ولدت عام 1939 لعائلة ريفية ونشأت في الريف ولم انتقل الى المدن الا بعد ان اكملت دراستي الابتدائية السنة الدراسية عام 1949 – 1950. والمعروف ان الريف آنذاك كان في عزلة تامة عن المدينة وعن الحضارة ولا يعرف ابن الريف شيئا عن منجزات العلم والتقدم الحضاري بحيث وصل الأمر ببعض الاشخاص الذين استمعوا الى نشرة الانباء من راديو يعمل على بطارية السيارة كان عمي الشيخ قد اشتراه توا، أن طلبوا من عمي ان يفتح لهم باب الراديو كي يروا بأعينهم الاشخاص الذين قرأوا نشرة الاخبار تلك. في الجغرافية، وانا طالب في الابتدائية قرأت و أصبح واضحا لدي ان الفيضانات التي كانت تبدأ في شهر آذار من كل عام يتسبب بها ذوبان الثلوج التي تكدست فوق قمم الجبال تحت تأثير الامطار الربيعية وارتفاع حرارة الشمس بعد شتاء قارص. لذا لم استغرب عندما سمعت في سنة معينة كانت الامطار فيها شحيحة وكذلك الثلوج ان مياه الفيضان تلك السنة ستكون متدنية المستوى وعليه لن نتمكن من زراعة محصول الشلب لذلك العام.
نقلت ما سمعت لوالدي فأجابني (تضعون انفسكم مكان الله) (أمر المياه بيده وليس بيدكم) فحاججته وقتها من انني علمت ذلك من مطلعين وهم يعرفون ان بحيرة الحبانية في ذلك الوقت فارغة من المياه فمن أين سيأتون بالإطلاقات التي كانوا يضخونها من الحبانية الى نهر الفرات. وكانت النتيجة كما سمعت وقلت للوالد فقد كانت المياه شحيحة وقبل ان نصل شهر تموز هلك بسبب العطش ما تم زراعته من اشلاب في منطقتنا وبيع كحشائش الى اصحاب المواشي.
من تلك التجربة بالذات تحول الكثير من الملاكين الى الزراعة بالواسطة، حيث قاموا بشراء ونصب المضخات على الانهر الرئيسية، كشط الكوفة وشط الشامية. وكان ما طرحه المهوال الشعبي في هوسته الشعبية التي القاها في مضيف الحاج عبد الواحد آل سكر لدى زيارة الملك والوصي له عام 1953 عندما قال (مامش وشلة ابهلصندوك انسوي الناظم بيهة؟) هي اول محاولة في التفكير بتشييد النواظم القاطعة على نهري الفرات ودجلة من اجل تنظيم الري وموازنة المياه بين الاراضي المنخفضة والاراضي المرتفعة.
وهذا يتناول جانبا واحدا من جوانب الري والزراعة فهو يتحدث عن شحة المياه، فهنالك جانب اخر هو الفيضانات الطاغية.
ملحمة كلكامش تتحدث عن قصة الطوفان المعروفة.
في حياتي اتذكر عدة فيضانات طاغية منها فيضان في نهر الفرات عام 1948 تصاعدت مناسيب المياه في النهر الى مستوى أصبح يهدد مدينة الكوفة بالاكتساح فاضطرت دائرة الري الى فتح ثغرة في ضفة النهر في منطقة البازول المقابلة للمدينة فتدفقت المياه باتجاه البساتين ومناطقنا باتجاه غماس والشنافية.
اما في العام 1954 وحينها كنت طالبا في الثالث المتوسط في متوسطة الجعفرية المسائية في بغداد فقد عشت وما زلت اتذكر فيضان نهر دجلة الطاغي والذي هدد مدينة بغداد بالدمار.
ولإنقاذ بغداد من الغرق تم فتح ثغرتين في ضفتي نهر دجلة احداهما شمال المدينة، شمال السدة والثانية جنوب المدينة في منطقة هور رجب.
ثغرة شمال السدة حولت المنطقة التي تقع شرق السدة وباتجاه بغداد الجديدة الى بحر من المياه بحيث اضطرت القوات المسلحة الى استنفار قواها والامساك بالسدة من شمالها الى جنوبها اذ أن أي ثغرة في السدة سيجعل تلك المياه تتدفق الى المدينة وتحول جانب الرصافة الى انقاض.
كنا وقتها نغادر المدارس ونتوجه الى السدة لمساعدة الجيش، ومن مهازل السياسة الحكومية آنذاك ان الاجهزة الحكومية سربت الى الشارع اشاعة مفادها ان الحزب الشيوعي العراقي يريد ان يعمل ثغرة في السدة من اجل اغراق بغداد وقد ردّ الحزب على تلك الاشاعة بان أصدر بيانا يعلن فيه ان بغداد هي بغدادنا وليست بغدادكم أنتم.
اما الثغرة التي فتحت في الضفة الثانية في منطقة هور رجب فقد حولت المياه التي تدفقت منها المنطقة من هور رجب الى المحاويل الى بحيرة وتحول طريق السفر الى بغداد من الطريق المعروف الى المسيب فجرف الصخر والفلوجة والعودة الى بغداد عبر خان ضاري وابي غريب. ومن نتائج ذلك هلكت اشجار المشمش والخوخ وغيرها في مناطق اليوسفية والمحمودية..... الخ.
فيضان اخر في نهر الفرات كان عام 1971 بحيث اصبحت مدينة الكوفة مهددة بالغرق فاضطر المسؤولون فيها الى فتح ثغرة شمال المدينة في الجهة المقابلة في منطقة الحواتم المقابلة للكفل بحيث غطت المياه كافة الاراضي الزراعية المحصورة بين شطي الكوفة والشامية من منطقة الكفل حتى غماس والشنافية. انا كنت حينها اقود منظمة الحزب في قضائي الشامية وابي صخير وهذا ما سهل علي تنقلاتي في الريف بواسطة الزورق بحيث انتقل من دار الرفيق حاتم لفتة العطية قبالة ناحية الصلاحية حتى دار والد الشاعر شلال عنوز في منطقة التوثي في غماس والتي تقابل ناحية القادسية التابعة لقضاء ابي صخير جنوب مدينة المشخاب دون ان يعترضني أي حاجز ترابي او ارض غير مغمورة بالمياه، وعلى ذكر الشاعر شلال عنوز، اتذكر انه في ديوانه الشعري خص هذا البيت بقصيدة ورد فيها كما اتذكر:
(جان عدنه بيت من طين او كصب)
(اوجانت امي اتكول هذا البيت اغله امن الذهب)
(والحديقة، امنين ما مريت يلكاك الرطب)
على ضوء فيضان دجلة عام 1954 ولحماية بغداد من فيضانات مشابهة في دجلة قررت الحكومة تشييد سد في سامراء يحول المياه من دجلة الى وادي الثرثار وتحول وادي الثرثار تدريجيا الى خزان كبير للمياه وبحيرة كبيرة وعميقة لتربية الاسماك هذا الخزان افادنا كثيرا في سبعينيات القرن الماضي.
سوريا اكملت تشييد سد الطبقة وبدأت بملء بحيرة السد وتركيا اكملت تشييد سد كيبان وبذلك انخفضت مناسيب المياه في الفرات داخل الاراضي العراقي الى مستوى متدن سبب هلاك الكثير من البساتين التي تروى من الفرات وتحول الكثير من الاراضي التي تزرع شلبا الى اراض جرداء اذ انخفض مستوى تدفق المياه في الفرات مما يزيد على الـ 900 متر مكعب الى ما يقل من ثلاثمائة متر مكعب.
الحكومة العراقية اوفدت عام 1973 الرفيق عامر عبد الله وكان حينها وزير دولة الى دمشق لمقابلة الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد في مسعى من اجل زيادة حصتنا المائية التي تطلق من سد الطبقة ولم يفلح ذلك المسعى، انا حينها علمت من الرفيق عامر عبد الله تفاصيل ما دار في ذلك اللقاء ولست بحاجة الى ذكرها هنا. المهم في الموضوع ان الانقاذ جاءنا من الاتحاد السوفياتي فقد شقت آلياتهم وبسرعة قناتين احداهما تربط وادي الثرثار بنهر الفرات جنوب الفلوجة والاخرى و أطلق عليها تسمية ذراع دجلة فهي تسحب المياه من وادي الثرثار وتصبه في دجلة. اتذكر ان المناسيب في نهر الفرات ارتفعت من ما يقرب ثلاثمائة متر مكعب الى ما يزيد على السبعمائة متر مكعب، وبما ان المياه المتدفقة من الثرثار فيها نسبة ملوحة غير قليلة فقد كانت تنخفض الى طعم (المجوجة) لدى تذوقها عندما تختلط بمياه الفرات العذبة.