اذن فقد أدى ذلك التراكم الكمي للسخط المتعاظم الى هذا التحول النوعي في المقاومة، لنشهد ما لا مثيل له من أيام ثورية في تاريخ العراق الحديث، أضاءت، من بين صفحات أخرى، أجمل ما في الشخصية العراقية من سجايا ..

ومن شرارة تشرين اندلع لهيب الانتفاضة، فراحت الرايات تخفق، والأصوات تصدح، ونصب الحرية يقود "مقتحمي السماء" الى الأمل الذي يجول في ساحات العراق، شبحاً ترتعد أمامه فرائص اللائذين بآلة القتل والنظام القديم ..

وما عاد رماد الفجائع يقوى على حجب جمرة الكفاح المتقدة في الروح العراقية .. وهذه البلاد، التي يريدون لها أن تبقى في مستنقع الخنوع، راحت تقتحم متاريس الجائرين .. والشباب، الذين يتطاير الشرر من عيونهم، تمضي خطواتهم، وهي تعرف الدروب، على جسور من أشواك! 

كأن شباب الرجاء حرّرونا من أسرنا، وأعادونا الى الينابيع.. ربيبة الشمس تنشد .. قيامة العراق تنهض .. هذا اذن هو تمرين الكفاح الذي لن يكون الأخير!

*      *      *

قبل ما يقرب من قرن ونصف من الزمان اقتحم منتفضو باريس سماءها التي اشتعلت بهتافات حفّاري قبر الرأسمالية، واليوم يعيد التاريخ نفسه في بغداد والناصرية وسائر مدن العراق، حيث تقتحم نساء ثائرات وشباب جسورون سماء البلاد التي شقت عنانها أصوات من هبّوا: نريد وطن!

اليوم بات جلياً أن هذا المد الاقتحامي لن يتراجع ويتحول الى هزيمة، وأن حصون الظلام ستتهاوى في غدٍ .. ولن يتبدد الأمل لأن وحوش الطغيان يخوّضون بالدم .. فالضحايا يقرعون الأجراس وهو يمضون في مسير الحلم .. وفي ساحة التحرير، وفي ساحة الحبوبي، وفي كل سوح الكفاح، تتحول صبابة الهتّافات والهتّافين الى نسائم سلم وحرية وغد جديد .. 

وفي أصوات المنتفضين تأتلف الأناشيد، حتى عندما على النور يختلفون! 

في الساحات يضيء الشباب تاريخ الاحتجاج، ممتداً من جلجامش الذي رأى كل شيء حتى نهايات الأرض .. الى الحبوبي، الذي تغنينا بأرق موشحاته: "يا غزال الكرخ واوجدي عليك ... كاد سرّي فيك أن ينهتكا"، ونحن نستلهم صيحته: "من لا وطن له لا دين له" .. الى الجواهري وهو يصدح:

هذا أوان الجولة الكبرى

تبــــــــارك من يجـــــــــــــــول!

***

عيون الضحايا الخزّر هي وحدها التي تبصر .. أما أولئك، الذين أغرقوا الساحات بالدماء، فلا يبصرون .. عميان لا يرون الا ظلام امتيازاتهم ..

هذا الدم النهّاض، العجول الى غايته، هو الذي يكتب عهد وفائنا: "إن المسيل هو القتيل"!

واذا ما قُدّر لهذه المشاعر الغاضبة أن تهدأ، وللانتفاضة أن تتوقف، فان جمرة التحدي لن تنطفئ .. وستأتي، لا ريب، رياح تعصف بهذا الرماد، لتتقد، من جديد، جمرة المقاومة، وهذه المرة سيكون الاتقاد عاصفاً .. 

هؤلاء الفتية، الذين أضاءت أرواحهم البريئة سوح الاحتجاج، هم الذين يقولون لنا أي سبيل فيه نمضي حتى نلتقي أمثولتهم ..

***

أجل .. قد نكون اليوم قلة، لكننا لن نستوحش طريق الحق لقلة سالكيه، يقول إمام العدالة علي بن أبي طالب .. أما خصومنا فقد يقتلون الأزهار كلها، لكنهم لن يمنعوا حلول الربيع، يقول نيرودا .. 

من يخرج هذه البلاد من كهوف الظلام الى حدائق الحرية ليس القتلة ولا المهرجون، بل أولئك الذين للجسور عابرون .. إنهم وحدهم المخلّصون!

أجل، الشهداء، وحدهم، من بوسعهم أن يقنعوا الغيم حتى يتوقف، ويبلل، بندى الاقتحام، رايات المنتفضين ..

لن نترك الحصان ينهب الدرب دون فارسه، فدماء الضحايا الشباب هي الفارس .. واذا ما بدا أن نشيدنا يضيع في طواحين وحشية القتلة، فاننا لن نتوقف عن الانشاد .. لقد أحرقنا كل السفن، وما من سبيل لعودتنا الى الأمس .. ما من سبيل أمامنا سوى غد العراق الوضاء .. 

***

أنتم ايها الفتيان امضوا غير هيّابين .. اقتحموا السماء حتى يليق بوطنكم الاشراق .. 

وأنتن، يا فتيات الناصرية، وبغداد، والنجف .. يا فتيات العراق، اللواتي اشتهين اكتشاف الحقيقة، والأيام، وضياء ذلك النجم البعيد .. يا من اختطفتن قلوب الثوار العاشقين .. بكن تليق آخر الزهور .. فأنتن مستقبلنا!

نحن الظامئين .. ما من أحد سوى أيادي الضحايا من تستطيع إرواء أرواحنا الثائرة حتى تمضي بها الى قيامة العراق ..

أيتها المنشدات .. أيها المنشدون .. يا من أمنحكم يدي حتى تحل بركة الضحايا في أصابعي .. ألله يشهد أني لم أقل فيكم ما يضارع مجدكم الذي لا نظير له .. هل يستطيع امرؤ أن يقول!

***

كل الأناشيد انتهت الا نشيد الناصرية .. 

بو جناغ أريد وياك للناصرية .. 

تعطش واشربك ماي بجفوف ايديّه!

عرض مقالات: