في كتابه “المساءلة” (2011) يرفع الإهداء إلى الرفيق الشاب خالد النزهة (قضى عام 1982 في السجن)، ويقدمه عبر قسمين اعتمد في الأول على النظرة التأملية في مسألة الحرية، وظاهرة الإرهاب، وتذكر أمه مريم، وتعقب المخابرات الأمريكية لقوى الحركة الوطنية.
والقسم الثاني وضعه على ثلاث عشرة محطة استعاد فيها ذكريات الملاحقة والسجن بداية من هروبه عام 1956، واعتقالات رفاقه وتعذيبهم في سجن العبيد عام 1956، ومساءلات الأمن السوري في السبعينات، واعتقاله لمرتين عام 1982 و1999 بتهمة الشيوعية، واستعاد فصولاً من بعض كتبه السابقة “بصمات وجدانية” (2001) سيرة خالد النزهة أحد أعضاء الحزب الشيوعي عام 1975، و”ذاكرة الوطن”(2005) عن عبد العزيز المعمر رئيس لجنة العمل والعمال 1953ومستشار الملك سعود عام 1959.

ولد إسحاق في مدينة الجبيل (شرق السعودية) لعائلة فارسية تنتمي إلى قبيلة فرامرز مهاجرة إلى شرق الجزيرة العربية. تعلم أولياً على يد أخته عائشة، والتحق بمدرسة الجبيل الابتدائية (1948) التي أسسها وأدارها والده الشيخ يعقوب بن أحمد.
أتيحت له فرصة العمل في إحدى الشركات الفرعية التي نشأت بأثر من شركة النفط العربية الأمريكية أرامكو (تأسست عام 1933) الموكل إليها التنقيب عن النفط وتصديره، وانضم إليها عمال عرب من مناطق مختلفة من الجزيرة العربية ومن العراق وفلسطين والسودان وحتى من إيطاليا.
تشكلت طلائع الحركة العمالية أواسط الأربعينات غير أن شرارة انطلاقها بالإضرابات المتوالية لتحسين أوضاع العمال (ساعات العمل والأجور والخدمات الاجتماعية والصحية) كانت منذ عام 1945 بالإضافة إلى مشاركتهم مع الطلاب في مظاهرات ضد تقسيم فلسطين عام 1947، وقد شارك فيها يعقوب عندما كان طالباً في مدرسة الجبيل ثم الإضراب الثاني عام 1948 حين تضامن العمال العراقيون والسعوديون وانتهوا إلى المعتقل وظلامه ولم يخرجوا منه.
التحق إسحاق بالعمل في شركة أرامكو في رأس تنورة، وانتقل إلى شركة التابلاين في منطقة رأس المشعاب (قرب الكويت). كان يقضي فترات الإجازة في البصرة مع صديقيه العراقيين نوري الهواز، وجعفر الجزائري. وقد تفتح وعيه الفكري تلك الفترة فقد تمكن من الاطلاع على الأدبيات الشيوعية ممثلة في كتبها كرأس المال لماركس والبيان الشيوعي لماركس وانجلز والأدب الروسي عند غوركي ومايكوفسكي، وكان يهرِّب إلى رأس المشعاب نشرة القاعدة الصادرة من الحزب الشيوعي العراقي.
انتقل بعد أن شب حريق في منطقة رأس المشعاب إلى الخبر يعمل في شركة كري مكنزي ذات السنة التي شهدت الإضراب المفصلي لمدة 20 يوماً عام 1953 إذ تشكلت إثره لجنة العمل والعمال التي ترأسها الوطني عبد العزيز المعمر بتوجيه من الملك سعود، وتمخَّض عن هذا الإضراب تنظيم سري باسم “جبهة الإصلاح الوطني”(1954) أجمع أفراده، وإسحاق الشيخ يعقوب أحد مؤسسيه، على محاربة الاستعمار وتمثلاته في القاعدة العسكرية الأمريكية وصاغ بيانه رفيقهم محمد الهوشان.
ودبرت وشاية من مسؤولي أرامكو الأمريكان ضد المعمر لرفضهم مطالب العمال برمتها. وقد أنشأ أخوا إسحاق، أحمد ويوسف، صحيفة “الفجر الجديد” لتكون ناطقة بالحقوق العمالية والتطلعات الإصلاحية إذ اشترك في تحريرها مناضلو الجبهة نفسها، ومنهم عبد العزيز أبو سنيد ومحمد الهوشان وعبد الرحمن المنصور وعبد الله الجشي، غير أنها أوقفت قسراً بعد عددها الرابع.
وقد ظلت الأفكار والمبادئ الشيوعية تنتقل إلى يعقوب ورفاقه عبر إذاعة موسكو العربية، وصحيفة الصرخة (الناطقة باسم الحزب الشيوعي السوري اللبناني)، وتبنت قضية العمال صحيفتا الخميلة وصوت البحرين.
أفرزت “جبهة الإصلاح الوطني” حالة انشقاق أو تمدد نتج عنه تكوين قومي بعثي وناصري بالإضافة إلى شيوعي جذبت يعقوب إليه أفكاره حيث كانت تنطرح بين العمال أفكار تتخذ الشيوعية مساراً.
احتدمت نشرات وبيانات الحركة العمالية ضد القمع واعتقال وتعذيب العمال، وقد اعتقل عبد الله -الأخ الأصغر لإسحاق- رهينة وقبله اعتقل كل من أحمد ويوسف. وفي زيارة الرئيس المصري جمال عبد الناصر الشهيرة عام 1956 إلى الظهران اخترق إسحاق الحشود التي تهتف باسم عبد الناصر ليسلمه خطاباً يحمل آلاف التواقيع مطالبة بالتدخل لإطلاق سراح المعتقلين في سجن العبيد بالإحساء من رفاقه العمَّال.
هرب إسحاق إلى البحرين بعد انضمامه إلى “جبهة التحرر الوطني” (تأسست عام 1958) مثلما هرب رفاقه إلى خارج البلاد. فإلى العراق ذهب علي غنام ليصبح بعثياً اشتراكياً، ومثله عبد العزيز بو سنيد ليكمل النضال شيوعياً، وناصر السعيد تنقل بين سوريا ومصر واليمن قبل أن يستقل ويصبح قومياً يسارياً- ناصرياً.
تولى إسحاق صياغة البيانات وإرسال المقالات إلى الصحف في سوريا ولبنان، ونقل قضية العمال عربياً ودولياً بعد أن مات رفيقه محمد الربيّع بالسل 1956 إذ أهملت جثته لثلاثة أيام أمام السجناء.
وحين كشف وجوده في البحرين هرب عن طريق أحد أقاربه في إيران إلى سوريا حيث التقى برفيقه ناصر السعيد. وراحا معاً ينقلان قضية الحركة الوطنية في السعودية إلى زعماء وقادة مثيلتها في سوريا ولبنان عند القومي جورج حبش، والبعثيين ميشيل عفلق وأكرم الحوراني وصلاح البيطار، والشيوعيين فرج الله الحلو وخالد بكداش.
ذهب إلى العراق لكن لم تجدد إقامته هناك فعاد إلى الإقامة بين سوريا وبيروت. نشر أول كتبه “مطارحات فكرية” عام 1960، وتعرض لمساءلة الأمن السوري بسبب انتقاده للقومية العربية، غير أنه نشر كتابه الثاني “ قضايا سعودية” في ذات العام، وتحصَّل على منحة للسفر إلى جمهورية ألمانيا الديموقراطية للدراسة بين عامي 1961-1965 فحصل على دبلوم في العلوم النقابية وآخر في الصحافة وثالث في العلوم السياسية.
عاد عام 1965 ليستقر في سوريا ويزور لبنان كلما اختنقت الظروف السياسية في سوريا. تعرف على زوجته المناضلة البحرينية نعيمة المرهون وتزوجا -بعد موافقة أهلها- بمباركة الزعيم الشيوعي خالد بكداش.
ويعرف أن نشاط الحركة الوطنية في صورتها القومية والشيوعية اندمج في ما أطلق عليه بـ “الحزب الديموقراطي الشعبي” عام 1969 الذي تبنى الكفاح المسلح انطلاقاً من تضامن مع الثورة الفلسطينية والعمانية، وقد نتج إثر ذلك محاولة انقلاب عسكري واجهته السلطة باعتقالات وإعدامات وأحكام سجن حتى عام 1973.
وعندما تسلَّم الحكم الملك خالد إثر اغتيال الملك فيصل عام 1975 صدر عفو شامل عن المعتقلين السياسيين في السجون، وعلى المنفيين. كما يلفت إلى أنها ذات السنة التي تأسس فيها “الحزب الشيوعي السعودي” عبر جيله الثاني من المناضلين بعد الجبهتين 1954-1958.
عاد إسحاق وعائلته إلى السعودية وعمل كاتباً بالشأن العام ونشر في أكثر من صحيفة سعودية في اليوم وعكاظ والرياض ومجلة اليمامة بالإضافة إلى الطليعة الكويتية.


وبرغم نشاط الحزب الشيوعي آنذاك إلا أن إسحاق كان بعيداً عنه عملياً غير أن ماضيه العمالي، ونشاطه السياسي بعد هروبه وتنقله بأسماء مستعارة ما بين 1956 -1976 يشكل تهمة تلاحقه السلطة السياسية عليها.
ولم يغب عن الحركة الوطنية ممثلة في التيار القومي واليساري، بالإضافة إلى الليبرالي، رغم استمرار عملها السري والعلني حتى قبض على مجموعة كبيرة منهم عام 1982 كان من بينهم إسحاق الذي حمل تهمته القديمة الجديدة الشيوعية، ورفيقه الشيوعي الشاب خالد النزهة الذي توفي بالسجن تعذيباً 1982، وقد أهدى إلى روحه كتابه الجديد “المساءلة”.
ونسيت السلطة، في صراعها مع الجماعات الدينية، رفاق إسحاق الذين أعادوا ترتيب بيتهم الشيوعي-أقصد الحزب- الذي تحول إلى “التجمع الوطني الديمقراطي” عام 1991 حيث أشغلها فوران حركات الاحتجاج الإسلامي عبر جناحيها الجهادي العائد من حرب أفغانستان والتنظيري - التحريضي حين انفلتت من عقالها لتهاجم الدولة بشكل طور البيان السياسي إلى بيان منطوق تمثل في المحاضرات النارية المسجلة والمتداولة بالكاسيت تطالب بما ظهر من تحليل متأخرة بـ”ولاية فقيه سنية”، ورافضة الدفاع عن البلاد لتركها تكون نهبة غزو من صدام حسين بعد أن احتل الكويت عام 1990!
وقد تطورت المواجهة بين الدولة والتيار الجهادي حيث أقدم على تفجيرات في مواقع نفطية وعسكرية داخل البلاد بين عامي 1995-1996. تحركت القوى الوطنية لتصوغ تعاقد سياسي جديد وتنطلق حركة اجتماعية متمثلة بحركة مطلبية غير أن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن عند إسحاق حيث اعتقل مجدداً، وهو بعمر السبعين بذات التهمة الشيوعية!
انتقل إسحاق إلى العيش بالبحرين ونشط في تأليف الكتب فقد أصدر له صديقه الكويتي الرفيق أحمد الديين عبر دار قرطاس أكثر من كتاب في مجال الثقافة وهي “في الثقافة والنقد”(2001)، و”العلمانية طريق التقدم” (2004)، و “ما هي الليبرالية؟”(2007). كما أنه حفظ من ذاكرته الاعتراف لرفاق النضال فوضع أكثر من كتاب وفاء لهم في “بصمات وجدانية”(2001).
وقد ابتدع فن “البورتريه النضالي” حيال الكثير من الشخصيات التي عاصرها بأكثر من مجلد تحت عنوان “وجوه في مصابيح الذاكرة”(٤ مجلدات)، نشرت متوالية (2001/2005/2007/2011). وهو بذلك يذكرنا بما قدمه من “بورتريهات ثقافية” الروائي خيري شلبي في سلسلة بدأت بكتاب “عمالقة ظرفاء” (1985) حتى آخرها “عناقيد النور”(2009)، والروائي الذي هجر حزب البعث عبد الرحمن منيف في “لوعة الغياب”(1998)، والشيوعي اللبناني مؤرخ حزبه محمد دكروب “وجوه لا تموت”(1999).
وبدا استغراب إسحاق يوم اعتقل عام 1999 عن فارق المعاملة بين المحسوبين على الحركة الوطنية من قوميين وشيوعيين بثقافة التنكيل وبين المحسوبين على حركات الاحتجاج الإسلامي الجهاديين، ومن في حكمهم بثقافة المناصحة عدا عن تسهيل خروجهم فعل في كتاب “ المساءلة”: “حقاً إننا أمام أنظمة مجنونة تقدم الحرية للمجانين، وتصادرها من عقول الأحرار”.
وإزاء ملاحظاته وتحليلاته حول ظاهرة الجهاديين وضع كتاب “الإرهاب في جزيرة العرب”(2008). كما أنه لم ينس أن يضع كتاباً عن “عبد العزيز المعمر ذاكرة وطن”(2005) الذي شهد بيته تأسيس “جبهة الإصلاح الوطني”(1954).
وداعاً للمناضل والكاتب اسحق الشيخ يعقوب.

عرض مقالات: