ثورة نوفمبر 1918 جعلت الأمر ممكنا: في 29 كانون الأول 1918 ، عقدت "عصبة سبارتاكوس" مؤتمراً وطنيا مغلقا في قاعة الاحتفالات بمجلس النواب البروسي في برلين، لاتخاذ قرار ذي أهمية تاريخية: الانفصال التنظيمي الكامل عن الحزب الديمقراطي الاجتماعي، والحزب الديمقراطي الاجتماعي المستقل في ألمانيا ، وتأسيس حزب مستقل. وصوت ثلاثة من المندوبين ضد قرار التأسيس، احدهم كان ليو يوغشس، الذي تولى قيادة "عصبة سبارتاكوس" ، بعد تصفية روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنشت، وفي الفترة التي شهدت ذروة الحرب مع السلطة. ولم يكن المعترضون يرفضون من حيث المبدأ قرار تأسيس الحزب الجديد، ولكنهم كانوا مقتنعين بخطأ التوقيت.
ولم يكن من البداهة ان يتخذ القرار بهذا الوضوح. فالموقف خلال ثورة الخريف في عام 1918 كان البقاء والتأثير من داخل الحزب الديمقراطي الاجتماعي، والحزب الديمقراطي الاجتماعي المستقل. وحتى في مؤتمرها السري في تشرين الأول كان الموقف التنظيمي للمنظمة، التي كانت تسمى حينها مجموعة سبارتاكوس، مبنياً على "استعادة الحزب من القاعدة". وحتى في الاجتماع العلني، الذي تمخض عن تشكيل "عصبة سبارتاكوس" لم يكن الانفصال مطروحا للنقاش. وروزا لوكسبورغ، التي اطلق سراحها في 10 تشرين الثاني 1918، وكانت تعيش في برلين، كتبت، بعد يوم من اطلاق سراحها، الى كلارا زتكن واسماء قيادية في الحزب الديمقراطي الاجتماعي المستقل تقول ان "الجماهير" تقف "على ارضيتنا". لقد كان هذا التقييم مفعما بالأمل، و بعيدا عن الواقع ايضا.
حدثان في منتصف كانون الأول دفعا في اتجاه تغيير الموقف: الأول فشل مشروع قرار قدمته روزا لوكسمبورغ الى الاجتماع العام للحزب الديمقراطي الاجتماعي المستقل في 15 كانون الاول، يدعو الى خروج الحزب من "لجنة الاستفتاء الشعبي"، والى رفض تأسيس "جمعية تأسيسية" ونقل السلطة الى مجالس العمال والجنود. فقد دعم هذا المشروع اقل من ثلث المندوبين. الثاني هو قرار مؤتمر مجالس الرايخ، المنعقد في 16 -21 كانون الأول، باكثرية الديمقراطيين الاجتماعيين، تأسيس جمعية وطنية، واضفاء الشرعية على الثورة. ولم تكن روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنشت مندوبين في المؤتمر، ولم يسمح لهما بالحديث خلال جلساته.
ولهذا قررت "عصبة سبارتاكوس" عقد مؤتمر وطني" لمناقشة الأزمة في الحزب الديمقراطي الاجتماعي المستقل وبرنامجه، والعلاقة المستقبلية مع الجمعية التاسيسية. وفي هذا المؤتمر في 29 كانون الأول منيت روزا لوكسمبورغ بهزيمة مصيرية. فقد ارادت تسمية الحزب الجديد، وباختلاف واضح مع البلاشفة الروس، الحزب الاشتراكي في المانيا، وليس الحزب الشيوعي . وكان ينبغي تأكيد ان التنظيم الجديد يختلف عن حزب الكادر الذي اسسه لينين، وينبغي ان يكون حزبا جماهيريا. ولكن اكثرية المندوبين صوتوا لمقترح فرتس هيكرتس: [الحزب الشيوعي في المانيا (عصبة سبارتاكوس)]. وقد كان ذلك فألا سيئا: حيث تحول الحزب الشيوعي في المانيا، بعد الاندماج مع الجناح اليساري في الحزب الديمقراطي الاجتماعي المستقل في عام 1920 الى حزب جماهيري، ولكن بفعل سيادة الستالينية في العشرينات، ولم يبقَ شيء يذكر من افكار روزا لوكسمبورغ.
لقد بدأ المؤتمر الفعلي لتأسيس الحزب في 30 كانون الاول 2018 . وشارك فيه 127 مندوبا وكان برئاسة فيلهلم بيك وياكوب فالشر، وتحدث فيه كارل ليبكنشت عن ازمة الحزب الديمقراطي الاجتماعي المستقل: "عندما نفترق اليوم" كما قال ليبكنشت، فيجب "تأسيس حزب جديد"، على النقيض من الحزب الاشتراكي الشكلي" الذي يعمل فقط على " ارباك الجماهير، ووفق ما تريده الطبقات الحاكمة". ولتمثيل قضية البروليتاريا ببطولة و"بعزم" و"بلا تراجع"، يحتاج المرء الى "برنامج واضح".
ونشرت روزا لوكسمبورغ في جريدة "الراية الحمراء" نص برنامج بعنوان: "ماذا تريد عصبة سبارتاكوس"؟ قدمته خلال المؤتمر كمشروع برنامج، وقد اقر بعد مناقشة قصيرة، وبعد ان ادخلت عليه تعديلات طفيفة. وفي كلمتها تناولت لوكسمبورغ بشكل أساسي العلاقة بين النضال البرلماني و"ثورة الشارع". وكان هناك جملة تقتبس اليوم باستمرار: نحن نعيش الآن" اللحظة التي يمكن ان نقول فيها: ها نحن ثانية مع ماركس وتحت رايته. وعندما نعلن اليوم برنامجنا: إن المهمة المباشرة للبروليتاريا ليست سوى (...) تحويل الاشتراكية إلى حقيقة وممارسة، والقضاء على الرأسمالية وبالجذور والثمار، فبهذا نقف على الارضية، التي وقف عليها ماركس وإنجلز في عام 1848 ".
ان دخول هذه الصياغة في مدفعية خطاب حزبي شيوعي، لا يمكن أن يخفي حقيقة أن أفكار لوكسمبورغ بشأن العلاقة بين "الشارع" والبرلمان تلقت في المؤتمرهزيمة ثانية بعيدة المدى: وعندما يتعلق الأمر بالاستراتيجية الملموسة تجاه الجمعية الوطنية، التي كان من المقرر انتخابها في 19 كانون الثاني (بعد اغتيالها وكارل ليبكنشت بعشرة ايام - المترجم)، أي بعد أقل من ثلاثة أسابيع من المؤتمر، لم تستطع فرض موقفها. وكانت قد كتبت في 23 كانون الأول في "الراية الحمراء" انه يجب "توظيف انتخابات الجمعية الوطنية للنضال ضدها". ولكن هذا يفترض الاشتراك في الانتخابات. وبهذا المعنى حاجج ايضا باول ليفي المقرب منها شخصيا وسياسيا. وقد عرض في المؤتمر، مصحوبًا بصيحات اعتراض، على الرغم من أن الجمعية الوطنية هي "القلعة" التي "تريد ان تبنيها الثورة المضادة لنفسها"، ولهذا السبب لا يمكن تجنب "المشاركة في هذه الانتخابات ومكافحتها بكل المرارة وكل الطاقة وسعادة النضال ". ولكن هذا ما رأته في المؤتمر، بشكل مختلف، اكثرية متطرفة في نهاية المطاف. وبالضد من توجه لوكسمبورغ وليبكنشت وليفي وغيرهم قرر المؤتمر عدم المشاركة في انتخابات الجمعية الوطنية.
كان هذا القرار الأساسي مدعوماً من قبل مندوبي الشيوعيين الاممين في ألمانيا - الذين كان لديهم 29 مندوبا- ولكن أيضًا من قبل مندوبي منظمة برلين للحزب الجديد. واستمر العمل به لبضعة اشهر فقط. اذ شهد مؤتمر الحزب في هايدلبيرغ، وبتأثير من ليفي اخراج المتطرفين اليساريين، الى حد كبير، من الحزب. ولم يلعب الحزب اي دور في الصراع حول جمهورية فايمر الناشئة،. وبالتالي صح موقف باول ليفي في المؤتمر: " بقراركم هذا (ضد المشاركة في الجمعية الوطنية)، الحقتم الضرر الأكبر بانفسكم وبحركتنا".
وتلقى كارل ليبكنشت في المؤتمر الذي كان آخر تجمع سياسي كبير في حياته، هزيمة اخرى: فقد تم تمديد المؤتمر الذي كان من المقرر ان ينتهي في 31 كانون الأول 1918 يوما واحدا، لكسب "المنسقين الثوريين"، وفق رؤية ليبكنشت، لضمهم الى صفوف الحزب وتوسيع قاعدته. ولكن المفاوضات فشلت بسبب عدم رغبة الأغلبية في اتخاذ موقف سياسي حقيقي بشأن مسألة الجمعية الوطنية.
ولم ينعكس عدم نضج تجربة الحزب الجديد في قرارات مؤتمر تأسيس الحزب فقط، فبعد أيام خُدع ليبكنشت وغيره من قياديي الحزب بالاحتجاجات الجماهيرية العفوية وغير المنظمة في برلين. وبالضد من تحذيرات روزا لوكسمبورغ، اعتبروا وقت "الإطاحة الثورية" بحكومة "الثورة" المكروهة في عهد فريدريش إيبرت وفيليب شيدمان. وبعد أيام قلائل، تمت تصفية روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنخت.
قد يبدو السؤال الآن غير عملي، ولكنه يطرح نفسه في سياق المراجعة التاريخية: هل كان سيكون مسار التاريخ الالماني مختلفا، لو كان مؤتمر تأسيس الحزب الشيوعي في المانيا توصل الى نتائج اخرى؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* جريدة "نويزدويجلاند" 29/ 12 / 2018.
** رولاند فريدمان: تولد 1956، دكتوراه في تاريخ وعلوم امريكا اللاتينية، عضو مجلس متحدثي لجنة التاريخ في حزب اليسار الالماني.

عرض مقالات: