قبل مؤتمر حزب اليسار الألماني للفترة 18 – 20 تشرين الأول المقبل، والذي يوصف بحق بانه مؤتمر أزمة الحزب، أعلن الرئيسان المشاركان للحزب، جانين فيسلر ومارتن شفيردفان، عدم الترشيح ثانية لرئاسة الحزب. وفي إطار المناقشة العامة، نشرت جانين فيسلر قراءة ضافية للتحولات المجتمعية وأزمة الحزب تجاوزت 20 صفحة من القطع الكبير. وجدت من المفيد تقديم عرض مختصر جدا للموضوعات الهامة والتي تتجاوز حدود حزب اليسار الألماني وتلامس الصعوبات المشتركة التي تواجهها أحزاب اليسار في البدان الأخرى.

من أجل تطوير استراتيجيات لتجاوز أزمة الحزب الحالية وتحقيق النجاح مرة أخرى، يجب أولاً دراسة وضع المجتمع والتغير في ميزان القوى في السنوات الأخيرة. لأن تطور الحزب لا يحدث في الفراغ. ولان الظروف الاجتماعية والصراعات مختلفة عما كانت عليه قبل 20 عامًا تقريبًا.

ومن اجل ذلك رغم الظروف الصعبة. علينا أن نسأل أنفسنا بشكل نقدي ما الذي كان ينبغي علينا القيام به بشكل مختلف. لقد كان بإمكان اليسار الأقوى أن يفعل المزيد لمواجهة تطور اليمين. ومن الضروري تحديد نقاط الضعف والأخطاء التي ارتكبها الحزب، واستخلاص ما يعيد الثقة. في هذا الوضع الصعب، لا أحد يملك وصفة للحل، وهذا ليس هدف هذه الموضوعات. والهدف هو أن تكون هذه الموضوعات مساهمة في عملية استراتيجية جماعية مفتوحة.

أولا) تحولات اجتماعية: عدم ركوب الموجة / السباحة ضد التيار في كثير من القضايا

في سنواته الأولى حظي حزب اليسار بدعم اجتماعي كبير لمطالبه: الحد الأدنى للأجور، نقد قوانين هدم المكتسبات الاجتماعية، إعادة التوزيع، نزع السلاح، ورفض مشاركة الجيش الألماني خارج الحدود، ثم جاءت الازمة المالية العالمية، ومذبحة قندوز في أفغانستان. لقد كان حزب اليسار يمثل مواقف الأغلبية المجتمعية. واستفاد من الإحباط الذي أصاب الأحزاب الأخرى، واكتسب مكانة بارزة كحزب احتجاج جديد، وحقق نجاحات انتخابية.

لقد تغير هذا بشكل جذري في السنوات الأخيرة.  وتحول التركيز في الصراع السياسي – الاجتماعي من الملفات الاجتماعية – الاقتصادية الى ملفات "أزمة اللاجئين"، وباء كورونا والحرب في أوكرانيا والأهمية المتضائلة لمسألة حماية المناخ.

واليوم يمثل الحزب قضايا مثل "المساعدات الاجتماعية" أو إعادة التسلح، على عكس الماضي، موقف الأقلية، ليس لأن الحزب غير مواقفه، ولكن لأن مزاج المجتمع تغير بشكل جذري ولم يتمكن الحزب من مواجهة هذا التغيير بشكل فعال.

صعود اليمين وترسخ توجهاته

هناك تحول جذري نحو اليمين في ألمانيا ودول أخرى في أوروبا والعالم. لقد أصبح "حزب البديل من أجل ألمانيا" في الانتخابات الاوربية القوة الثانية في ألمانيا، والأقوى في شرق البلاد، وحصل أيضًا على أعلى الأصوات بين العمال. ولا ينعكس هذا التطور في نتائج الانتخابات فقط، بل يرافقه تحول واضح في مواقف وأذهان الناس: فالخطابات اليمينية عن "الأسلمة" و"التسلل الأجنبي" أصبحت الآن تمتلك الأغلبية

لم يحقق اليمين المتطرف هذا التحول عبر خطابه فقط. لقد اعتبر اليمين المحافظ “الهجرة هي أم كل المشاكل”، و "اللاجئون يصادرون مواعيد أطباء الأسنان)، وانضم إليهم المستشار الالماني بالدعوة إلى ترحيل طالبي اللجوء، بما في ذلك إلى أفغانستان وسوريا، وقد وافقت الحكومة الألمانية على قوانين اللجوء الاوربية الجديدة التي تلغي حق اللجوء بمديات واسعة، والمفاوضات جارية مع الأنظمة الديكتاتورية حول خطط حرمان اللاجئين من الوصول الى أوربا، ويقوم خفر السواحل اليوناني بإلقاء اللاجئين في البحر دون رفض مؤثر في أوروبا.

إن حركات انقاذ اللاجئين من الغرق كانت قادرة على حشد عشرات الآلاف قبل بضع سنوات، وأصبحت اليوم في موقف دفاعي. والاحتجاجات المثيرة للإعجاب ضد |"حزب البديل من أجل ألمانيا" في بداية العام، مهمة، لكنها في أفضل الأحوال لم تحد من المكاسب التي حققها.

وعلى الرغم من دحض هذه السياسات عمليا في كثير من الأحيان، إلا أن التحالف الحاكم واليمين المحافظ المعارض يحاولان سكب الماء في طاحونة اليمين المتطرف من خلال تبني مطالبه. وبحجة عدم ترك الحديث عن المشاكل لليمين المتطرف، يجري حجب الأسباب الحقيقية للمشاكل ويتم صرف الانتباه عن تناقضات المجتمع الطبقي من خلال اعتبار "الهجرة" المشكلة المركزية.

إن تعزيز اليمين المتطرف مدفوع بمخاوف الهبوط في السلم الاجتماعي وتفاقم أزمة التوزيع في المجتمع.

ذروة التباين في توزيع الثروة واليسار لا يحقق اختراقا  

 مثل افتقار المجتمع الى التضامن الأرض الخصبة لصعود اليمين. لقد انقلبت المعادلة فالأكثرية التي كانت تعارض سياسة هدم المكتسبات الاجتماعية وتقليص المساعدات الاجتماعية في عام 2004، واستمرار هذا الرفض حتى عام 2019.

واليوم، انقلبت المعادلة، تعتبر الأغلبية ان قوانين المساعدات الاجتماعية الجديدة المعروفة بـ "أموال المواطن مبالغ فيها ويجب ان تلغى. بينما كانت هناك في السابق أغلبية في الاستطلاعات تؤيد زيادة المعدلات الموحدة، فإن الأغلبية اليوم تؤيد التخفيض. ان موقف حزب المضاد لتخفيض المساعدات الاجتماعية يدعمه اليوم 7 في المائة من المشاركين في الاستطلاع. ونسبة الداعمين للتخفيض الحالي حتى في أوساط جمهور اليسار وصل الى 64 في المائة.

ان الصراع بشأن التوزيع يدور داخل الطبقة الواحدة، وليس بين الأعلى والأسفل، واليسار غير قادر على تحقيق اختراق وكسب الاهتمام بواسطة حلول تضامنية ومطالبات إعادة التوزيع.

وهناك أكثرية تؤيد فرض ضريبة الأثرياء وزيادة الحد الأدنى من الأجور، ولكن حديث اليسار عن ضرورة فرض ضريبة على 237 عائلة مليارديرية، وعمليات التهرب الضريبي التي يمارسها فاحشي الثراء، لا يتم التجاوب معها انتخابيا، لان هناك قناعة سائدة تقول وفق آليات النظام السائد لا يمكن الوصول لهؤلاء: „نحن نعلم ذلك، لكننا لا نستطيع الوصول إليهم، ولا أنتم كذلك".

 هناك صراع بين أصحاب الدخل العادي والمنخفض والعاطلين عن العمل، بين العاطلين عن العمل وطالبي اللجوء؛ بفعل المنافسة على ما هو متوفر ومحدود من الاحتياجات الاجتماعية، في حين يظل الأغنياء خارج دائرة الصراع ودون مضايقة.

ويمكن ملاحظة الافتقار إلى التضامن عندما تؤيد، وفق استطلاعات الراي المختلفة، أقلية كبيرة وصولا الى أغلبية ضئيلة فرض القيود على حق الإضراب.

حرب اليمين الثقافية

هناك أزمة ثقة خطيرة في السياسة والإعلام والمؤسسات. وقد زاد هذا بشكل كبير، خاصة بسبب وباء كورونا. وهناك استياء كبير من أداء الحكومة، لكن هذا الاستياء يذهب لصالح اليمين المتطرف. واليسار غير قادر على توظيفه لصالحه؛ بل يجري تحميل اليسار سؤوليه عن السياسات، على الرغم من نقده   الحاد لها، لان هذا النقد يضيع في الخطاب العام، ولأن نقد اليمين المتطرف أكثر وضوحا وموجها أيضا ضد مواقف اليسار.

لماذا يعجز اليسار عن الاستفادة من أزمة الحكومة ويعزز دوره كمعارضة؟ إحدى المشاكل هي أن اليسار يُنظَر إليه باعتباره جزءا من النظام السياسي السائد ولم يعد كما كان في سنوات التأسيس باعتباره حزب المعارضة الأكثر حسماً والقادر على الوصول إلى ناخبي الاحتجاج وحشدهم.

يعتمد اليمين المتطرف الحرب الثقافية (القيم المحافظة في مواجهة قيم التحرر) وفي المركز منها سياسات الجندر بالإضافة الى خيارات الافراد في ممارسة حياتهم اليومية، وقد تجاوز نشر الكراهية أوساط ناخبي اليمين.

والأمر الأكثر خطورة في هذه الحرب الثقافية هو أن التقدم الاجتماعي، والذي يتم التعبير عنه أيضًا في توسيع حقوق الأقليات المجتمعية، أصبح موضع تساؤل متزايد حتى وسط المجتمع. وعلى اليسار ألا يستسلم أبدًا لهذه الحرب الثقافية التي يقوم بها اليمين أو حتى ينجر إليها.  وعلى اليسار أن يختلف بوضوح دون أن يصيبه الإرهاق وأن يستمر في الربط الطبقي بين ميادين الصراع المختلفة.

حماية المناخ قضية طبقية

تعد حركة حماية المناخ واحدة من أكبر الحركات في تاريخ البشرية. خرج الملايين من الناس إلى الشوارع في جميع أنحاء العالم. وفي ألمانيا، تمكنت مبادرة "جمعة من أجل المستقبل" وغيرها من المبادرات من تعبئة الجماهير. لفترة طويلة، كان موضوع المناخ هو الأهم، على الأقل في استطلاعات الرأي. اليوم أصبحت حركة المناخ ضعيفة ومجزأة. وفقدت حماية المناخ أهميتها في التصور العام، وضعف تأييد تدابير حماية المناخ.

كثيرا ما يطرح حزب اليسار قضية المناخ بسردية خاطئة، لا يتضح فيها الارتباط بحياة الناس اليومية بدرجة كافية دائمًا. فبدلاً من التركيز على التأثيرات المحددة لتغير المناخ في ألمانيا، والتي تؤثر اساسا على الطبقة العاملة، طرح الحزب في كثير من الأحيان مشكلة المناخ باعتبارها مهمة عالمية للبشرية. إن هذا الأسلوب، ليس أكثر من مجرد وعظ أخلاقي. ويجب على الحزب أن يضع دائمًا حياة الناس اليومية في مركز حججه. ولا ينبغي له أن يتحدث عن تغير المناخ بشكل مجرد، بل يجب أن يتحدث عن مدى تأثير ازمة المناخ على تفاصيل حياة الناس اليومية الملموسة، وما يجب القيام به أيضا بشكل ملموس لتحسين نوعية الحياة وحماية الصحة في المدن. لقد ناقش الحزب هذا الامر عدة مرات، لكنه لم يتوصل الى سردية متماسكة.

ولأن مناقشة تجنب الكارثة المناخية كانت جزئياً بمثابة "حرب ثقافية" داخل الحزب نفسه، فإنه لم ينجح في تطوير بدائل مقنعة لإعادة الهيكلة الاجتماعية والبيئية. لقد ظل الحزب عالقا بين تجذير مطالب الخضر او تبني نقد أساسي لها او تخفيف تأثيراتها الاجتماعية.

 

سياسة السلام وانقسام ناخبي اليسار

تميزت السياسة الأمنية، في السنوات والعقود التي تلت انهيار الثنائية القطبية بهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية، وحروبها وحلف الناتو ضد صربيا وأفغانستان والعراق، والنضال من أجل "نظام عالمي جديد".

كان هناك اتفاق إلى حد كبير داخل حزب اليسار على رفض مشاركة الجيش الألماني في الحروب، ورفض تصدير الأسلحة، وكان هذا الرفض يحظى بدعم كبير في المجتمع. ومن الضروري الاعتراف، بأن ليس كل من عارض الحرب في أفغانستان كان مناهضا للنزعة العسكرية. كان هناك دائماً المقتنعون بعدم توظيف "أموال الضرائب الألمانية" في الخارج تحت شعار "ليحطموا رؤوسهم هناك"، وأيضا نقد أي شكل من أشكال التعاون التنموي. واليوم، يتجمع هؤلاء إلى حد كبير داخل "حزب البديل من أجل ألمانيا" ويدعمون "سياسة السلام" المفترضة، التي تقوم على أسس قومية وترفض أي تضامن عالمي. لكن جزءًا كبيرًا من الرفض استند إلى سياسة السلام ورفض النزعة العسكرية وإعادة التسلح والعمليات الحربية التي تراكمت عبر عقود.

وكانت الحروب والعمليات العسكرية التي رافقت إعادة التنظيم الجيوسياسي والتي حدثت في ظل الحروب التي قادتها الولايات المتحدة وحلف الناتو قليلة الحضور بشكل ملحوظ في وسائل الإعلام وبين عامة الناس. ولهذا لم يكن حزب اليسار مضطراً إلى اتخاذ موقف واضح وملموس بشأن السلوك الروسي في حرب الشيشان وجورجيا وسوريا. وحتى ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014 لم يكن له تأثير يذكر في مناقشة السياسة الأمنية.

وباندلاع الحرب في أوكرانيا انتهت هذه الحالة، وواجه حزب اليسار، فضلا عن الأحزاب الأخرى وحركة السلام، أسئلة عميقة حطمت اليقينيات القديمة وأدت إلى احداث انقسامات. ويجري توظيفها من قبل الأحزاب الحاكمة واليمين المتطرف كل حسب أولوياته.

لقد تغير مزاج المجتمع أيضاً بشأن هذه القضية. وتحظى عمليات تسليم الأسلحة الى أوكرانيا بموافقة أكبر من ذي قبل. وتتصاعد الدعوة الى مضاعفة الأموال المخصصة لميزانية الدفاع، على الرغم من وصولها مديات غير مسبوقة، ويتفق 11 في المائة فقط مع موقف حزب اليسار بشأن الأنفاق الهائل على الجيش الألماني.

وعلى الرغم أنه من الخطأ بناء المواقف الموضوعية على معطيات الاستطلاعات، فمن المهم أن يكون الحزب على دراية بهذه المعطيات من أجل تطوير استراتيجيات للتعامل مع القضايا المطروحة.

لا ينحصر الأمر بالخطاب العام فقط، بل يتعلق أيضًا بحقيقة ضرورة تطوير تحليل عميق ومعاصر للإمبريالية يأخذ في الاعتبار تغير ميزان القوى، والمصالح الجيوسياسية للجهات الفاعلة والمواجهات بين الكتل الجديدة. يجب أن تكون مبادئ سياسة الحزب الخارجية، أولاً، خالية من الولاءات للدول الإمبريالية، وثانياً، أن تعلن السلام ونزع السلاح واحترام حقوق الإنسان كمطالب عالمية. إن تسمية وإدانة أعمال الإمبريالية الروسية على هذا النحو لا تضعنا في صف حلف شمال الأطلسي ولا تجعل انتقاده أمرًا عفا عليه الزمن.  والقول إن الدول الأخرى تنفذ أيضًا مصالحها الاقتصادية والجيو استراتيجية بشكل عدواني وعسكري، لا يعني ان الحزب يتعامل بنسبية مع الإمبريالية والحروب الغربية.

من الضروري جدا أن يتمسك الحزب بنقده الأساسي لحلف الناتو، وإعادة التسلح، وصادرات الأسلحة، ورفض مهام الجيش الألماني في الخارج، خصوصا في ضوء إعادة التسلح غير المسبوقة والنشر المعلن للصواريخ الأمريكية بعيدة المدى. وينبغي لهذه المواقف أن تظل بمثابة جدار يحمي الحزب، ولكن شعارات الرفض بمفردها ليست إجابة على الأسئلة الملحة التي يطرحها العديد من الناس على أنفسهم.

كان التباين في تصويت أعضاء كتلة الحزب البرلمانية بشأن أفغانستان قبل أربعة أسابيع من انتخابات 2021، إخفاق سياسي كلف الحزب قدرًا هائلاً من الثقة، حيث صوت نواب الحزب بالموافقة والرفض والامتناع عن التصويت، ثم برروا ذلك جزئيًا علنًا بمواقف متعارضة واتهامات وتفسيرات متوقعة، وبذلك دمروا إلى حد كبير، بين ليلة وضحاها، الاتفاق الكبير الذي بناه الحزب على مدى عشرين عاما بشأن الموقف من أفغانستان.

هناك دائمًا اتهام بأن الحزب لم يتخذ موقفًا واضحًا بشأن "قضية السلام" ولم يكن مرئيًا بشكل كافٍ. إن قرارات مؤتمر الحزب ولجنته التنفيذية وتصريحات قادته تحدثت دائمًا بوضوح ضد شحنات الأسلحة ولصالح الحل التفاوضي وهذا امر معلن باستمرار. ولكن صحيح ايضا: كانت هناك أصوات من أعضاء كتلة الحزب في البرلمان الاتحادي وبرلمانات الولايات ا ايدت مسألة تزويد أوكرانيا بالأسلحة.

ان الذين تركوا الحزب توزعوا على معسكرين الأول يرى ان مواقف الحزب لم تعبر بشكل كافي عن مواقف حزب للسلام ولم ينتقد الحزب بحسم تزويد أوكرانيا بالأسلحة، اما المعسكر الثاني فيرى ان الحزب لم يتضامن بشكل كافي مع أوكرانيا، ولأن الحزب يرفض تزويد أوكرانيا بالأسلحة.

والصورة مماثلة بشأن حرب غزة: فقد حدثت استقالات، بسبب فقدان التضامن الكافي مع إسرائيل، وكانت الاستقالات أكبر لان الحزب لم يدن الحرب على غزة أو يتعامل معها بشكل واضح. وتفهُم الانتقاد الأخير وارد، في ضوء الصور المروعة الواصلة من غزة و40 ألف قتيل. على الرغم من تمكن الحزب من تمرير قرارات بأغلبية واسعة (وقف إطلاق النار الفوري، وإطلاق سراح الرهائن، ووقف شحنات الأسلحة الألمانية إلى إسرائيل، وحل الدولتين)، إلا أنه لم يكن من الممكن ان يكون موقف الحزب بارزا، بسبب التمزق وخطوط الانقسام داخل قوى اليسار بشأن قضية الشرق الأوسط منذ عقود.

من الضروري في حملة الانتخابات البرلمانية العامة المقبلة، وبقدر تعلق الامر بسياسات السلام، على الحزب طرح المطالب التي تم الاتفاق عليها: عدم إعادة التسلح؛ لا زيادة في ميزانية الأسلحة؛ عدم نشر الصواريخ الأمريكية؛ وقف صادرات الأسلحة؛ ومعارضة خطط إعادة العمل بالتجنيد الإلزامي.

باختصار: يمثل اليسار آراء الأقلية حول العديد من القضايا الرئيسية ويسبح ضد التيار.  في السابق كانت الأمور مختلفة، لكن المزاج الاجتماعي تغير ولم يتمكن اليسار من فعل أي شيء لمواكبة هذا التغيير، او الحد من عوامله الفاعلة. إذا كان 7 في المائة فقط يعتقدون اليوم أن نسب منح „أموال المواطنين"، الاسم الجديد للمساعدات الاجتماعية، منخفضة للغاية (كانت هذه النسبة في السابق أكثر من 60 في المائة)، وإذا كان 11 في المائة فقط يعارضون زيادة تمويل للجيش الألماني والمواقف المناهضة للهجرة تتمتع بالأغلبية، فان هذه من الأسباب التي تجعل اليسار ضعيفًا جدًا في استطلاعات الرأي.

لا ينبغي أن يكون الاستنتاج هو تكييف مواقف الحزب وفق استطلاعات الرأي والأغلبيات السائدة. ومن الضروري توظيف الدراسات الاستقصائية والأدلة التجريبية في القرارات الاستراتيجية ومناقشة المواضيع التي لها الأولوية من أجل تعبئة الناخبين بشكل أفضل. ولكن لا يستطيع الحزب ولا ينبغي له، أن يجعل مواقفه متوافقة مع الأغلبية المتغيرة. لا استسلام للسائد ولروح العصر!  لم يأت حزب اليسار ليكون صورة للأغلبية السائدة بل ليغيرها، ولا يمكنه التنازل عن قناعات لأنها غير قادرة حالياً على الحصول على الأغلبية. حزب اليسار ليست شركة يمكنها تغيير استراتيجية التسويق حسب الرغبة، أو تغيير المنتج بأكمله إذا لزم الأمر. وهذا شيء جيد.

ومن الخطأ الجسيم أن ان يفرض الحزب على نفسه قيودا في سياسة الهجرة، خضوعا للسائد وأن يتخلى عن موقفه التضامني، كما تشير بعض التعليقات، فهذا توجه خاطئ ويتعارض مع قناعات أغلبية أعضائه. هذا لا يعني أنه ليس عليه تحديد المواقف وتوضيحها. وينطبق الشيء نفسه على قضايا السياسة الخارجية. نعم، لقد تغير العالم، لذلك هناك حاجة إلى تطوير المواقف. لكن من الخطأ أن يقدم تنازلات للسائد ولروح العصر الجديد.

 

ثانياً: العامل الذاتي: التعلم من الأخطاء والبناء على الإيجابيات

كتب كارل ماركس: "إن البشر يصنعون تاريخهم، لكنهم لا يصنعونه بإرادتهم الحرة، ولا بظروف يختاروها بأنفسهم، بل في ظروف يواجهونها مباشرة". وهذا ينطبق أيضًا على أحزاب اليسار. وبالتالي من المهم تسليط الضوء على التغيير الجذري في مزاج المجتمع وتوازن القوى. ومن هذا التغيير يُستنتج ما يجب على الحزب أن يفعله بشكل مختلف ولماذا ان "العودة إلى البداية" سيكون محكوما عليه بالفشل.

لا يمكن للحزب أن يؤثر في الوضع السياسي إلا بدرجة محدودة، وبواسطة التفاعل مع الشركاء والمجتمع المدني والحركات الاجتماعية. لكن هذا لا يعني أنه كحزب لم يرتكب أخطاء أدت إلى الأزمة الحالية، كان بإمكان أداء الحزب ان يكون أفضل مما هو عليه الآن، ولهذا يجب ان يتعلم الدروس من أخطائه.

ادناه سيتم تناول: ما هي الأخطاء التي ارتكبها الحزب؟، وما هي الأمور التي اغفلها؟   ولكن أيضًا: ما هي الأخطاء التي لم يرتكبها، وما الذي يمكن البناء عليه وما الذي يجب أن يتم التخلي عنه؟

 

الحزب كجزء من النظام السائد، بدلا من معارضة الحكومة والنقد الأساسي للمجتمع والنظام الرأسمالي

هنا تتحدث المعارضة" – هكذا كانت عناوين تصريحات كتل الحزب البرلمانية. في السنوات الأولى، كان الحزب في البرلمان واضحا للعيان باعتباره معارضة، تجرأ على "ضرب القذارة"، ومارس التصعيد، والاستفزاز، وأحيانا كسر القواعد (البرلمانية). إن حمل اللافتات في داخل البرلمان حول أفغانستان تستحق تذكرها. لم يعد يُنظر الى حزب اليسار اليوم على أنه الصوت الأكثر حسماً للمعارضة من حيث الشكل والمضمون. وهذا له أسباب مختلفة. فمن ناحية، لم يعد حزب اليسار قوة جديدة، وينظر إليه العديد من الناس باعتباره حزباً من الأحزاب "السائدةً"، يشارك في حكومات الولايات، ويأتي من صفوفه رؤساء بلديات ومناطق، وبالتالي يجتذب عدداً أقل من ناخبي الاحتجاج. في السنوات الأخيرة، أصبح ضغط الحزب اقل من موقع المعارضة، مثلما كان يقوم بذلك في السابق، ويعود ذلك إلى تغير موازين القوى وحقيقة أن الحزب فقد الكثير من أهميته الانتخابية. الناس يصوتون لحزب اليسار عدة مرات، لكن ذلك لا يؤدي إلى تحسن جوهري في ظروفهم المعيشية، لأن " تأثيراً اليسار „لم يحقق للأسف الا أشياء محدودة في إطار لعبة الأقلية والأكثرية، ولأنه كان ضعيفا للغاية كمعارضة. وفي حكومات الولايات والبلديات، لا يتم اتخاذ أي قرارات بشأن مسائل السياسة الضريبية والمعاشات التقاعدية والحد الأدنى للأجور، لأنها من صلاحيات السلطات الاتحادية. إن حقيقة عدم النظر للحزب باعتباره قوة تغيير تتبنى انتقادات أساسية، لها علاقة أيضًا بوجود حزب البديل من أجل ألمانيا، الذي غير دور الحزب في البرلمانات والمجتمع.

قبل ظهور حزب البديل من اجل المانيا كان الحزب القطب المعارض للحكومة في بعض الولايات وهذا ما جعل مواقف الحزب حينها تحظى باهتمام كبير.

مع دخول حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف برلمان هذه الولايات، تغير المزاج فيه. لقد تغيرت الأولويات. وفجأة أصبح حزب اليسار جزءا من التوافق البرلماني، وفي بعض الأحيان صفق للحزب الحاكم في سياق مواجهة اليمين المتطرف. يعمل حزب البديل من أجل ألمانيا بشعبوية تعتمد المبالغة، لذلك واجه حزب اليسار صعوبة في تحقيق اختراق بواسطة نقده المختلف بطبيعته عن الخطاب الشعبوي.

وأصبح هذا أكثر وضوحا في أزمة وباء كورونا. كان من الواضح لليسار أن الفيروس خطير، وأن هناك حاجة إلى تدابير وقائية، ولكن يجب أن تكون متوازنة اجتماعيا وقانونيا. كان نقد اليسار شديد لحكومات الولايات بشأن تحديد لأولوية لتخفيف القيود غير المتناسبة على الحقوق الأساسية، والقيود الصارمة على التواصل بين السكان. ونقد الخلل في طريقة صرف المساعدات والمشاكل المعروفة منذ زمن طويل في النظام الصحي. ومع ذلك، فقد طغى حزب البديل من أجل ألمانيا في الفضاء العام، حيث تحدث علنًا ضد جميع الإجراءات في جميع المجالات ونفى تمامًا خطر الوباء وبالتالي شكل القطب المضاد تمامًا. وكذلك فيما يتعلق بجودة الادوية المخصصة للتطعيم.

من الصواب من وجهة نظر مناهضة الفاشية، التوصل إلى تفاهمات مع الأحزاب الأخرى من أجل منع مرشحي حزب البديل من أجل ألمانيا، وإذا لزم الأمر، الدعوة إلى انتخاب أحزاب اليمين التقليدي، ولكن من وجهة نظر العديد من الناخبين. يبدو اليسار جزءا من كتلة تضم جميع الأحزاب، وبالتالي تصبح بصمة اليسار وتميزه عن الأحزاب التقليدية أقل وضوحا. وهذه مشكلة السنوات الأخيرة، نادراً ما نجح حزب اليسار واليسار الاجتماعي ككل في تحقيق تحول في الخطاب نحو اليسار وخلق تأثير لمواقفه والقضايا التي يتناولها في مركز اهتمام الراي العام، الا في حالات استثنائية قليلة، أي ان الاتفاق مع "ما يرتبط بالمسؤولية العامة" (الوطنية)، كان يجري على حساب ممارسة الحزب لدوره المعارض. وهذه الإشكالية بحاجة الى دراسة معمقة.

حرية الصحافة واحتكار الاعلام

إن الخطر الذي يمثله اليمين المتطرف، وتشكيكه بالمنجزات الديمقراطية دفع حزب اليسار إلى الدفاع عن الأنظمة والمؤسسات التي انتقدها في السابق. وعلى الرغم من دفاع الحزب عن مؤسسات الاعلام العام، إلا أنه لم يوجه انتقادات للفجوة الصارخة في الأجور في الاعلام العام وكذلك لبعض المحتوى. لقد أهمل حزب اليسار تعميق النقد ووضعه جانبا في سياق ضرورة مواجهة اليمين المتطرف، لذلك كان حضوره في الحوارات الإعلامية محدودا. ومع تزايد قوة حزب البديل من أجل ألمانيا، أصبح موقف حزب اليسار النقدي لجهاز "حماية الدستور" (المخابرات) والسلطات الأخرى أقل وضوحًا.

اهمال نقد الدولة ومؤسساتها

لم يعد حزب اليسار يصوغ بشكل واضح نقده للدولة والمؤسسات، أو على الأقل أهمله بشكل خطير. ويعود ذلك أساسا لهجوم اليمين المتطرف على مؤسسات الدولة البرجوازية، ولكن أيضًا لأن المشاركة في الحكومات تتعارض بالطبع مع النقد الجذري للمؤسسات والدولة. من الضروري تذكر ما قاله ماكس ريمان بشأن رفض الحزب الشيوعي في المانيا للقانون الأساسي (الدستور) في عام 1949: "لن نوقع. ولكن سيأتي اليوم الذي ندافع فيه نحن الشيوعيون عن هذا القانون الأساسي ضد من اقره". واليوم يدافع حزب اليسار عن القانون الأساسي، رغم الانتقادات الموجهة إلى بعض مواده المتعلقة باللجوء والسياسة المالية، ضد هجمات حزب البديل من أجل ألمانيا.

هذا هو أحد الأسئلة الإستراتيجية المركزية والمفتوحة التي يجب أن تتم الإجابة عليه: كيف يمكن لحزب اليسار أن يتمكن من تحقيق اختراق مرة أخرى بواسطة النقد الجذري للنظام والمجتمع في وقت أصبحت فيه الدولة ومؤسساتها معرضة لخطر اليمين المتطرف؟ كيف يمكنه التوصل الى التوازن (مع الأحزاب الأخرى) في الدفاع عن الإنجازات الديمقراطية ومؤسسات الدولة البرجوازية ضد اليمين المتطرف وفي نفس الوقت صياغة نقد أساسي واضح للعيان؟ كيف يمكن الاستفزاز وخلق الاستقطاب من أجل دفع الخطاب السياسي نحو اليسار وانتقاد من هم في السلطة، بتميز واضح عن خطاب اليمين المتطرف؟

إن الموقف الدفاعي غير النقدي تجاه مؤسسات وأدوات احكم، والتي تستحق النقد، يؤدي إلى طريق مسدود. هدف اليسار هو تغيير المجتمع ونقده للدولة يختلف جوهريا عن نقد اليمين المتطرف. يجب أن يعود اليسار مرة أخرى أكثر وضوحا كقوة لتغير المجتمع وأن يُنظر إليه على أنه حزب اشتراكي مناهض للرأسمالية. ليس من خلال التطرف اللفظي المجرد، بل على أساس الوعي اليومي: من خلال التعبير عن تطرف الواقع وتناقضات هذا المجتمع بدعوى الرغبة في إضفاء الطابع الديمقراطي بشكل أساسي على علاقات الملكية؛ من خلال اليوتوبيا الملموسة ومشاريع الإصلاح الجذري التي تكشف وتشكك في علاقات السلطة. يناضل حزب اليسار كل يوم على الأرض، في البرلمانات والحكومات، من أجل كل تحسن، مهما كان صغيرا، ولكنه لا يتخلى عن تبني ضرورة تجاوز الرأسمالية. عندها فقط سيكون قادرا على إضفاء الطابع الديمقراطي الكامل على الاقتصاد والمجتمع. تُظهر شعبية بيرني ساندرز (كتابه الأخير بعنوان: "لا بأس أن تغضب على الرأسمالية") في الولايات المتحدة إمكانية إحداث تأثير جماهيري والوصول إلى الناس إذا كان النقد يصل إلى الجذور.

الانشغال بالصراعات والتفكك من الداخل

لا شك أن أحد الأسباب الرئيسية وراء ضعف حزب اليسار الحالي يتلخص في سنوات التفكك من الداخل. لقد ادعى نواب بارزون في كتلة الحزب علناً لسنوات أن الحزب لم يعد يمثل العمال وأهمل القضايا الاجتماعية.

ورغم أن 80- 90 في المائة من مبادرات الحزب في البرلمانات المحلية، وفي برلمانات الولايات، وفي البرلمان الألماني وفي البرلمان الأوروبي تناولت "المسألة الاجتماعية" بأوجهها المختلفة، فقد نشأ انطباع - وبنجاح للأسف - بأن الحزب كان. مشغولا بشيء مختلف تمامًا. وهذا كلف الحزب الكثير من المصداقية وألحق به أضرارا جسيمة. وفيما يتعلق بمقولة حزب اليسار" لم يعد حزب سلام"، جرى توظيفها للإشارة إلى وجود فراغ في الحياة الحزبية ينبغي ملؤه، كمدخل لإعلان الانشقاق في بداية العام الحالي.

لم يكن ممكنا منع الانشقاق إلا إذا سلك الحزب مساراً يمثل نهايته كحزب (يساري). وعلى أبعد تقدير، فإن التصريحات الحالية لحزب المنشقين بشأن فرض عقوبات عند منح المساعدات الاجتماعية، وملف الهجرة والهجرة ومسائل المساواة في الحقوق تظهر أنه لم يكن من الممكن للحزب استيعاب هذه المواقف. لقد وضعت المرشحة الرئيسية لحزب "تحالف سارا فاكنكنشت" المنشق عن حزب اليسار في ولاية ساكسونيا حزبها على يمين الحزب الديمقراطي الاجتماعي وعلى يسار حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين محافظ).

وفق المعطيات المعروفة اليوم ما كان بالإمكان تجاوز الانشقاق، الذي كان فرضه في وقت سابق. ورغم التحذيرات التي سبقت الاعداد للانتخابات العامة الأخيرة في 2021، من قبل العديد من رفيقات ورفاق الحزب، الا ان العديد من قيادي الحزب الذين يشاركون المحذرين رؤيتهم، قللوا من خطر الانشقاق، بالإضافة الى تأثير سنوات العمل المشترك الطويلة داخل الحزب. وكذلك الامل بالحفاظ على وحدة الحزب، وإمكانية معالجة التباينات في إطار طابعه التعددي. وفي وقت لاحق لم يعد من الممكن أن يكون هناك مسار مشترك، وقامت اللجنة التنفيذية للحزب، باتخاذ القرارات المناسبة، التي جاءت متأخرة، وكان يمكن اتخاذها قبل خوض انتخابا 2021 العامة.

لقد تم السماح بتفكيك الحزب من الداخل طيلة سنوات. ولم يتم التوصل لطريقة توقف هذا التدهور. لقد حدث الانشقاق في وقت هو الأكثر تدميراً بالنسبة للحزب: في بداية عام انتخابي: انتخابات والبرلمان الأوروبي وانتخابات في ثلاث ولايات في ألمانيا الشرقية، التي كانت من معاقل الحزب.

كانت نتائج الانشقاق مدمرة ومرئية مثل انقسام كتلة الحزب البرلمانية، ولديه الآن مجموعة برلمانية ما يعني فقدانه للكثير من الفرض السياسية والمالية، فضلا عن التشكيك بوجود حزب اليسار والنقاشات الجارية بشأنه في وسائل التواصل الاجتماعي.

بعد الانشقاق يأمل الكثيرون ان يبتعد الحزب من الصراعات الداخلية، وهذا ما يعكسه الكسب الجديد الوسع، وعودة رفاق سابقين.

ستظل هناك قضايا خلافية داخل الحزب، يجب حلها مستقبلا.  وفي حزب يضم أكثر من 50 ألف عضو، فإن القضايا المثيرة للجدل ستنتهي حتماً بالتسوية، ومن خلال القدرة على التوصل إلى تسويات داخلية، يمكن الحفاظ على حزب اليسار كحزب تعددي.

 

العلاقة بالحركات الاجتماعية

لا معنى لنقد توجه الحزب نحو الحركات الاجتماعية، من الواضح أن التغييرات السياسية الحقيقية لا يمكن تحقيقها من خلال العمل في البرلمانات والحكومات فقط، بل ان الضغط الاجتماعي والصراعات الطبقية ضرورية لتغيير ميزان القوى داخل المجتمع الرأسمالي وانتزاع التنازلات من قوى السلطة ورأس المال. وتاريخ الحركة العمالية، والحركة النسوية والحركة المناهضة للطاقة النووية يبين ذلك بوضوح كامل.

لقد كانت العلاقة بالحركات الاجتماعية دوما مصدر قوة كبيرة للحزب، حيث كان الحزب عنصرا مهما للكثير من الحركات وكان العمود الفقري لبعضها الآخر، وتحت شعار "دريسدن خالية من النازية"، على سبيل المثال: احتشد الحزب بأكمله، بجميع   التيارات والأجنحة في دريسدن في ذلك الوقت. وكانت الكتلة البرلمانية ممثلة بالعديد من النواب. وكان نواب كتل الحزب في برلمانات الولايات حاضرين أيضا. بالمقارنة شارك 4 نواب من الحزب فقط في التظاهرة ضد مؤتمر حزب "البديل من اجل المانيا" الذي جرى في مدينة ايسن أخيرا.

شهدت بداية العام حركة كبيرة ضد حزب "البديل من أجل ألمانيا" مع عدد لا يحصى من الاحتجاجات الكبيرة والصغيرة، شملت المدن الكبيرة والبلديات الصغيرة. وكان مهم أن يشارك الحزب في هذه الاحتجاجات ويساعد في تنظيم بعضها. وقد حاول الحزب (وآخرون) التعامل مع العوامل التي تجعل الأرض خصبة لليمين المتطرف: المخاوف من التدهور وهدم المكاسب الاجتماعية، واهمال مناطق بأكملها، وتقديم التنازلات لليمين المتطرف من خلال قضم حق اللجوء.

من الضروري جدا للحزب اليساري أن يكون راسخا في النقابات العمالية وأن يدعم نضالات المصالح والنضالات النقابية، من الأفضل أن يكون جزءًا منها. في الآونة الأخيرة، ركز الحزب في جميع أنحاء البلاد على الإضرابات في المستشفيات وقطاع تجارة المفرد ووسائل النقل العام. لقد نجحت حملة "نحن نسافر معًا" التي أطلقتها النقابة العامة للخدمات وحركة المناخ، والتي عمل فيها العديد من اليساريين، في تحقيق التضامن الوطني بين العاملين ونشطاء المناخ.

بديهي ان الحزب ليس حركة اجتماعية ويختلف في وظيفته وأساليب عمله. تمر الحركات بصعود وهبوط، وتتشكل من جديد، وتتجزأ ويعاد تشكيلها.  وتوجه الحزب نحو الحركات الاجتماعية، لا يعني أنه لا يمثل أيضًا، غير القادرين على الدفاع عن أنفسهم خارجها.

والسؤال هو ليس التوجه نحو الحركات الاجتماعية او عدمه، بل كيف يمارس هذا التوجه واي الحركات تعطى الأولوية، والمهم ان لا يتبع الحزب مع الحركات فقط، بل أن يكون له بصمته وخطابه السياسي الطبقي الخاص.

 البناء على الإيجابيات

وعلى الرغم من كل المشاكل، هناك تطورات إيجابية في الحزب في السنوات الأخيرة، والتي يمكن ويجب البناء عليها. لقد توقع الكثيرون أن يؤدي الانشقاق إلى تقليص عضوية الحزب بشكل كبير. هذا لم يحدث. وعلى الرغم من حدوث استقالات، فقد انضم قرابة 8 آلاف عضو جديد بعد الانشقاق، بحيث أصبح عدد أعضاء الحزب اليوم أكبر بكثير مما كان عليه قبل الانشقاق. بالنسبة للكثيرين، كان توجه المجتمع نحو اليمين والوضوح السياسي الأكبر بعد الانشقاق سببا للانضمام إلى اليسار.  وفي معظم تنظيمات الحزب في الولايات الغربية كانت نسبة الزيادة تتراوح بين 5 – 11 في المائة. وفي تنظيمات الولايات الشرقية كانت الزيادة أقل، ويرجع ذلك أساسًا إلى ارتفاع متوسط العمر، وحالات الوفاة، فيي مناطق المانيا الديمقراطية السابقة.

لا تعود موجة الانتماءات إلى الاستعداد التلقائي للأفراد فقط، بل أيضًا إلى الحملات التي نظمها الحزب مثل "اليسار للجميع" والتوجه للشخصيات الجماهيرية في النقابات العمالية، والاتحادات العلمية والثقافية الذين التزموا بسياسة اليسار.

لقد عمل الحزب باحترافية أكبر وطور أساليب التنظيم والحوار مثل حملات طرق الأبواب، والتي يمكن البناء عليها في الحملات الانتخابية المقبلة لتعبئة الأعضاء والناخبين - وخاصة الذين لا يمكن الوصول إليهم عبر منصات المعلومات ووسائل التواصل الاجتماعي.

وتنفيذا لقرار مؤتمر الحزب، تم بتشكيل مجلس نقابي، وهو يضم عددا من الكوادر النقابية الجيدة. ونظرًا للتركيز على قطاع الرعاية الصحية، فقد امتلك الحزب العديد من الأعضاء الجدد في السنوات الأخيرة الذين يعملون في هذا القطاع. وعلى الحزب التوسع ليشمل قطاعات أخرى.

 ثالثا. طريق التقدم المحتمل

والآن لم تعد مهمة حزب اليسار سهلة، في وقت يتخيل فيه الناس نهاية العالم وليس نهاية الرأسمالية. في زمن الأزمات المجتمعية المتعددة وتضاؤل الأمل في التحسن، يصعب على حزب يريد تغيير النظام الاجتماعي الذي نعيش فيه برمته.

اليسار الراغب في التغيير يلتقي بمجتمع مرهق. العاملون في ألمانيا مرهقون، مرهقون من ضغط العمل المستمر أو البحث المستمر عن فرصة العمل التالية لأن فرصة العمل الأخيرة كانت مؤقتة فقط. مرهق من رعاية الأطفال الطارئة لأن مركز الرعاية النهارية اضطر إلى الإغلاق مرة أخرى بسبب نقص العاملين، ومرهق من القطارات المكتظة التي تتأخر باستمرار. مرهق من الخوف المستمر من فقدان شقتك أو ببساطة عدم القدرة على دفع الإيجار. لقد استنفد التضخم والارتفاع الكبير في الأسعار وتجربة عدم الوفاء بالوعود بالتقدم مرهق من الوعود الكثيرة التي قطعتها الأحزاب الحاكمة.

ولكي يستبدل اليسار الإرهاق بالأمل ويخرج من الأزمة، عليه أن يكون مستعداً لتغيير الأوضاع.

1) فكرة جديدة للتضامن

إن مهمة اليسار هي إيقاظ الأمل بالتغيير بين اوساط الذين لا يستطيعون ببساطة شراء حياة يومية فعالة والتوازن بين العمل والحياة بالمال. الذين لا يستطيعون القيام بذلك يعتمدون على دولة تعتني ببنية تحتية فاعلة وتحمي حقوقهم. تركز سياسة اليسار على ذوي الدخل الصغير والمتوسط.

لذلك يجب على اليسار قبل كل شيء أن يعمل على الحفاظ على المجالات الأساسية للحياة اليومية وتوسيعها حتى يتمكن المجتمع المرهق من التنفس مرة أخرى ويصبح مستعدا لتقبل الرؤى ووجهات النظر التي تبدو فيها التغييرات الاجتماعية الأساسية ممكنة. وهذا يعني أن البنية التحتية العامة مثل النقل ونظام الصحة والتعليم والطاقة وإمدادات المياه وشركات الإسكان هي في أيدي الدولة والبلديات. وهناك حاجة ماسة إلى الاستثمار العام لتوسيع هذه "الخدمة الأساسية غير المشروطة" والحفاظ عليها.

تتضمن "اشتراكية البنى التحتية" هذه أيضًا توسيع أنظمة الضمان الاجتماعي والحقوق الديمقراطية، ومن أجل نظام معاشات تقاعدية لا يضطر أحد فيه، العيش في سنوات الشيخوخة في فقر، وتنتهي فيه سلسلة العقود المؤقتة. ان التضامن ينشأ في النضالات المشتركة. ومن أجل تحقيق النمو المستدام، فإنه تحتاج إلى أساس اجتماعي مستقر لا يدخل فيه الناس في منافسة مع بعضهم البعض. هكذا يمكن أن تظهر فكرة جديدة للتضامن.

في الجوهر، يتعلق الأمر بحياة جيدة للجميع. ولكي يتمكن الجميع من أن يعيشوا حياة طيبة بكرامة وأمان، فإن القلة التي أصبحت غنية بالوراثة، والتي تزداد ثراءً من أرباح الأسهم، يجب عليها في النهاية أن تعيد حصة عادلة إلى المجتمع. نُشر أخيرا ان الحكومة الألمانية منحت في عام 2023، شركات مؤشر داكس الألمانية الأربعين إعانات بالمليارات، في حين ضاعفت   هذه الشركات أرباحها أكثر من 10 مرات، عملا بشعار " من يملك يُمنح".  ان هناك حاجة إلى تغيير جذري نحو إعادة توزيع جذرية من الأعلى إلى الأسفل.

2) تجاوز الهيكلية المحافظة

يجب على حزب اليسار أن يتغير ويتغلب على النزعة الهيكلية المحافظة في أجزاء منه. أن التجديد الضروري للحزب يقلق بعض الأعضاء. وحتى الأعضاء الجدد الكثيرين لا يشكلون سببًا للفرح بالنسبة للبعض الآخر فقط، بل يجلبون معهم أيضًا الشكوك حول الأفكار الجديدة التي يحملوها. سيكون لليسار مستقبل، إذا لم ينس ماضيه، وفي الوقت نفسه لا يغمض عينيه عن الأفكار الجديدة. فالماركسية ليست مزاراً للعبادة، بل هي أداة لفتح العالم ويجب تطويرها أكثر من أجل العثور على إجابات مقنعة لأسئلة عصرنا، وعدم الاكتفاء بالتأكيد على ذلك، بل جعله ممارسة يومية تفصيلية.

وهذا يعني أيضًا أن حزب اليسار ليس حزبًا برلمانيًا كلاسيكيًا ببرلمانيين ومخصصاتهم، بل يجب أن يجعل العمل السياسي على قدم المساواة مع الذين يريد كسبهم للعمل من أجل مستقبل أفضل. أن رواتب النواب يجب أن تكون متناسبة مع متوسط الأجور. ومن خلال التبرع للحزب والصندوق الاجتماعي، يبين نواب حزب اليسار أن الدرجات اليسارية الخاصة لها فوائد عملية. يتبرع نواب حزب اليسار بالكثير اليوم، ولكن لتجنب التبعية والمحسوبية، فمن المنطقي تحويل التبرعات الفردية الحرة جزئيًا على الأقل إلى تبرعات عبر قواعد وهياكل جماعية. إن أموال الصندوق الاجتماعي مخصصة لتمويل المشاريع الاجتماعية، ولكن أيضًا لحملة „اليسار يساعد". ان حزب اليسار بحاجة إلى عملية جماعية لتحديد الشكل الذي تنظم فيه هذه الأمور بالتفصيل، وفي نهايتها يجب أن يكون هناك قرار.  ان هذه العملية حاليا قيد الإعداد الفعلي.

من الضروري تغير طريقة التعامل بين أعضاء الحزب. يريد اليسار أن يكون حزباً متضامناً، وغالباً ما يفشل في إظهار التضامن مع بعضه البعض. وهذا يبعد عنه الكثيرين. وفي احيان) كثيرة، تؤدي التلميحات والشكوك إلى خلق جو يتم فيه تدقيق كل كلمة وكل جملة. يضاف إلى ذلك عدم التقييم المتبادل للعمل المشترك. تعمل الغالبية العظمى من الناشطين في حزب اليسار بشكل طوعي، ويعدون الخطط المالية بعد العمل، ويقضون عطلات نهاية الأسبوع في مؤتمرات الحزب أو يذهبون إلى خط الاعتصام في الصباح الباكر. في كثير من الأحيان أكبر من طاقاتهم الشخصية. يبذل الجميع قصارى جهدهم في الحزب من أجل مجتمع أفضل. دعنا نقول ذلك لبعضنا البعض. تتحمل هيئات الحزب القيادية ونوابه، بشكل خاص مسؤولة ضرورة تقديم التقييم المطلوب والتعبير عن التضامن.

3) سياسة طبقية جديدة

لقد بدأ الحزب عملية إستراتيجية وقدمت القيادة اقتراحات تركز على المحتوى. وتريد أن تشرك الحزب والناشطين وتنظيمات الولايات والمدن، للقيام بصياغة نقد جوهري للحزب على سياسات الحكومة المناهضة للمجتمع خلال الحملة الانتخابية المقبلة وما بعدها. ان هذه ليست عملية فوقية، ولا ينبغي لها أن تصبح سوقاً لاحتمالات اعتباطية. وعلى الحزب أن يجد بشكل جماعي القدرة على وضع الاستراتيجيات والتعامل، بحيث يصبح مرئيا وفي الخطوة التالية، يتم ترسيخ هذه النقاط الرئيسية بين الناس والناخبين المحتملين. لأن الثقة لا تُستعاد بالإعلان، بل بالحوار.

هناك أمر واحد لم يعد بوسع الحزب تحمله في سبيل الخروج من الأزمة: التعامل الفردي مع الصحافة. الثقافة الديمقراطية في حزب يساري تعني: كل شيء يُناقش، والجميع يناضل بصدق من أجل التوصل الى الإجابات الصحيحة والمشتركة، التي ستصبح إجابات الجميع حتى المناقشة التالية ومؤتمر الحزب المقبل.

إذا تحدث الحزب بصوت واضح مرة أخرى، يمكنه فقط تحقيق مهامه المركزية: مواجهة الظلم الاجتماعي الصارخ في المجتمع وسياسات الحكومة، وجعل الصراع الطبقي من الاعلى   قضية مجتمعية، وطرح البدائل والدفاع عن مصالح العاملين. ارفضوا الانقسامات الزائفة بين العاملين والعاطلين عن العمل أو المهاجرين: فالهجوم على مستويات معيشة البعض سوف يتحول قريباً إلى هجوم على كل مطالب اليسار بالسكن والعمل والمستقبل. يتعلق الأمر بالدفاع عن الحق في رعاية صحية ورعاية مسنين جيدة و، وفي وجود عدد كافٍ من دور الحضانة وصفوف مدرسية أصغر، وفي توفر وسائل النقل المحلية الفعالة، وسكن بأسعار معقولة، والعمل الذي يتناسب مع الحياة. والحق في عدم الخوف من المستقبل.

وفي النهاية، فان حزبا قادرا على التغلب على هذه الأزمة واستعادة الثقة إذا حدد ا المسار الصحيح. تقع على عاتق الحزب مسؤولية كبيرة ولديه فرصة. من الضروري عدم اضاعتها.

عرض مقالات: