يبدو ان الحرب في أوكرانيا تتحول بشكل متزايد الى حرب طويلة الأمد بين الغرب مجتمعا وروسيا على الأراضي الأوكرانية، وعلى حساب سكانها. وبموازاة ذلك تغيرت أهداف تزويد اوكرانيا بالأسلحة: من الدعم العسكري ضد العدوان إلى إضعاف دائم لروسيا وتغيير النظام فيها. وتجاوز جنون الصراع على الهيمنة ما كان غير معقول، فتصاعدت المطالبات الصريحة من مراكز قرار، وأحزاب يمنية تقليدية ومتطرفة، ومؤسسات إعلامية غربية، بمشاركة قوات الناتو المباشرة بالعمليات الحربية، ما يعني الدعوة لاندلاع حرب عالمية ثالثة، مصحوبة بدعوة مجنونة بعدم الخوف من حرب نووية.
منذ بدء الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية تباينت المواقف وردود الفعل، ليس بين المراكز العالمية والإقليمية المتصارعة او المتنافسة، ولكن حتى في أوساط قوى السلام والتقدم، التي ورغم رفضها الصريح للحرب، ودعوتها الصادقة للسلام، لا زالت أوساط منها تحاول ان تجد بها الشكل وذاك تبريرا، لما أقدم عليه الرئيس الروسي. ومع استمرار الحرب واتضاح تداعياتها تتوسع دائرة التبريرات ويتعمق التباين بين الفرقاء.
ان جوهر الموقف المتوازن المطلوب الى جانب رفض الحرب، أي حرب كوسيلة لحل الصراعات الدولية يجب ان يستند على طبيعة هذه الحرب، وليس فقط على الانعكاسات السياسية لها، والتي تختلف المراهنات عليها بين من يسعى من خلال نتائجها تحسين موقعه في ساحة التوازنات الدولية، وتضم هذه المجموعة أنظمة استبدادية لا علاقة لها بالديمقراطية والتحرر، ولكنها ترتدي ثوب معاداة الامبريالية زورا وبهتانا، سعيا منها لتضليل الملايين من الناس، وتوظيف مشاعرهم لاستمرارسلطتها، ولقطع الطريق امام أي بديل ديمقراطي تحرري ممكن. وبالإضافة الى ذلك هناك عدد من الشعوب المضطهدة التي لاقت وتلاقي الامرين، منذ عقود طويلة، جراء سياسات الحرب والاجتثاث ونهب خيراتها على ايدي الولايات المتحدة و حلفائها الغربيين وامتداداتهم الإقليمية.
وانطلاقا من ان الحرب الدائرة في أوكرانيا هي حرب بين مراكز رأسمالية (بلدان الناتو وروسيا بوتين) تتصارع على مواقع الهيمنة وتغيير خارطة التوازنات الدولية، ليس من اجل الشعوب المضطهدة، بل لتحسين مواقعها، واشباع غرور مستبديها واحلامهم بعودة الامبراطوريات السابقة.
ولهذا على قوى اليسار وانصار السلم والتقدم، الذين تنتابهم أوهام بشان السياسات الامبريالية التي تنتهجها روسيا الاتحادية، العودة الى بديهيات الأمور، فروسيا اليوم لا علاقة لها بالاتحاد السوفيتي الذي كان له القسط الأوفر بدحر النازية الألمانية والفاشية الإيطالية، وهي بلد رأسمالي خاضع لسلطة الأوليغارشية، التي يعمل نظام بوتين على تمثيلها بذهنية امبراطورية قومية، ولا يغير من الامر شيئا الفرق في التراكم والتجربة التاريخية بين جناحي الرأسمالية العالمية في غرب اوربا وشرقها ، فكلا النظامين من طينة واحدة يتصارعان من اجل المصالح والنفوذ، ويتباينان في الأساليب وشكلية الخطاب، وفق موقعهما في التوازنات التي تحكم العالم حتى اللحظة.
وهنا تشكل طبيعة الرأسمالية كنظام قائم على التنافس وتوظيف العنف، داخل المجتمع المعين، وتجاه البلدان الأقل تطورا، يشكل هذا النظام حاضنة مثالية لتطلعات هؤلاء. بالإضافة الى تصدير ازماته خارج الحدود، ويجري تعضيد ذلك بفكرة معالجة أزمات النظام الدورية، بواسطة الحروب الإقليمية والأهلية، لكي تظل ماكينة اقتصاد الحرب تدور. ومن المعروف ان ميادين هذه الحروب والاضطرابات هي البلدان الغنية بالثروات الطبيعية، والتي يمكن تحويل تنوعها القومي والطائفي الى كراهية، ولعل العراق من البلدان التي لا تزال تعيش تداعيات هذه السياسات.
يبدو ان هناك ضرورة للتذكير بمحطات عدوانية في تاريخ الولايات المتحدة وحلف الناتو من جهة، ومن جهة أخرى هناك ضرورة أيضا لتسليط الضوء على ذهنية الرئيس الروسي، وممارساته الفعلية.
عدوانية الغرب
شنت الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو حروبًا أكثر من أي دولة او تحالف عسكري آخر في التاريخ، وتبرر الولايات المتحدة عدوانيتها، بمقولة "اليد المنظمة"، التي بدونها سيقع العالم في أيدي قوى الظلام، سواء كانوا شيوعيين، او حركات تحرر، او إسلاميين ، أو أنواع أخرى من الإرهابيين. وهذه العدوانية مبنية أيضا على مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة"، أي توظيف "القوة الوقائية" عند الضرورة.
وعلى الرغم من انتهاء الحرب العالمية الثانية في اوربا، وانتفاء ضرورة استمرارها في منطقة المحيط الهادي، لم تتوانى الولايات المتحدة عن تجريب سلاحها النووي على اليابانيين مباشرة، فكانت جريمة هوروشيما وناكازاكي في يومي 6 و9 آب 1945 على التوالي. بلغ عدد القتلى والمصابين بالأمراض السرطانية في المدينتين حسب بعض التقديرات 150 – 245 ألف مواطن. وهذا عمل اجرامي امريكي لا يغيب عن ذاكرة الشعوب التاريخية.
وفي الخمسينيات بدأت سلسلة الحروب والانقلابات في بلدان أمريكا اللاتينية، إيران – مصدق، وفي الستينيات عاش العراقيون فضائع انقلاب 8 شباط 1963 الأسود، تبعته مجازر اندونيسيا ضد الشيوعيين والديمقراطيين. وتحتل "حرب فيتنام" (1965 – 1973)، التي دونت خلالها الولايات المتحدة أبشع صور القتل والتدمير. لقد كان مقياس "النجاح" الأمريكي عدد جثث الفيتناميين بعد كل معركة، ورأى الضباط الامريكيون في الشعب الفيتنامي بأكمله وحدة عسكرية اسمها "الفيتكونغ".
وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي والبلدان الاشتراكية في شرق اوربا، عملت الولايات المتحدة على ترسيخ فكرة العلم احادي القطب فكانت الحرب على يوغسلافيا عام 1993 وتفكيكها وابادة شعوبها وقتل مئات الآلاف من مواطنيها وتخريب مدنها وقراها. وحروب الإرهاب على أفغانستان والعراق. وما يعيشه العراقيون منذ قرابة 20 عاما، يمثل ادانة لتظافر جهود دكتاتورية صدام مع الغزاة في تكريس خراب تاريخي، ليس سهلا التنبؤ بنهايته. وحكاية الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وعودة طالبان الإرهابية الى السلطة لا تزال طرية في الاذهان. ان الحديث عن الديمقراطية وحقوق الانسان من قبل المراكز الرأسمالية يتبدل وفق أولويات المصالح الامبريالية وحركة مواقع المواجهة بينها.
والغربُ الأطلسيُّ، رغم التَّغيَّراتِ الدوليةِ الهائلةِ، مستمر، يتصرف بعجرفةٍ وعنجهيةٍ، ويواصلُ تقديم نفسِه بوصفِه " المجتمع الدوليّ". في حالة نفي عنصرية لملايين من البشر وعشرات من الدول والأنظمة السياسية على اختلاف طبيعتها. ولهذا تبقى المطالبة بتفكيك الناتو الإرث السيء من عقود الحرب الباردة ضرورة لا غنى عنها، وهو موقف لا ينحصر بقوى السلام والتقدم في العالم، بل ان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، رئيس فرنسا الليبرالية الجديدة، أعلن في عام 2019 أن الناتو „ميت سريريا''.
تبريرات بوتين واوهام البعض
لقد أعاد الغزو الروسي لأوكرانيا إحياء الناتو. والعديد من الدول المحايدة مثل السويد وفنلندا ودول أخرى بدأت تستعد لتقديم طلبات الانضمام الى صفوفه. وألمانيا التي رفضت قبل عامين زيادة ميزانيتها العسكرية على الرغم من ضغوط دونالد ترامب الوحشية، قررت بعد الغزو تخصيص 100 مليار يورو إضافية في إعادة التسلح. هذه مجرد أمثلة، لقد أوقف الغزو انحدار الناتو البطيء، وجعل حتى اختفائه امرا غير وارد في المدى المنظور.
طالما أراد بوتين حماية الأقليات الناطقة بالروسية في منطقة دونيتسك، و كان هناك نوع من العقلانية في سياساته. ونفس الشيء ينطبق عن معارضته لتوسع الناتو شرقا. لكن كل هذا لا يبرر غزو أوكرانيا، واستمرار قصف المدن، التي راح ضحيتها الآلاف من المدنيين، بينهم كبار السن والنساء والأطفال.
ما هي حجج بوتين لمحاولة إضفاء الشرعية على حربه على الشعب الأوكراني؟ " مكافحة النازية" في أوكرانيا، مبرر لا يمكن التعامل معه بذهنية أحادية، فثلما هناك أحزاب وجماعات نازية جديدة في أوكرانيا حصلت في الانتخابات الأخيرة على 3 في المائة فقط من الأصوات. هناك مجموعات مماثلة في روسيا. كيف يمكن لبوتين أن يدعي أنه مناهض للفاشية في حين أنه يدعم سياسيًا وماليًا العديد من الأحزاب الفاشية الجديدة في أوروبا، رابطة الشمال في إيطاليا بزعامة ماثيو سلفيني، التجمع الوطني في فرنسا بزعامة صديقة بوتين ماري لوبان. وعلاقاته الجيدة مع العديد من أحزاب اليمين المتطرف مثل "حزب البديل من اجل المانيا"، والرئيس الفاشي في البرازيل وغيرها الكثير. يحاول بعض المراهنين على بوتين وصف ذلك بتكتيكات سياسية، حجة أقبح من فعل صديقهم.
في الخطاب الذي ألقاه بوتين في 22 شباط 2022، رأى بوتين ان أوكرانيا "تم إنشاؤها بالكامل من قبل روسيا البلشفية والشيوعية"، لأن "لينين ورفاقه انتزعوا أوكرانيا من روسيا!“، وأضاف يجب أن نسميها "أوكرانيا لينين" لأنه، أي لينين كان "المؤسس والمهندس المعماري" لهذا البلد. لقد كان لينين هو من اخترع "الحق الكارثي للشعوب في تقرير المصير بما في ذلك حتى الانفصال، وهو أساس الدولة السوفيتية"، وهو تنازل سخيف للقوميين من مختلف الجمهوريات التي تشكلت بعد ثورة 1917. كان منح هذه الجمهوريات الحق في الانفصال عن الدولة الروسية، ووفقًا لبوتين، "جنونًا، شيئا غير مفهوم تمامًا"، تدميرا حقيقيا لـ "روسيا التاريخية" (أي روسيا القيصرية). أكد بوتين مخاطبًا قادة أوكرانيا: إنكم تتحدثون عن "الانفكاك عن الشيوعية" في أوكرانيا (أي الانفصال عن الماضي الشيوعي)، لكنكم توقفتم في منتصف الطريق. واختتم بوتين حديثه قائلاً: "سوف نقدم لكم انفكاكا حقيقيًا عن الشيوعية"، مشيرًا إلى مشروعه لإعادة دمج أوكرانيا - بالقوة، بالدولة الروسية.
هذا إذن هو "تبرير" لغزو أوكرانيا: الحجج المعادية للشيوعية واللينينية والطموح لاستعادة "روسيا التاريخية"، أي روسيا القيصرية، بضم أوكرانيا. وبالتالي ليس مصادفة أن الغالبية العظمى من الأحزاب الشيوعية واليسارية في العالم، على اختلاف قراءتها للتجربة الاشتراكية، قد أدانت الغزو الروسي لأوكرانيا، وبيانات هذه الأحزاب منشورة والكثير منها مترجم للعربية، طبعا هذا لا ينفي وجود أحزاب ترى في نظام بوتين "امتداد" للتجربة السوفيتية.
عندما نشير الى هذه الحقائق، لا يعني دعم النظام السياسي في أوكرانيا، الذي لا يختلف عن أي بلد ينتمي لمنظومة البلدان الرأسمالية، التي تنتمي اليها روسيا بوتين أيضا، فهذا النظام ليس ديمقراطيا، وقمع الأقلية الناطقة بالروسية، ولكن هل يبرر ذلك غزو ينتهك الشرعية الدولية، وينكر حق الشعب الأوكراني في الدفاع عن نفسه ضد الغزو الروسي لأراضيه، بازدراء صلف لحق الأمم في تقرير المصير.
اعتقد ان خيار اليسار الصحيح ليس صعبا عندما يجري التفاضل بين الشيوعية والبوتينية، بين فلاديمير إيليتش لينين، وفلاديمير بوتين، بين حق الشعوب في تقرير المصير وحق الإمبراطوريات في غزو البلدان الأخرى ومحاولة ضمها، اما من يريد الجمع بين الخيارين، فلن يكون في الموقع الصحيح ولا يقف على ارض صلبة.
وأخيرا فان الامل في تحرر الشعوب في أوروبا وروسيا والعالم من هيمنة الأوليغارشية الرأسمالية. لقد كان هذا هو مشروع ثوار أكتوبر 1917.
*- نشرت لأول مرة في العدد 154 /أيار 2022 من مجلة الشرارة النجفية