نقلت صحيفة الزمان بعددها الصادر يوم الخميس الموافق الثالث من أيلول عام 2020، أن مجلس الوزراء وافق على اعتبار يوم الثالث من تشرين الأول من كل عام يوما وطنيا للعراق وهو عطلة رسمية، وناشد البرلمان لإصدار قانون بذلك، وهو اليوم الذي أدخلت فيه بريطانيا العراق في عضوية عصبة الأمم، وعد أنه يوم الاستقلال.
قبل كل شيء نود ان نذكر القائمين على حكم العراق اليوم أنهم يستغلون تتابع الاجيال ويضعون ستارا بين الاجيال الحالية وتاريخ بلدهم، أو أن البعض يحاول التلاعب بالثوابت الوطنية.
إن الانتداب هو واحد من أوجه الاستعمار القديم والذي تم تقنينه في المادة 22 من عهد عصبة الأمم، ومفادها، أن المستعمرات والأقاليم التي لم تعد بفعل الحرب خاضعة لسيادة الدول التي كانت تحكمها (والمقصود الدولة العثمانية والمانيا بالدرجة الأولى ) والتي تسكنها شعوب ما زالت غير قادرة على حكم نفسها في ظروف العالم الحديث المعقد.
ثم وزعت المادة المذكورة فيما بعد الأقاليم المذكورة إلى أنواع ثلاثة للانتداب، ا، ب، ج، وكان العراق وشرق الأردن وفلسطين تحت الانتداب البريطاني، وسوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي. اما العراق فقد قامت المعاهدة التي أبرمها سنة 1922 مع الحكومة البريطانية والمعدلة سنة 1926 نظام صك الانتداب، حيث أقر مجلس العصبة هذه المعاهدة، وتعديلاتها باعتبارها الأساس الذي نظمت بمقتضاها العلاقات بين العراق وبريطانيا الدولة التي عهد اليها الانتداب. ثم تولت بعد ذلك عصبة الأمم اسباغ الأوصاف القانونية على انواع الانتداب الثلاثة والمشتقة من المادة 119 من معاهدة فرساي المنفذة لاتفاقية سايكس-بيكو التي قسمت ممتلكات الدولة العثمانية بين الدولتين الاستعماريتين..
إن التاريخ لا يسير وعلى وجهه قناع، ولا يمكن لأحد تزويره لأنه سلسلة أحداث توثق وتسجل، وتاريخ بريطانيا في العراق بدأ عند الاحتلال عام 1917 وتوج بمعاهدة 1930، التي مهدت السبيل المقيد ليد العراق والمعنون بالاستقلال الكاذب لدى دخوله عصبة الأمم. يقول المفكر والسياسي حسين جميل في كتابه الحياة النيابية في العراق، ص 40، 41 ، 42 ، أن هذه المعاهدة جعلت انتهاء الانتداب شكليا، وأبقت النفوذ السياسي والعسكري والمالي على العراق مستمرا مما أفقد الاستقلال روحه وجوهره، ولأن المركز الذي أقامته بريطانيا لنفسها في العراق منذ احتلاله والمصالح الكبيرة التي حصلت عليها فيه وفي مقدمتها امتيازات استثمار النفط، والمركز النافذ والسيطرة الذي قررته لها معاهدة 1930 على العراق من النواحي السياسية والاقتصادية والقواعد العسكرية التي تقررت لها بأحكام هذه المعاهدة وملاحقها ، وتغلغلها بأجهزة الحكم، ونفوذها عليه، كل ذلك كان بحد ذاته ينطوي على استغلال العراق، وبديهي يؤكد الاستاذ حسين جميل أن الدولة ذات السيادة الخارجية الناقصة لا تكون قادرة على تحقيق حقوق شعبها ومنافعه. ولما كانت عصبة الأمم هي احدى أدوات الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى وخاصة بريطانيا العظمى باعتبارها الأقوى آنذاك فإنها مهدت بأكذوبة استقلال العراق المقيد بأحكام معاهدة 1930 التي واجهت رفضا شعبيا ونيابيا عارما آنذاك، غير ان سفير حكومة جلالة الملك آنذاك هو من أمر العراقيين على توقيع المعاهدة مقابل الاستقلال الشكلي، والدارس لتاريخ العراق الحديث يجد ان المعارضة لهذه المعاهدة والمعاهدات التي تلتها كانت محور نضالات قوى اليسار العراقي منذ نشأته عام1934، والتي توجت بمعارضة معاهدة بورت - سموث عام 1948(معاهدة جبر- بيفن ) والمظاهرات التي قادها الحزب الشيوعي العراقي والتي أدت الى الغاء تلك المعاهدة، غير ان بريطانيا ظلت تهمين على أمور العراق، وقد انتهت معاهدة 1930 بموجب الاتفاق المبرم بين العراق وبريطانيا عام 1955، حيث ورد في المادة الثانية منه تنتهي اعتبارا من تاريخ نفاذ هذا الاتفاق معاهدة التحالف بين العراق وبريطانيا الموقع عليها في بغداد في حزيران عام 1930مع الملاحق والكتب المتبادلة، كما انتهى هذا الاتفاق بدوره بخروج العراق من ميثاق بغداد (حلف بغداد ) في 24 آذار عام 1959، أي بعد قيام ثورة 14 تموز، التي رأت منذ البداية ان تلك المعاهدات والاتفاقيات والملاحق التابعة لها مقيدة لاستقلال العراق.
الانتداب لا يمكن إدراجه كما يقول الدكتور حسن الجلبي في كتابه القانون الدولي العام ص 332 في أي نظام من النظم القانونية أذ أنه نظام قائم بحد ذاته، ويرى بعض أساتذة علم السياسة انه أسلوب استعماري مغلف بأطر قانونية، فالعراق عند دخوله في الثالث من تشرين الأول عام 1932 لم يكن من حيث أحكام القانون الدولي مستقلا، فقد كانت المعاهدة العراقية البريطانية معاهدة اذعان بين دولة محتلة وأخرى وقع عليها الاحتلال، لذا لا يمكن الاعتداد بكون اليوم المشار إليه بقرار مجلس الوزراء هو يوم الاستقلال ، إنما يوم 14 تموز عام 1958 هو يوم الاستقلال الذي أعلن فيه بيان الثورة القضاء على الحكومات التابعة للتاج البريطاني، وأعلن الابتعاد الناجز عن الاحلاف الاستعمارية، ومنها حلف معاهدة السينتو، وأعلن أيضا الخروج من منطقة الإسترليني، وأخذ يبني سياسة خارجية مستقلة عن الهيمنة البريطانية، اذ بهذه السياسة أعلن عن مساندته للشعب الفلسطيني بإقامة دولته المستقلة وساعد بإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، وساعد بالمال والسلاح ثورة الجزائر، ودعا الى نصرة الثورة اليمنية، ووقع اتفاقيات التعاون الاقتصادي مع الاتحاد السوفيتي ومنظومة الدول الاشتراكية، حيث كان محرم عليه اتباع سياسة مستقلة تجاه هذا المعسكر (اي استقلال ذاك)، وأخذ بمقررات مؤتمر باندونك وسياسة عدم الانحياز.
وفي المجال الاقتصادي ولتثبيت قوة الثورة أعلن عن إصدار قانون رقم 80 لسنة 1961، الذي حددت بموجبه المناطق التي يحق فيها للشركات البريطانية وأخواتها حق التنقيب واستخراج النفط. ولإثبات حق الشعوب المظلومة جراء سرقة نفوطها والتلاعب بالأسعار أن قامت ثورة تموز بالدعوة إلى مؤتمر في بغداد لمناقشة أوضاع النفط، وكان من نتائج اجتماعات بغداد ان أعلن عن قيام منظمة أوبك، منظمة الدول المصدرة للنفط، المنظمة التي استطاعت ان تقف بوجه دول الاستغلال الاستعمارية. والسؤال الآن أمام كل من يدعو إلى إغفال دور ثورة تموز بتحقيق الاستقلال الحقيقي للعراق، هل كانت معاهدة 1930 تسعى لاستقلال العراق عن بريطانيا تمهيدا لقبوله في عصبة الأمم، وهل كانت عصبة الأمم مستقلة كي تقبل بدول مستقلة ؟، وكلكم يعرف مكر بريطانيا، وهل هناك ما يعيب كون ثورة تموز رمزا للعراقيين.؟ واخيرا هل قام مجلس الوزراء بحل كافة مشاكل العراق، ولم يبق له الا معاداة ثورة تموز.؟ وتحديد يوم استقلال العراق بعيدا عن يومه الحقيقي.؟
هذه الأسئلة وغيرها هي بمثابة فتح تحقيق تاريخي عن تجليات سياسة يراد بها طمس التاريخ الوطني للعراق وإعادة القديم الى قدمه...