في الذكرى الخمسين لأطلاق سرح المناضلة الأممية البارزة انجيلا ديفيس من تهم الإرهاب المزعومة التي كانت تهدف لأنهاء حياتها بالإعدام او السجن، على حملة التضامن العالمية التي كانت سببا مهما في إطلاق سراحها. ولكن الامر الذي لا يقل أهمية برأيي المتواضع هو الثبات والاستمرار بالنسبة لهذه المناضلة المتجددة على منهجها ومواقفها، على الرغم من الكثير من المتغيرات التي شهدها العالم، وشهدتها الأحزاب الشيوعية خصوصا وعموم الحركات الاجتماعية وقوى اليسار العالمي.

في الكلمة التي القتها ديفيس في ساحة "ماديسون سكوير غاردن" في نيويورك في 29 حزيران 1972 بعد الحكم ببراءتها قالت:

"لا يعترف المتسلطون أن حريتي كسبت في شوارع هذا البلد، بل في العالم بأسره. تنتقدني صحف البلاد لعدم شكر القضاء على المحاكمة العادلة. هل تتوقع مني حقًا أن أمتدح نظامًا قضائيًا سرق عشر سنوات من حياة جورج جاكسون وانتهى الأمر بقتله؟ هل يعتقدون أنني نسيت والتر كولينز الذي لا يزال في السجن لرفضه الذهاب إلى فيتنام؟ هل يعتقد المتسلطون حقًا أنني أشكرهم على عدالتهم بينما يعاني آلاف وآلاف من إخوتنا وأخواتنا في السجون المحصنة؟

لم نجتمع الليلة لنشيد بقضائهم العادل.  ان الانتصار الذي نحتفل به مجرد مقبلات صغيرة لما يمكن ان يتوقعوه منا من الآن فصاعدًا. وإذا كان الحكام يعتقدون أن جميع اللجان التي تشكلت هنا وجميع انحاء العالم لنيل حريتي ستغلق أبوابها الآن مرة أخرى ، فهم مخطئون للغاية. دعونا نقول لهم بصوت واحد إننا سنناضل حتى يتم القضاء على العنصرية في هذا البلد، حتى نتمكن من إنهاء الحرب في فيتنام والاستعمار الجديد في إفريقيا. ولن نتوانى عن معركتنا حتى يتم تحرير كل سجين سياسي، وتكون الأبراج المحصنة الوحشية في هذا البلد مجرد ذكريات كوابيس".

في الرابع من حزيران 1972، بعد  شهور من المرافعات، أصدرت هيئة المحلفين في سان خوسيه، كاليفورنيا حكمًا مفاجئًا: أنجيلا ديفيس، الشيوعية الأمريكية من أصول أفريقية ومتهمة بالتآمر للاختطاف والقتل، تمت تبرئتها من جميع التهم. "يا لها من لحظة رائعة،" صاحت انجيلا ديفيس بعد ثلاثة أسابيع من صدور القرار في ماديسون سكوير غاردن في نيويورك. "من كان يتخيل قبل 22 شهرًا طويلة أن الآلاف منا سيحتفلون بانتصار الشعب العظيم اليوم." ما يجب الاحتفال به هو القدرة المشتركة على الحاق هزيمة لا لبس فيها بالمتسلطين في هذه البلاد".

بدأت محاكمة ديفيس البالغة من العمر 28 عامًا، والتي كانت تعمل أستاذة مساعدة في معهد عالي. والتي سبق لها ان انتمت للحزب الشيوعي الأمريكي في عام 1968، في شباط 1972 تحت إجراءات أمنية مشددة، مصحوبة بحملة التشهير النموذجية التي تصاحب في العادة مثل هذه المحاكمات الصورية. وكانت التهم الموجهة لها: المشاركة في إطلاق سراح سجناء في آب 1970. وفي بالمقابل تأكد فريق الدفاع عنها، من أن موكلته ستصبح ضحية لمؤامرة سياسية. من إخراج مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي سيئ السمعة جيه إدغار هوفر وحاكم كاليفورنيا آنذاك رونالد ريغان، الذي أصبح لاحقا رئيسا للولايات المتحدة الامريكية، وكان الى جانب مارغريت تاتشر اهم رموز الليبرالية الجديدة.

لم يكن لدى أنجيلا ديفيس محامون بارزون من حركة الحقوق المدنية فقط، بل أتيحت لها فرصة المساهمة في الدفاع عن نفسها، بعد ان منحت صفة مستشارة لفريق الدفاع بناء على طلبه، لتتولي جزء من الدفاع في جلسة الافتتاح، حيث كشفت عن الخلفية العنصرية لـ لائحة الاتهام. في المحاكمة نفسها، وكشف محامو الدفاع عنهم الهياكل الهشة للادعاء.

انجيلا ديفيس، التي أصبحت في سن مبكرة، أحد رموز أمريكا السوداء والحركات المدنية والنسوية والحركات المناهضة للحرب، واجهت عقوبة الإعدام في غرفة الغاز. قالت في ردها على اتهامات الادعاء العام "رونالد ريغان وولاية كاليفورنيا، الذين طالبوا في البدء بالإفراج عني لأنني عضو في الحزب الشيوعي (وليس في حركة الفهود السود – المحرر)، يطالبون الآن بإعدامي وتساءلت: "لماذا؟ ليس لأنني مجرمة خطيرة، كما يريدون ان يجعلوني ، وليس لأن الاتهامات الباطلة التي تفتقر لاي دليل صحيحة، ولكن لأن  في خيالهم المريض لا يمكن للثوري، الا أن يكون اولا مجرمًا".

اسكات الاصوات

مثلما قال المدعي العام في نظام موسوليني في عام 1926 اثناء محاكمة زعيم الحزب الشيوعي الإيطالي أنطونيو غرامشي: "يجب منع هذا الدماغ من العمل لمدة عشرين عامًا". أراد حاكم الولاية ريغان طرد الأكاديمية الشابة من وظيفتها وإسكات صوتها بأي ثمن. وعندما لم ينجح في ذلك، لرفض ديفيس الخضوع للترهيب، وللتضامن الكبير في الجامعات معها، لجأ ريغان الى مكتب التحقيقات الفيدرالي، وإلى الطريقة المعروفة: التورط في جرائم جنائية، لإزاحتها من طريقه.

 كانت عملية إنقاذ السجناء في محكمة سان رافائيل، مفيدة لديفس، لأن حارسها الشخصي جوناثان جاكسون كان مشاركا فيها. التقى الشاب البالغ من العمر 17 عامًا بالرفيقة أنجيلا أثناء عمله مع السجناء السياسيين، وبضمنهم شقيقه الأكبر جورج جاكسون، وأراد حمايتها من تهديدات العنف المستمرة. انضم جورج إلى حزب الفهود السود أثناء وجوده في السجن وعمل مع آخرين تأسيس حركة للسجناء. عندما علمت ديفيس بعمل جوناثان لتحرير شقيقه، الذي فشل بسبب وحشية الشرطة، عرفت على الفور ما كان يضمر لها. اختفت لوضع خطة لمواجهة ما سيقدم عليه خصومها.

وضع مكتب التحقيقات الفدرالي اسمها على الفور على قائمة "العشرة المطلوبين" في البلاد وأطلق عملية ملاحقة غير مسبوقة. وعندما تم القبض على ديفيس في نيويورك في 13 تشرين الأول 1970، هنأ الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون شخصيًا مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي هوفر على القبض على "الإرهابية الخطيرة". مثل "العدو رقم 1 للدولة " جرى نقلها بعد فترة وجيزة من نيويورك إلى كاليفورنيا. مكبلة اليدين وتحت حراسة عشرات من منتسبي مكتب التحقيقات الفيدرالي، وبرفقة الادعاء العام. تم نقلها بواسطة طائرة عسكرية تابعة للحرس الوطني، وعند وصولها للمطار، رافقها المئات من منسبي وضباط الشرطة الى السجن.  يبدو ان الهدف من هذه الإجراءات المشددة، القريبة من أجواء الحرب الاهلية، كان تعويض نقص الأدلة والضغط من اجل الحاق اقصى العقوبات بها.

انتصار التضامن

في تلك الاثناء انطلقت حملات تضامن أممية مع انجيلا ديفيس، التي جاء اعتقالها وادانتها الوشيكة في وقت اضطراب اجتماعي كبير.  في الغرب، كانت للحركات الاجتماعية والنسوية وقوى اليسار السياسي دور  كبير في هذه الحملة.  وفي البلدان الاشتراكية تبنت الأحزاب الشيوعية الحاكمة واوساط اجتماعية واسعة التضامن مع المدافعة عن الحقوق المدنية في مواجهة زعيمة الامبريالية العالمية.

في بداية يونيو 1972، عندما اقتربت نهاية المحاكمة، نظم مؤتمر " مثال أنجيلا ديفيس" في فرانكفورت أم ماين الالمانية. حددت "لجنة تضامن مع أنجيلا ديفيس" توجه يقضي بان معركة تحرير انجيلا ديفيس، هي في الوقت نفسه لحظة نموذجية لتبيان حقيقية السياسة الامبريالية داخليا وخارجيا.

في مساهمتها المرسلة الى المؤتمر، وصفت ديفيس كيف غيّر التضامن الأممي مسار المحاكمات. في البدء كان المدعي العام متأكدا من كسب القضية، لكنه "احتاج إلى 49 يوما، و93 شاهداً و200 دليل" لتقديم شهادته، و فشل أمام هيئة المحلفين. من ناحية أخرى، احتاج فريق الدفاع إلى "ثلاثة أيام فقط واثني عشر شاهدا" لدحض الاتهامات.

قيمت ديفيس اتساع وتأثير التضامن الأممي لا ينحصر بقضيتها، بل أيضًا عبر عن مقاومة الحرب في فيتنام. وقد انعكس ذلك في رسالة التحية التي تلقتها في سجنها من وزيرة الخارجية في الحكومة الثورية المؤقتة لجنوب فيتنام حينها. وعندما تتذكر حملة التضامن معها، كما كتبت في مقدمة كتاب الدبلوماسي والصحفي الألماني الديمقراطي كلاوس شتاينيغر الصادر عام 2010: „أول ما يتبادر إلى الذهن هو مليون وردة من أطفال المدارس في ألمانيا الشرقية" التي تلقتها في أكياس. جعلها ذلك تدرك "مدى أهمية الحفاظ على الذاكرة التاريخية لما تمكنت البلدان الاشتراكية من تحقيقه". وهي تدين بحريتها "لتلك الحملات التي دعمتها حكومات البلدان الاشتراكية - من جمهورية ألمانيا الديمقراطية إلى اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية إلى كوبا - ومن قبل الأحزاب الشيوعية في جميع أنحاء العالم". وتضيف  "لدرء تدخل المصالح الرأسمالية في أكثر المجالات الحميمية في حياتنا وللنضال من أجل الحقوق الأساسية هنا في الولايات المتحدة الأمريكية" يتطلب التفكير في هذه الإنجازات.

لا تزال أنجيلا ديفيس المولودة في 26 كانون الثاني 1944، والتي تجاوزت الثامنة والسبعين من العمر، نشطة اليوم في معاداة الفاشية والعنصرية. وتحولت الى أحد رموز اليسار الماركسي الأمريكي والحركة النسوية، وحركة الدفاع عن السجناء، الى جانب مسيرتها الاكاديمية والعدد من الكتب التي أصدرتها، والتي ستصدرها.

*- نشرت اول مرة في العدد 155 من مجلة الشرارة النجفية

عرض مقالات: