(١) في كل دولة بالعالم يوجد في تاريخها ، يوم انساني عظيم،  خاص بشعب تلك الدولة يسمى : ( اليوم الوطني) أو ( العيد الوطني). هذا اليوم يتضمن معنىً من  معاني السمو الاخلاقي او السمو الوطني أو يحمل معنى من معاني الروح الجميلة ، الروح الوطنية الجميلة.. لذلك فأن الشعب، كل الشعب، يحتفل ، مرة كل عام ، بذلك اليوم ، احتفالاً عظيماً، من شروق الشمس حتى غروبها ً.

اختيار (اليوم الوطني) أو (العيد الوطني) هو فعل حقيقي يساهم به الشعب كله بحماسةٍ شديدةٍ لأنه  من صميم الأفعال،  الإنسانية،  البهيجة ، في هذا الوطن او ذاك.

لم  ينبئنا  أحد ، نحن العراقيين ،  بهذا الحظ السعيد منذ انقلاب 8 شباط 1963 حتى و نحن نمرق خطوط  سنوات العقد الثالث من القرن الحادي و العشرين، لكن لا يوجد في بلدنا   مركز شرطة او معسكر تابع لوزارة الدفاع او مدرسة ابتدائية او كلية جامعية يعرف  أي منتسب إليها،  موعد (اليوم الوطني العراقي) .

ما زالت رابطة الانسان العراقي و عمله الانتاجي يجريان تحت لافتة ثانوية،  لا اسم لها و لا رسم .  لم يكتشف  المواطنون العراقيون ، حتى الآن، ارتباطاتها المبهمة .  هذه الارتباطات تحمل جوهر التناقض الاجتماعي داخل اعماق المجتمع العراقي،  غير ان المواطنين ما زالوا نائمين، حالمين،  صارخين،  بدون وعي:  نريدُ يوماً وطنياً مثل سائر البشر.

كانو قد صرخوا، منذ الأول من أكتوبر عام 2019 ، في ساحة التحرير بأعلى أصواتهم : (نريد وطن..).

اول تصور مثالي يقتدي به العراقيون في البحث عن وطنهم و عن موعد  العيد الوطني او اليوم الوطني ، هو تصوّر لا يخشى من وجود ظاهرة (التمرد) على (التاريخ) عند تشخيصه او تحديده. 

انه ظلم حقيقي  خلقه عراقيون بأنفسهم لملايين المواطنين حين تغرطس بعضهم من البعثيين الحاكمين ١٩٦٨ -  ٢٠٠٣ متصورين  انهم عباقرة العصر الراهن لأن ربهم الأعلى  ارادهم ان يكونوا جزءاً من نظام صدام حسين ، المالك لكل شيء و القادر على فعل كل شيء . قام هؤلاء العباقرة بإغواء رئيسهم حين اقترحوا عليه اقتراحاً انتهازياً، نفعياً،  بجعل يوم ميلاده في ٢٨ نيسان، من كل عام، عيداً وطنياً يقول فيه شعب العراق : ( لقد أحببناك أيها الرئيس صدام حسين ) ، في زمان كان فيه الرئيس، نفسه، كثير الكلام في عيده المتميّز بضحالةِ الرضا عن نفسه، يوم اصبح تاريخ  ٢٨ نيسان،  إشارة سنوية لاغتصاب السلطة العراقية من قبل صدام حسين . 

ان التمرد على التاريخ هو في الجوهر ظاهرة زمانية تواجهها كل شعوب العالم . لذلك فان التاريخ العراقي منذ الوجود الاول في ارض ما بين النهرين ، في سومر و بابل و أشور و ما بعدها وصولاً الى العصر الحديث ، اي الى قرن مضى من الزمان العراقي بتأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 .  

في كل  تراث كلاسيكي عند شعبنا، تتوفر  كثيراً من المناسبات الوطنية، العظيمة، الصالحة، لاختيار اليوم الوطني منها . لكن ليس بين تلك المناسبات الكلاسيكية ما تمّ اختياره اختياراً رسمياً مناسباً.

آخر الاختيارات تمّ من قبل مكتب رئيس الوزراء (مصطفى الكاظمي) أو ربما تمّ اختياره، من بين ثرثرة هذا او ذاك من مستشاريه،  الذين لا يعيرون اهتماماً لرأي الجماهير الشعبية،  المقهورة، وطنياً،  منذ زمان طويل . كان مجلس الوزراء وافق في 3 ايلول 2020  على ( اختيار تأريخ استقلال العراق والخلاص من الانتداب البريطاني في الثالث من تشرين الأول عام 1932 تأريخاً مناسباً وملائماً، يُحتفى به سنوياً، يوماً وطنياً للعراق).

تم اختيار هذا (اليوم..) من دون ان يقال للشعب من هو الساحر الحكيم الذي قدّم هديته الى 40 مليون عراقي  بالرغم من عدم وجود صدق و أمانة مناسبتين تتعلقان بحيوية  المنظمة العالمية المدعوة ( عصبة الامم المتحدة ) وهي اقل كفاءة بألف مرة من منظمة الامم المتحدة ، التي تشكلت بعد فشل عصبة الامم المتحدة في كبح الحروب الاستعمارية و منها الحرب العالمية الاولى و الثانية . كذلك لم يفصح تاريخ العصبة انه ملتزم بحق الشعوب المناضلة من اجل الاستقلال الوطني و الحرية و الديمقراطية كي يكون الانتماء اليها عيداً وطنياً عراقياً. 

(٢) التاريخ العراقي يحمل علامتين أساسيتين لجعل احداهما رنيناً مفصحاً في حياة الشعب العراقي . اولاً هي علامة الإضراب الشامل لعمال و موظفي شركة نفط البصرة في 2 كانون الاول عام ١٩٥٣ ، حيث التعبير الثوري الصادق عن آمال الشعب العراقي في تحقيق (الاستقلال الاقتصادي) ،  الذي هو جوهر (الاستقلال السياسي) .  ما زال هذا الجوهر غير متحقق ، حتى  بالتمرد على التاريخ العراقي ، حتى الآن . لكن هذه المناسبة الكلاسيكية في النضال العمالي - الشعبي تبقى نهايتها ، من اجل الاستقلال الوطني الحقيقي. 

تُرى لماذا لا يختار العراقيون تاريخاً ما زال مشتعلاً بلهبٍ ازرقٍ،  بالرغم من ان بعض  هذا اللهب كان  بلونٍ اصفر،  تجرّعت العائلة المالكة  الحاكمة  شرابه السام  من دون أي قصدٍ او قرارٍ بالقتل و الموت من قبل قواد الثورة .

لذلك يمكن استخدام يوم ١٤ تموز ١٩٥٨ مكسباً عمومياً لحظة بزوغ نوره الأول،  تحت مسمى (اليوم الوطني)  المتفق عليه في تمام لحظة الفجر  ( عند  يوم ١٤ تموز) من قبل  اغلب الأحزاب الجماهيرية المنتظمة في جبهة الاتحاد الوطني، المتحالفة مع تنظيم الضباط الأحرار ، بتأمين سلامة العائلة المالكة 

العراق يحتاج الى اعلان ( العيد الوطني) بتوافقٍ عموميٍ  تامٍ يُعلي من شأن الهوية الوطنية ، العراقية ،  من دون حسابات  (السيادة المرحلية) و الوقوع في شرك الابتزاز العشائري و الطائفي ، كما هو حال  السيادة الابتزازية الواقعة على ثورة ١٩٢٠ و المفروضة عليها . مما يجعل يوم ١٤ تموز متحرراً من كل نوع ابتزازي إذ كان يوماً من ايام وحدة الشعب العراقي، بعربهِ و كردهِ و تركمانهِ . كما ان يوماً من أيام السعادة الحقيقية بتغيير النظام الحاكم تغييراً،  جذرياً و تحرير الاقتصاد العراقي من التبعية المالية ،الإسترلينية،  كما تحرير العراق من حلف بغداد الاستعماري  ومن جميع التزاماته العسكرية لصالح الاحتكار الرأسمالي الأميركي – البريطاني . كما بداية  العمل من اجل تحرير الثروة النفطية بالقانون رقم 80 و تأسيس منظمة الدول المصدرة للنفط ( أوبك) وإصدار قانوني الإصلاح الزراعي و قانون العمل و غيره ذلك من انجازات الفعل الثوري – التاريخي ليوم 14 تموز .

لا يوجد يوم اعظم من يوم 14 تموز بالرغم من انه و توابعه اللاحقة ،ضمّت الكثير من النقاط السلبية، خاصة بمصاحبة بعض حالات (العنف السياسي) وهي بلا شك حالات سلبية خطيرة . منها مصاحبة   ذلك اليوم بالعنف الفردي  الحاسم  بمقتل العائلة المالكة بجريمة كئيبة لا دخل لقادة ثوار ذلك اليوم في صنعها  و تنفيذها . 

تبقى ظاهرة العنف أمراً ليس متعلقاً بحقيقة خيوط الرابطة الوطنية و السياسية و الفلسفية لأحداثٍ، كبرى و عظمى، حدثت في يوم الاثنين من يوم ١٤ تموز عام ١٩٥٨ لتجعله (اليوم الوطني) ،  يعود على شمس الرافدين، في كل عام، من دون النسيان التاريخي لذكريات العنف اللاحقة ، التي أدت الى قيام أضعاف مضاعفة من العنف اللاحق خلال نظام الدكتاتور صدام حسين ، ظل خلال ٣٥ سنة يتعارض مع ابسط قواعد الانسانية المرسومة في منهاج ثورة تموز . 

(٣) لولم يكن الشاعر مظفر النواب  مضطرباً من الناحية الصحية ،  في هذه اللحظة،  

لصار مضطرب الخصائل  ،لأنه، مثلي ،  بلا يومٍ وطنيٍ،

لكان قطعةً من لحمٍ بشريٍ بلا فخذين، 

ولا ساقين،

ولا عضدين،

ولا ذراعين . 

الشاعر مظفر النواب ، هو ، الآن، ليثٌ لا ترعد عليه خصائله إلّا من عصبةٍ خصيلةٍ، ليس فيها برقٌ،  لكن ليلها  مثل نهارها،  ليس فيهما غير رعدٍ، كله إباء و فحولة صامتين .. و ليس كما هو حال  نخيل البصرة،  الذي  صار نخلاً مخصلفاً بحروب الخليج الثلاثة .

  صار.. نخلاً ليس له وطن دافئ وليس على راْسه  غير خصلة من شعرِ ليثٍ لفيفٍ مع تلابيب تلٍّ و تلالٍ من مشاعر  مليئةٍ بزفرات ِالضلوع .. زفرات لا تطير بلا ريح .

كما هو حال كل ضمير في الدنيا، بلا مأوى ،بلا عهدٍ و لا عقدٍ، ليس في نوئهما مطر .. 

مطر 

مطر 

مطر. 

اسمع صوت مظفر النواب  يتنفس امام صدور الفقراء ، العراقيين ، وهو يصيح: 

يا ابناءً عارٍ استولدتم أسماءكم منه ،

يا ابناءً نساء الحانات الوسخة  بالمناطق الشعبية  ، 

ما زالت نفوسكم ، أيها الحكام الجامدون  ، بعيدة عن ميقاتِ (يومٍ وطنيٍ ) يجد فيه كلُّ مواطنٍ عراقيٍ مقبضاً ليديهِ في زاويةٍ من زواياه. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بصرة لاهاي في  7 أيلول 2020

عرض مقالات: