضه معاناة الارادة وتطهير الظاهر والباطن بتوحيدهما في السر متجلية عن ذروة الانتماء الصوفي الى الحق بالاستماع والرؤيا المجردة الى الحقيقة وبترسيخ اليقين في اعماق العقل والضمير، سبيلا لبناء الذات وتهذيب النفس انطلاقا في الاصلاح الى فضاءات الكل العقلية والاخلاقية والروحية. ونلحظ ان الشيخ الماشطة تناول الصوفية من الحقل الفلسفي فهو لم يكن منطويا انعزاليا يعيش عوالم الزهد والتأمل بل اقتحم الحياة بكل تفاصيلها عنصرا فاعلا له متبنياته الفكرية وصاغ بالاستناد الى تلك المتبنيات مواقفا وآراء ووجهات نظر تحليلية ونقدية، لا يمكن تجاهل اثر الانتفاع من اشياء كثيرة من الصوفية في مسيرته الفكرية فهي بالتأكيد منحته القدرة على تماس مقتضيات الحاضر بصيغة فاعلة باتجاه التطوير والتجديد بما يتوافق مع تحديات الزمن.

الماشطة ونداء السلام

في الفصل السادس يوضح الكاتب استجابة الشيخ الماشطة لنداء ستوكهولم للدفاع عن السلام الصادر من مؤتمر السلام العالمي في 19اذار 1950 حول تحريم استخدام القنبلة الذرية والذي نشرته جريدة (صدى الاهالي) في اواخر حزيران 1950 ويعتبر التوقيع عليه من قبل عدد من الشخصيات الوطنية العراقية بداية تأسيس حركة انصار السلم بالعراق، وجاءت استجابة الشيخ الماشطة سريعة لذلك النداء ويعتبر رجل الدين الاول في العراق الذي لبى نداء السلم ووقع على بنوده الخمسة الصادرة عن اجتماع استوكهولم، لأنه وجد فيه انعكاسا لأفكاره وتطابقا مع مفاهيمه وانسانيته في نبذ الحروب وخفض التسلح وتحويل ثروات الشعوب نحو البناء ومعالجة الفقر والجهل والأمية وتوفير الخدمات الاجتماعية للمواطن العراقي بصورة خاصة وللانسانية بصورة عامة ولم تكن انشطته في دعم حركة انصار السلم مقصورة بحدود تلك الاستجابة، بل سعى مع الكثير من الوطنيين العراقيين لكسب الاصوات المناصرة الى (نداء ستوكهولم). اتسعت حركة انصار السلم ومؤيديها وضمت شخصيات وطنية بعد ان كانت مقتصرة على الشيوعيين واصدقائهم فقط وتشكلت في المحافظات لجان اخذت على عاتقها مهمة المبادرة الى بث مفاهيم السلام وربطها بالكفاح اليومي من اجل التحرر الوطني والقومي ومن اجل الديمقراطية، وسعى الشيخ الماشطة جاهدا لتأسيس قاعدة شعبية لحركة انصار السلم بالحلة لتكون رافدا كفاحيا في تعبئة نضال الجماهير من اجل القضايا الوطنية وتواصل مع نخبة من خيرة الوطنيين المخلصين لقضية شعبهم ووطنهم ولقضية السلام في العالم اجمع لغرض الاستعداد لعقد المؤتمر التأسيسي وانعقد في 14 تموز 1954 وضم نحو (103) من الشخصيات الوطنية المعروفة من مختلف الاتجاهات السياسية ومن سائر المحافظات وافتتح المؤتمر واختتمه الشيخ عبد الكريم الماشطة بكلمات حث فيها الحاضرين على القيام بمهماتهم من اجل تحقيق اهداف المؤتمر بالدعوة الى افكار السلام والكفاح من اجل الاستقلال الوطني والغاء المعاهدة وطرد القوات البريطانية والانسحاب من الكتلة الاسترلينية واحباط ضم العراق الى الاحلاف العسكرية وخلق جبهة عربية ضد الصهيونية والنضال من اجل التحرر الوطني والقومي وعلى الصعيد العالمي من اجل نبذ الحروب وتحريم استخدام القنبلة الذرية والوقوف بوجه الاحلاف والتكتلات العسكرية التي تهدد السلم العالمي وأمن الشعوب وتبقى سطوة الهيمنة الامبريالية.

في الفصل السابع يلقى الضوء على نضوج مشروع الماشطة مع مرور الايام والسنين والاحداث متبلورا الى رسالة تنويرية واضحة المعالم جسدت انتماء الشيخ الماشطة للانسانية بابعاد اوسع من نطاق الايديولوجية واكبر من ان تحدها رقعة جغرافية او تكون رهينة لآصول عرقية وكل ما حمله الشيخ بين جوانحه ونادى به جهارا هي قيم اسلامية متوافقة بدرجات متفاوتة مع قيم ايديولوجيات اخرى كانت وما زالت هذه الافكار مثار تطلع كل من الديمقراطيين او الاصلاحيين او اليساريين او الشيوعيين او القوميين ولانه صادق مع ذاته ومؤمن بنبل غايات رسالته ووفي لها نجده قد توحد بالاشتراك مع نضالات الوطنيين العراقيين واقترب فكريا لا انتماءا، مع الحزب الشيوعي وبعض القوى اليسارية التي وجدها صادقة وواضحة وعقلانية، تشاركت معه في التطلعات والآمال والطموحات وتبنت تحقيق حلمه بعراق مستقل اكثر حرية وعدلا. لم يكن اندفاعه وحماسه لقضية السلام بقصد المغانم او تعبيرا عن نزوة عابرة او ترضية لعلاقات شخصية وتحمل اثر ثبات مبدئيته ما تحملته الحركة من هجمات واجراءات تعسفية فلم يتوان او يكل، وكان من الطبيعي ان ينبز بالشيوعية مثلما كان من الطبيعي ان يصف الحكام الرجعيون حركة انصار السلم يومها بالحركة الشيوعية لأنهم كانوا يعملون بضرواة لربط البلاد بالاحلاف العسكرية الامبريالية ويهمهم بالطبع ان يقتتوا القوى المعارضة لنشاطهم هذا وليخيفوا قوى البرجوازية الوطنية ببعبع الشيوعية ويحولوا دون مساندتها لهذه الحركة فمن المنطقي ان يصفوها في هكذا اجواء بالشيوعية التي كانت تحرمها القوانين ويحاربها النظام بقوة ’ هذا لا ينفي كون الحزب الشيوعي العراقي المحرك الحقيقي لانشاء هذه الحركة في الساحة العراقية وعمل في صفوفها انشط مثقفيه المرتبطين بهذا الشكل او ذاك ولهذا وصفت انها حركة شيوعية او تابعة له وهذا الاتهام لم ينسجم مع الحقائق ولم يستند على شئ سوى ان الشيوعيين كانوا نشيطين في صفوفها. وكانت توجيه تهمة الشيوعية او موالاتها سوطا جاهزا بيد الحكومات الرجعية واعوانها والقوى التي تتحالف معها يرفع بين الحين والاخر بوجه عناصر الحركة الوطنية تنفيذا لسياسات تسلطية قسرية وقد جلد الشيخ الماشطة بهذا السوط الجائر على يد السلطة المتنفذة وحلفائها طوال حياته وحتى بعد وفاته في محاولات معروفة النيات، والحقيقة ان الشيخ الماشطة عاضد طيلة حياته نضالات كل الوطنيين الاحرار وفي مقدمتهم الشيوعيين ولكنه لم ينتسب للحزب الشيوعي اطلاقا.

الماشطة والعلمانية

في الفصل الثامن ينقل الكاتب وجهة نظره عن العلمانية في فكر الشيخ الماشطة الذي وقف على تخوم عقلانية تيارات فكرية ثلاث : التيار الليبرالي والتيار العلمي والتيار التوفيقي،هذه التيارات الثلاثة ساهمت في رسم ملامح العقلانية في الفكر العربي وهذا ظاهر من خلال تفحص ما كتب عن الشيخ الماشطة والتمعن في كتاباته ومروياته الشفاهية بوصفه رجل دين ومفكر ومناضل تقدمي سعى الى فتح البصائر وهدم الحجواجز التي تمنع تدفق النور الى اعماقنا، وللشيخ الماشطة بصمات فكرية واضحة المعالم في منحى ربط العقلانية بالتنوير فقد كان صوته المتهدج والخفيض بمثابة صرخة مدوية وسط الاجواء الساكنة ويأتي حديثه همسا ولكنه يهز الراكد في النفوس منبها بما ينبغي للعقل ان يدركه.

لقد شدد الشيخ الماشطة في كتاباته على الحريات المدنية ومبادئ الديمقراطية وحقوق المواطنة والعدل والمساواة ونادى باعلاء شأن العقل وهذه الموضوعة تقوم في المقام الاول على اسبقية العقل وتقديمه على النص فهي بداهة تنتهي الى العلمانية وخاض شيخنا غمار مهمة التعليم النبيلة ولكنه ليس على الطريقة التقليدية السائدة، بل اهتم بتدريس الفلسفة بوصفها ام العلوم الاجتماعية ذلك لأنها محرضة على انفتاح العقل والتفكير النقدي ومحفزة على الابداع والابتكار. وكان نقد الاستبداد موضوعة رئيسة في كتابات الشيخ الماشطة هذا بالاضافة الى النظر في شؤون السياسة احداثا وشخصيات كما تناول احوال الناس وشجونهم فوقف ضد الاستغلال والظلم الاجتماعي وقام بنقد الاداء الوظيفي وادارات مؤسسات الدولة لا سيما المؤسسات التربوية والتعليمية والصحية. وايضا تبدت النزعة التقدمية في فكر الشيخ من خلال استيعاب حيثيات حالة التخلف التي كانت تسود مجتمعه وقد ادرك مبكرا ان تقدم المجتمع لا يمكن ان يتم بمعزل عن مجريات التقدم العالمي وعليه واجه اشكالية القديم والجديد او التراث والمعاصرة.

الفصل التاسع والاخير من الكتاب يتحدث الكاتب عن رحيل عبد الكريم الماشطة بسبب مرض عجز القلب وكان وفاته في 3 ايلول 1959 ، عاش الشيخ الماشطة حياته مغامرا في رحلة مضنية سار فيها على جمر التحديات لا احد يذكر دوره في تعزيز دائرة العقلانية والتنوير في محيطه الاجتماعي وقد كان مدركا لأهوال المعاناة ومستعدا للتضحية في سبيل موقفه التقدمي ولكنه في الاخير مضى وبقي اسمه مثلما بقي عداء الرجعيين له مستعرا وربما حتى الآن.

  • ضم الكتاب اربعة ملاحق (مذكرة انصار السلم في العراق الى الوصي في 13 تشرين الثاني 1952 و قصيدة في تحية انصار السلم القاها الشاعر محمد مهدي الجواهري في المؤتمر الثاني لحركة السلم في العراق المنعقد بتاريخ 14 نيسان 1959 وملحق باسماء اعضاء المجلس الوطني لانصار السلم في العراق 1959 ومقال جريدة التوحيد حول مهرجان السلام في الحلة المنعقد بتاريخ 29 ايلول 1959).
  • صدر الكتاب في 231 صفحة من القطع المتوسط من مطابع دار الشؤون الثقافية العامة احدى دوائر وزارة الثقافة.
عرض مقالات: