يشهد العديد من بلدان العالم حركات احتجاجية، قد تختلف في تفاصيلها الصغيرة، وفي التباين التاريخي والثقافي بين بلد وآخر، او قارة وأخرى، لكن قاسمها المشترك هو الترابط الواضح للعيان بين نضال الشعوب من اجل توفير حاجاتها الأساسية ومطالبها الاجتماعية وبين تغيير الأنظمة السياسية الحاضنة للقمع والاستبداد والسلطوية، والتبعية للمراكز الدولية والإقليمية المهيمنة والساعية لتأبيد سطوتها.
لقد كان رفع أجور النقل في تشيلي 30 بيزو (4 سنت) الفتيل الذي أشعل انتفاضة مستمرة ومتصاعدة منذ أكثر من أسبوعين. وفي لبنان كان المحرك المباشر فرض ضرائب إضافية على قطاع الاتصالات ومنتديات التواصل الاجتماعي. اما في العراق، فان انتفاضة تشرين المستمرة منذ 36 يوما، فقد جاءت محصلة التظاهرات واعتصامات قطاعية مستمرة منذ عام 2010. وكانت الشرارة التي أطلقت حركة السترات الصفر في فرنسا في العام الفائت، الضريبة المفروضة على الوقود. ويمكن القول ان الأسباب المباشرة لانطلاق الحركات الاحتجاجية تبدو محدودة، مقارنة بتطور مساراتها وتعمق محتواها والمآلات التي يمكن ان تنتهي اليها، فضلا عن تأثيراتها المستقبلية على الصراع الاجتماعي والسياسي في هذه البلدان.
والشعارات المرفوعة في هذه الاحتجاجات تعكس هويتها وجوهرها، ففي تشيلي كان الشعار" المشكلة ليس بـ 30 بيزو إضافية، المشكلة في 30 عاما"، إشارة الى كوارث الليبرالية الجديدة، والسياسات الموروثة من الدكتاتورية الفاشية، طيلة الثلاثين عاما الأخيرة، او الشعار الذي زين جدران احد المصارف: "انتم مديونون بحياتنا". وفي العراق فان أبرز شعارين: "نازل آخذ حقي"، و"نريد وطن".
والآن تنقلب المعادلة التقليدية، ليس الناس مطالبون بالسمع والطاعة للسلطة، او بتسديد القروض الى البنوك. ان الحياة المعتادة تنتفض، وتطالب بأشياء، لم تكن معروفة في السابق، وربما لا تحمل اسما بعينه. ولكن الواضح جدا، ان الامر يتعلق بما هو كلي، بعبارة أخرى لا يمكن استمرار ما هو قائم.
لقد بدا ذلك واضحا بعد الغاء الضرائب الجديدة، او التراجع عن رفع كلفة النقل، وكذلك استقالة حكومة، او القيام بتعديل وزاري، وكذلك مسلسل تقديم حزم "الإصلاحات". وبالنسبة للحركات الاحتجاجية لم يعد هذا كافيا، ففي تشيلي يحتاج الناس الى العيش بسلام، كما تقول احدى اغانيهم. وفي لبنان والعراق يبحث المنتفضون عن نظام بديل لنظام المحاصصة الطائفية – الاثنية المعشق حد النخاع بمافيات الفساد، وكما تقول احدى الناشطات في بيروت: "ان الحرب الاهلية انتهت الآن"، في إشارة منها الى الطابع الوطني للاحتجاجات في بلدها. وفي العراق تمثل العودة الى الهوية الوطنية المغيبة منذ عقود طويلة، صورة لانتفاضة الشبيبة المتصاعدة. وفي فرنسا رفضت الحركة الاحتجاجية طيلة شهور عروض الحوار الحكومية، ومحاولات الاحتواء السياسي.
والسؤال هل من المفيد ان نتحدث في الوقت ذاته عن الاحتجاجات في هذه البلدان الأربعة؟ قد يقول البعض ليس هناك تلاق برنامجي، او حتى مشتركات واضحة كما كان طابع احتجاجات الربيع العربي في عام 2011. ان المشترك المؤثر هو سيادة منطق الليبرالية الجديدة في المراكز الرأسمالية وفي بلدان الأطراف، فالمشاكل هنا متشابهة: الديون الأجور، ايجارات المساكن المرتفعة، الخدمات الصحية، ومشاكل قطاع التعليم ومشاكل أخرى، وبالنتيجة الناس ينتفضون ضد الكيفية التي يحكمون بها. ان الدولة والحكومة يشكلون جوهر المشكلة وليس الحل. فالدولة والحكومة لم يتراجعا عن عملية سياسة اقتصادية تترك الشعوب تحت رحمة الأسواق المنفلتة وما تنتجه من مافيات فساد وتسلط، في تداخل واضح بين سلطة السياسة والاقتصاد، مبني على الاستغلال والمصادرة، وإخضاع الشعوب وسحق ارادتها.
لذلك فالمشكلة الاجتماعية في جميع الانتفاضات ليس التوزيع او المصالح السياسية، بل تأتي الديمقراطية في المقدمة، التي لا ترفع كمطلب فقط، وانما تشكا محتوى وشكل الانتفاضات. لقد شهدت الاحتجاجات في تشيلي حضورا لافتا للمهاجرين وشهدت شوارع بيروت أناشيد واغان سورية وفلسطينية، وفي العراق شكلت ساحة التحرير وطنا صغيرا، بعيدا عن كل اشكال الانقسام. لقد دحض شارع الاحتجاج المخاوف من الغرباء ومن التغيير. ولا يمكن تصور ما حدث دون مساهمة النساء ومنظماتهن الفاعلة.