زرت الناصرية للمرة الاولى مرغما في سبعينيات القرن الماضي بسبب نقل وحدتنا العسكرية من شمالي العراق، بعد فشل الحركة الكردية المسلحة إثر توقيع اتفاقية تفاهم بين ايران الشاه وعراق صدام بمباركة الجزائر ايام الرئيس الهواري بومدين.
كان الطقس ربيعا في تلك الايام من عام ١٩٧٥، الا ان العواصف الترابية التي هبت على الناصرية كانت نذير شؤم بقدوم صيف ساخن!
بحثت، رغم الغبار، عن الوجوه التي عرفتها ايام الدراسة: الاخوين ناصر ومحسن خزعل. احمد موسى. سمير هامش. منير العبيدي. عبد الله رجب. احمد الناصري. ستار دلي. طالب خيون. علي الشطري. حميد البنا. كذلك حميد كاظم وهو فنان مسرحي صاحب مقترحين شهيرين لتجنب العواصف التربية اولها تغطية سماء الناصرية بسقف ثانوي من الالمنيوم (الچينكو)! اما المقترح الثاني فهو مطالبة الحكومة بتفصيل زي موحد لاهالي الناصرية من الچنكو ايضا! كان اصدقائي الناصريون يتقاسمون العمل الفني والادبي والموقف التقدمي اليساري ما ادى لعدد منهم الى ترك العراق اضطرارا بسبب سياسة حكومة صدام القمعية اما البعض الاخر فأما عرفته السجون والمعتقلات او راح ضحية حروب صدام المجنونة!
معظم هؤلاء الشباب كانوا يفتخرون بانهم احفاد عامل الثلج فهد (يوسف سلمان يوسف) الذي "دوخ" انظمة متعاقبة على دفة حكم العراق بالإضافة لمخابرات الدول الاقليمية والدولية، خاصة بعد ان اعلن عن تأسيس الحزب الشيوعي عام ١٩٣٤!
في هذه المدينة وفي تخومها اكتشفت لاول مرة في الكون الكتابة والمدرسة والمعلم، بل تم الكشف عن رُقم طيني يشير الى معلم لمادة الموسيقى قبل اكثر من ثلاثة الاف سنة!
يرد تفسير " اوروك " في الانسكلوبيديا الفرنسية على انها اول مركز حضاري في العالم! ويبدو ان المثقفين الذين يعتقدون اليوم بان الناصرية تشكل مركز الكون على حق! هذه المدينة كتب لها الحياة! فهي قادرة على رفد العراق جيلا بعد جيل، بطاقات زاخرة على كل المستويات. ففي الغناء كان خضير مفطورة وداخل حسن وناصر حكيم وحضيري ابو عزيز وجبار ونيسة وستار جبار والصوت الدافئ حسين نعمة. ويكفي ان نذكر في التلحين الراحل طالب القرغولي وفي الشعر الراحلين عريان سيد خلف وزامل سعيد فتاح وكاظم الركابي وجبار الغزي. وبرزت في الناصرية مجموعة مجددة في كتابة القصة والرواية والمسرح. وهنا نشير الى الكاتب المسرحي المجدد علي عبد النبي الزيدي، الذي تتقاسم نصوصه الممسرحة خشبات المسرح في العراق وبقية الدول العربية، ومن الاجيال الجديدة الكاتب المسرحي والمخرج الفذ مصطفى ستار الركابي، وغير هؤلاء اعداد كبيرة لم تسعفنا الذاكرة بتذكر اسمائهم!
فهل تموت مدينة أنجبت هذا العدد الكبير من المبدعين والذين وقف جلهم مع ابنائهم الثائرين السلميين؟!
رغم العواصف الترابية والهمجية بطمر الحقيقة، وبرغم القتل والاختطاف والاعتقال وحرق الخيام، فان الربيع لا بد وإن يطل على الناصرية، اجلا او عاجلا، في عراق آمن وسيادي ومسالم ومزدهر!