تدرك الشعوب الحاجة إلى إيجاد طرق للوحدة في التنوع وتسعى جاهدة لتحقيق التعايش والسلام في ديناميكية ثابتة للتغيير الاجتماعي والثقافي والسياسي والروحي.

عانت الإنسانية من حربين عالميتين أسفرت عن قتل وجرح الملايين وتعميق التهميش والفقر. وقد سعى المجتمع الدولي إلى تجاوز هذه المأساة ووضع مدونة لقواعد السلوك. كانت هذه ساعة ميلاد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهي مساهمة قيًمة. لقد أحرز المجتمع الدولي تقدماً في خلق مساحات للتعايش وإعادة بناء حياة الشعوب، ولكن دون تغيير هياكل السيطرة الرأسمالية الاقتصادية والسياسية التي حافظت على سلطتها الدولية، وبالتالي اثارت صراعات وحروب أخرى، المواجهة بين الغرب والشرق، التعصب والتمييز وتركيز السلطة الاقتصادية في أياد قليلة.

ألقيت هذه المحاضرة قبل بضع سنوات في جامعة قرطبة الكاثوليكية في الأرجنتين. لكنني أعتقد، وارتباطا بالواقع الحالي، انها لا تزال تحتفظ براهنتيها. ارتأيت إضافة بعض المشاكل، مثل وباء كورونا، الذي يمثل مأساة غير مسبوقة تؤثر على البشرية جمعاء، ووباء آخر، هو الجوع في جميع انحاء العالم.

 بين توماس ميرتون (راهب ومثقف وباحث امريكي - المترجم) عدم وجود جيش يمثل ضمانة للسلام. الجميع موجهون لاستخدام سلطة العنف المسلح.

 يشهد العالم صراعات وحروب "منخفضة الحدة"، بالإضافة إلى الإبادة الجماعية اليومية التي يسببها الجوع والفقر وتركيز سلطة المهيمنين على العالم. إنهم يفرضون آليات الهيمنة على الشعوب مثل "الديون الخارجية"، ومصادرة ثروات وموارد أفقر وأضعف البلدان.

وتضاف اليوم الانقلابات العسكرية في مختلف البلدان، هناك أيضًا الحرب بوسائل قانونية، تلك التي حدثت في البرازيل ضد لولا، في هندوراس ضد مانويل زيلايا، في بوليفيا الانقلاب. ضد حكومة إيفو موراليس وفي باراغواي تم إطلاق العنان ضد فرناندو لوغو؛ إضافة إلى العدوان المستمر على كوبا وفنزويلا، والذي يفضح سياسات الهيمنة التي تحاول الولايات المتحدة فرضها على أمريكا اللاتينية.

 ان على الإنسانية أن تواجه تحديات تتجاوز في نواح كثيرة تلك المعروفة حتى الآن؛ لقد فتح العلم والتكنولوجيا آفاقًا جديدة وعلينا أن نكون حذرين. أريد فقط أن أسلط الضوء على بعض هذه القضايا المقلقة الناشئة.

لقد قادت التكنولوجيا البشرية إلى تسريع الجداول الزمنية، الأمر الذي أدى بدوره إلى تغيير الإيقاع الطبيعي وأنتج تغييرات عميقة لا رجعة فيها في البشر وفي مجتمعاتنا؛ مثل الإيقاعات غير المتكافئة التي يعيشها ما يسمى بالشعوب المتخلفة التي لن تكون قادرة على اللحاق بأولئك الذين لديهم المعرفة التكنولوجية والعلمية.

يختلف الزمن التقني (قياس الوقت في التصنيع وفق تقنية نظام التموضع العالمي) عن الزمن الكوني (النظام الزمني المستخدم في نماذج الانفجار الكبير لعلم الكون الفيزيائي) وكذلك عن الزمن البشري. أكثر من ذلك: لا تغير التكنولوجيا الزمن الكوني فحسب، بل تغير أيضًا "الزمانية" البشرية، ولهذا السبب تتمتع التكنولوجيا بقوة مذهلة لتغيير الطبيعة ببساطة بالإضافة إلى الطبيعة البشرية - كما يوضح رايمون بانيكار (عالم لاهوت كاثوليكي واستاذ جامعي. وفيلسوف هندي- اسباني- المترجم).

 على أي حال، الحقيقة هي أن الإنسان وحده، وبدون مساعدة التكنولوجيا، لا يتبع الآلة، ولكنها تلتهمه.  ومن ناحية أخرى، يجب أن ندرك أن التكنولوجيا قد جاءت لتبقى وبالتالي من الضروري تطوير القدرة على تحقيق التوازن معا، وليس التبعية لها.

 لدى البشرية المتطلبات التكنولوجية والعلمية للتغلب على الجوع. يكفي قراءة تقارير منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، التي تؤكد أن أكثر من 35 ألف طفل يموتون جوعا يوميا في جميع أنحاء العالم. ان الجوع شر مزمن وقد أدى وباء كورونا إلى تعميق عدم المساواة الاجتماعية، ومن المتوقع أن يصبح 821 مليون انسان ضحية للجوع في جميع أنحاء العالم. ان هذه إبادة جماعية اقتصادية لا يتم الحديث عنها وتصبح جزءا مما يسمى بالنسيان المتعمد في عالم قادر على التغلب على هذه الآفة الرهيبة بالنسبة للبشرية.

 نشر الطبيب البرازيلي خوسيه دي كاسترو، الذي كان رئيسًا لمنظمة الأغذية والزراعة (فاو)، عملاً في الستينيات لا يزال يتمتع براهنية: جغرافيا الجوع. لفت الانتباه فيه إلى الوضع الخطير لعدم المساواة بين الشعوب. إنها الحروب الصامتة التي تؤثر على جزء كبير من البشرية. واوضح خوسيه أن "الجوع هو التعبير البيولوجي عن مرض اجتماعي".

 اريد ان اذكر بالدكتور نورمان بورلوغ ، الحائز على جائزة نوبل للسلام لعام 1970 لما يسمى بالثورة الخضراء ؛ شخصية مرموقة التقيت بها في مناسبات مختلفة. كان يعتقد أن عمله سيتم فهمه وتطبيقه للتغلب على الجوع في العالم؛ كان يدرك تمامًا الحاجة إلى إيجاد طرق وتقنيات جديدة في إنتاج الغذاء. غير ان مساهماته استخدمت لإيجاد الزراعة الأحادية [زراعة وإنتاج وتنمية محصول واحد في مساحة واسعة من الأرض أو لسنوات متتالية لاهداف ربحية بحتة]. والتقنيات باهظة الثمن ذات التأثير البيئي الكبير؛ نتيجة الاستخدام القسري لمبيدات الآفات لتوليد غلات إنتاج أعلى باسم التنمية؛ ولتوسيع مناطق الزراعة الأحادية التي تدمر التنوع البيولوجي. وكذلك تم طرد المنتجين الزراعيين الصغار والمتوسطين وإلحاق الضرر بالحياة وبأمنا الأرض. [لاسم الذي أطلقته الجمعية العامة في الأمم المتحدة للاحتفال بكوكب الأرض، وجعل 22 نيسان اليوم الدولي لامنا الأرض.  وقد جاء مبادرة من بوليفيا في الدورة الـ63 للجمعية العامة للأمم المتحدة. في محاولة لمواجهة التدمير الذي تتعرض له]

 لقد تحدثنا وناقشنا مع نورمان بورلوغ حول الإنتاج والتنمية والسيادة وثقافة الطعام الغنية والمتنوعة للشعوب. أيضًا حول عواقب الإنتاج القسري للزراعة الأحادية على المنتجين الريفيين الصغار والمتوسطين. وحول السياسات التي تمارسها الحكومات والشركات التي تخلط بين التنمية والاستغلال، والتي تضر بالتنوع البيولوجي وثروات المجتمعات والشعوب. كما أنها تعمق عدم المساواة لأولئك الذين لا يملكون الموارد الاقتصادية والتقنية للتغلب على التفاوتات والذين يعانون من العواقب البيئية والاقتصادية. لقد تم طردهم من أراضيهم وأجبروا على استخدام مبيدات الآفات وأصبحوا معتمدين على البذور المحورة جينيا. إضافة الى ذلك يتسبب التعدين الضخم في إلحاق أضرار جسيمة بالموارد الطبيعية مثل المياه والبيئة.

  بالإضافة إلى هذه السياسات لا يمكن تنفيذ سياسات الاستغلال هذه دون موافقة وتواطؤ الحكومات التي تركز على الهيكلية الاقتصادية الحالية وليس على التغيير الهيكلي الذي تحتاجه الشعوب في حياتها وتنميتها الاقتصادية.

 قبل بضع سنوات أتيحت لي الفرصة في جامعة طوكيو للتعرف بفاندانا شيفا، باحثة هندية كانت تعمل هناك في ذلك الوقت والتي استنكرت أسباب وتأثيرات الإنتاج الزراعي وسياسات وعواقب فرض المصالح الاقتصادية الكبرى.

 من المهم التعرف على مؤلفاتها وبعض أعمالها الرئيسية، ومنها: القرصنة البيولوجية. استعمار القرن الحادي والعشرين، الحصاد المسروق - التنوع البيولوجي وسياسة الغذاء، ديمقراطية الأرض – بدائل لعولمة الليبرالية الجديدة، حيث توضح المحنة الخطيرة للمزارعين في الهند بسبب مصادرة الشركات فوق القومية لمعارفهم وخبراتهم من جيل إلى جيل؛ يصادرون معارف الشعوب وبذورها ومبتكراتها؛ وعندما تطالب هذه الشعوب بحقوقها، يتم قمع احتجاجاتها الاجتماعية، ويجبرونها على دفع ثمن البذور المحورة وراثيًا؛ وأضافه الى ذلك تستخدم قوانين مكافحة الإرهاب ضدها، وتنتهك الحكومات حقوقها.

 يشير فريتجوف كابرا (فيزيائي وفيلسوف ومنظر نمساوي – امريكي- المترجم) ، الى ضرورة تغيير اولويات تحليلاتنا: "أدت المفاهيم الجديدة في الفيزياء إلى تغيير عميق في رؤيتنا للعالم. لقد انتقلوا من مفهوم نيوتن الآلي إلى مفهوم كلي وبيئي. يتعلق بالبحث عن القيم والأخلاق في مجتمعاتنا، جامعاتنا، ومدارسنا، وعن تعزيز المشاركة الاجتماعية وحماية أمنا الأرض".

 الشغل الشاغل للشعوب هو الحفاظ على الموارد الطبيعية والمياه والتنوع البيولوجي التي يهددها اليوم دمار وشره أولئك الذين يعطون الأولوية لرأس المال المالي على حساب حياة الشعوب؛ متناسين أن السعر والقيمة   ليسا الشيء نفسه. هناك من يعتقد أنه يجب "أنسنه الرأسمالية". لا أعتقد أن ذلك ممكن لأنها ولد ت بلا قلب. ان الرأسمالية هي نزع الانسنة التي فقدت وجه ووعي الإنسانية.

 للتقدم التقني الكثير من الضوء والظل من ناحية؛ ومن ناحية أخرى، أطال العلم حياة الإنسان، وأزال المسافات بين الشعوب، واطال مدة الحياة بشكل غير متوقع في العالم، علينا أن ندرك أن الآلة لم تعد تتكيف مع البشر، ولكن البشر هم من يتعين عليهم التكيف مع إيقاع الآلة. ما يجب على المرء أن يدركه هو التسارع. لقد جعلتنا حياة الإنسان والتكنولوجيا نتساءل إلى أين نحن ذاهبون ولماذا؟

 أود أن أشرح بإيجاز ما نعنيه بحقوق الإنسان. على الرغم من أن مبادئها الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة تستند إلى أسس وقيم الأديان والمفكرين من مختلف الأزمنة والعهود، فمن الأساسي توضيح المنطلق الذي يجب إجراء مقاربة صحيحة منه، لكي لا نسقط في حدود وارهاق سياسة حقوق الأنسان.

 حقوق الإنسان شاملة وتنتمي بطبيعتها إلى حياة الأفراد والشعوب. إن المجتمعات اليوم هي التي تعاني من عدم وجود ضمانات لتطورها الكامل في الديمقراطية، ولهذا فإن حقوق الإنسان والديمقراطية قيمتان  لا تنفصلان . يتم تشكلهما في التعامل اليومي، في المشاركة الاجتماعية والثقافية والسياسية. ومن هنا يجب أن نفهم حقوق الإنسان في مجملها وأن نستعيد التوازن بين الإنسان وأمنا الأرض   وأن نحافظ على الخليقة وتطورها.

 هناك حاجة ملحة لحماية الحياة على هذا الكوكب قبل فوات الأوان؛ لنوجه أنظارنا وأفكارنا نحو استعادة التوازن بين احتياجات الإنسان وأمنا الأرض - بيتنا المشترك. هناك طرق يمكن للمرء أن يسلكها إذا ما راقب حياة الكواكب، رسائل للبابا فرانسيس ولوداتو سي وفراتيللي توتي (عناوين رسائل البابا لعامي 2015 و2020 على التوالي- المترحم) هي دعوة للعقل والقلب. وكذلك يدعو مفكرون ورجال دين وعلماء آخرون إلى مسارات جديدة للحياة.

من الضروري إيجاد نماذج جديدة لإنشاء "عقد اجتماعي جديد"، وإلا فإن المصالح الاقتصادية الكبرى ستستمر في تدمير البيت المشترك. إن تمرد الشعوب على الوضع الراهن يهدف الى إعادة التوازن بين احتياجاتها واحترام أمنا الأرض قبل فوات الأوان. الديمقراطيات التمثيلية الحالية لا تلبي احتياجات الشعوب، وبناء الديمقراطيات التشاركية ضروري حيث تمكن الشعوب من ممارسة حقوقها واتخاذ القرارات وتحديد المسار الذي يجب اتباعها بدلاً من تسليم كل السلطة إلى حكوماتها.

 هناك بعض الإمكانيات والتوجهات لإيجاد مسارات بديلة: أطلقت أكاديمية العلوم البيئية في البندقية حملة لتشكيل محكمة جنائية دولية للجرائم البيئية التي تتعرض لها البشرية في جميع أنحاء العالم، مثل الدمار والتسمم والحرائق. إزالة الغابات. وقد اقترح تعديل المادة 7 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وإدراج الجرائم ضد منا الأرض أ ( تحذف الهمزة )كجرائم ضد الإنسانية بسبب الضرر الذي تسببه الشركات التي تعمل في ظل الإفلات التام من العقاب والتواطؤ مع العديد من الحكومات، على تدمير القدرات الإنتاجية للمنتجين الصغار والمتوسطين.

 إذا أخذنا في الاعتبار الزمن الذي مضى منذ انعقاد قمة من ريو وحتى ريو +20، يجب أن نشير إلى أن فرص المضي قدمًا في ريو +20 كانت عكس ما تم الإعلان عنه؛ أن تدمير الغابات والتنوع البيولوجي قد تعمق، ووصلت العديد من البلدان إلى مستويات تسمم وتدمير للموارد الطبيعية كالمياه، أدت إلى أضرار بيئية لا يمكن إصلاحها.

 تهدف حملة منظمة الفاو إلى القضاء على الجوع في العالم بحلول عام 2030، لكنني لا أعتقد أن هذا الهدف سيتحقق في ظل الوضع العالمي الحالي المتميز بالاستغلال والتبعية.

 مع استمرار معاناة البشرية من وباء كورونا، من الضروري أن تصل اللقاحات إلى جميع الفئات الاجتماعية وأن تكون سلعة متوفرة ومجانية للبشرية جمعاء.  اللقاحات ستكون عاملا مساعدا، لكنها لن تقضي على الفايروس القاتل؛ المشكلة تكمن في إعادة التوازن مع امنا الأرض. وعلى المرء أن يتعلم كيف يعيش.

 ان الحاجة ملحة لتطوير وعي وقيم نقدية وان نفهم أننا جزء من، ولسنا مالكين لأمنا الأرض. نحتاج إلى تغيير ثقافة الفكر الديكارتي، وان نستوعب التفكير الشامل الذي سيمكننا من استعادة الشعور بترابط الهوية والقيم، أي استعادة توازن الخليقة.

 هناك العديد من التحديات التي تواجهها بلداننا والعالم، وعلينا أن نبحث عن القوة الروحانية بداخلنا ونضع الحب موضع التنفيذ. علينا أن نطلق التفكير النقدي والقيم التي تمكننا من تطوير وبناء "عهد اجتماعي جديد" من أجل الحفاظ على الخلق وعدم الوقوع في الانهزامية، حيث لا مخرج من النظام الحاكم ومن آليات الهيمنة التي يعاني منها ثلثا البشرية اليوم. ان الاستسلام أسوأ الهزائم.

 لينا أن نعزز الأمل، وان عالم آخر ممكن (شعار المنتدى الاجتماعي العالمي- المترجم)، ليست الأدوية التي تخفف الألم، لكن لا شيء يتغير. من الضروري مواجهة التحديات، والمقاومة واستيقاظ الشعوب ضرورية فلتتوقف عن كونك متفرجًا، انظر إلى نفسك كفاعل وباني لتاريخك قبل ان يفوت أوان الحياة على هذا الكوكب.

   *- نشرت المادة لأول مرة في 18 كانون الأول، والنص المترجم ماخوذ عن موقع أمريكا 21 الألماني. ونشرت هذه الترجمة لأول مرة في العدد 142 أيار 2021 من مجلة الشرارة النجفية.  

**- حاصل على جائزة نوبل في مجال حقوق الإنسان، أكاديمي، وكاتب ونحّات، وفنان أرجنتيني. ولد في بوينس إيرس في 26 تشرين الثاني 1931.

عرض مقالات: