رشيد غويلب

من المقرر ان تكون العاصمة الالمانية برلين قد شهدت صباح اليوم المسيرة السنوية التي تنظمها قوى اليسار االجذري في المانيا، استذكاراً لجريمة اغتيال قائدي الحزب الشيوعي الألماني ومؤسسيه روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنشت، والعشرات من رفاقهما. وتكتسب مسيرة هذا العام اهمية استثنائية، لكونها الفعالية الرئيسة الأولى في عام مئوية استشهادهما. ففي الخامس عشر من كانون الثاني عام 1919 قامت الوحدات الخاصة اليمينية، وفي خضم مجريات "ثورة نوفمبر" الألمانية، باعتقالهما وتعذيبهما بوحشية وتصفيتهما.
في ذلك اليوم، وعلى اثر وشاية خبيثة، اقتحمت وحدة عسكرية المسكن رقم 43 في شارع مانهايم في حي فيلمرسدوف البرليني، حيث كانت تختفي روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنشت، وقامت باعتقالهما، مثلما كان يحدث غالبا في حياتهما. وفي فندق "ايدن"، الذي تحول الى مقر لفوج حرس سلاح الفرسان، جرى تعذيبهما واستجوابهما وقتلهما.
وفي اليوم التالي نشرت الصحف خبراً كاذباً يزعم انه " تم قتل كارل اثناء محاولته الهرب- فيما داست الحشود الغاضبة روزا وسحقتها".
وسبقت جريمة القتل العمد هذه حملة ملصقات غطت شوارع برلين، ومّولتها رابطة معاداة البلشفية، التي كانت تضم كبار رجال الأعمال "اضربوا قادتهم حتى الموت" و "اقتلوا كارل ليبكنشت". ووضعت مكافأة قدرها 50 الف مارك لمن يجهز على القادة الثوريين.

مشتركات نضالية وشخصية عديدة

لم يوحد روزا وكارل الموقف والمصير فقط. فقد ولدا في نفس العام، عام كومونة باريس. وفي نفس العام ولد ايضا فردريش ابرت، قاتلهما.
ولدت روزا في 5 آذار 1871 في مدينة زامو في بولندا التي كانت تحتلها روسيا القيصرية. وكانت الطفل الخامس لتاجر الاخشاب الياس وزوجته لينا. وولد كارل في 13 آب من نفس العام في مدينة لايبزغ الالمانية، وهو الابن الثاني لاحد مؤسسي الديمقراطية الاجتماعية الالمانية فيلهلم ليبكنشت، وزوجته ناتالي. وليس غريبا ان يكون شهود ولادته كارل ماركس وفردريك انجلس.
وقد اصيبت روزا بعاهة منذ عامها الخامس، نتيجة علاج خاطئ للآلام في الورك، وبقيت طريحة الفراش، وتعلمت بنفسها القراءة والكتابة. وقد كتبت والدتها بفخر: " ان روزا أذكى منا جميعاً".
وفي سن 18 عاما كان عليها الرحيل الى سويسرا هربا من شرطة القيصر السرية. وفي زيورخ درست الاقتصاد، وارتبطت حتى عام 1906 بعلاقة حب متميزة بـابن العائلة الثرية" ليو يوغيش هوتسبورن"، الذي ظل رفيقا وفيا لها. وكان اول من اكتشف، في شباط 1919 تفاصيل القتل المزدوج لروزا وكارل، قبل ان يتم اغتياله هو ايضاً في آذار من نفس العام.
اكتسبت روزا الكثير من الخبرة السياسية، وشاركت في تأسيس الحركة الديمقراطية الاجتماعية البولندية، وتعرفت على رموز الحركة في المانيا إدوارد برنشتاين، وكارل كاوتسكي، وفيكتور أدلر، ووفلهلم ليبكنشت، ودخلت في صراعات معهم وقد نحتت اسمها بعمق، وخلقت لها الكثير من الاصدقاء والاعداء.
عندما دخل رفيقها كارل ليبكنشت ساحة النضال في سن 29 عاما انتمى الى حزب ابيه، ليساهم في حماية الحزب من محاولة برنشتاين احتوائه، وحصل بسرعة على مقعد برلماني، وظفه لمناهضة العسكرة والرأسمالية بشدة وبلا رتوش. وكما فعلت روزا، ازعج كارل "المشاكس" جيل الآباء، او كما تذمر برنشتاين: "ان أبرز سماته حتى الآن هو أنه وريث رجل عظيم".
وبقناعة ورغبة عارمة دافع المحامي الشاب عن الملاحقين سياسيا. واصبح مكتبه العنوان الاول للمهاجرين الروس، وبوقت قصير اصبح عارفا بما يدور في اروقة القيصرية الروسية. وفي عام 1904 نجح وزميله هيغو هاسة، في محاكمة مذهلة، بتبرئة 7 من المعتقلين اليساريين، اتهمو بتنظيم "تجمع سري" مزعوم و "إهانة القيصر". وفي العام التالي اسرعت روزا وليو ورفاق آخرون بالعودة الى وارشو، ليكونوا قريبين من احداث ثورة 1905 الروسية. وقد تضامنت بعد ثورة اكتوبر بشدة مع البلاشفة، على الرغم من نقدها للمركزية الشديدة، ونموذج الحزب اللينيني.
عندما بدأت روزا في عام 907 محاضراتها في مدرسة الحزب الديمقراطي الاجتماعي العليا، كان كارل يواجه الاصوات الداعمة للحرب، وقداصطدم بغوستاف نوسكه، الذي اصبح لاحقا وزيرا للحرب والمسؤول المباشر عن قتله، كذلك خاض صراعا حادا مع المنظر والقيادي الشهير اوغست بيبل.
لم تكن اجتماعات الحزب وفعالياته التنظيمية ومؤتمراته وحدها، ساحة لروزا وكارل، للتحذير من حريق الحرب الذي يهدد العالم فقد عرفت المدن والارياف قدراتهما الخطابية ومشاعرهما ووعيهما العميق في مواجهة دعاة الحروب على اختلاف مشاربهم الفكرية. وفي 14 آب 1914 كان كارل الصوت البرلماني الوحيد الذي رفض الموافقة على قروض الحرب. وعلى الرغم من ان روزا وكارل عانيا بشدة من القضاء الطبقي، الا انهما استمرا في نضالهما وجدالهما مع الخصوم والمقربين من اجل السلام والثورة، لقد تمتعا بجرأة متناهية، ولم يهزما ابداً.

ثورة وشهداء

في تشرين الثاني 1918، اندلعت الثورة الألمانية، وأطلق الثوار سراح روزا لوكسمبورغ من زنزانتها. لقد اطاحت حركة العمال والجنود بالنظام القيصري الذي استمر قرونا، خلال فترة قصيرة جدا. ولم تتم الاطاحة بالقيصر فيلهلم الثاني فقط، بل بجميع الملوك والامراء البالغ عددهم 22، والذين كانوا يشكلون قمة النظام القيصري. ووضعت الثورة الأساس لبداية ديمقراطية جديدة. وبعد أيام معدودة فرضت الاحتجاجات الجماهيرية وقف إطلاق النار، وانهت بذلك القتل الجماعي الذي استمر طيلة سنوات الحرب العالمية الأولى. لقد وفرت الانتفاضة امكانية كنس النظام القديم، وبناء بديل ديمقراطي اشتراكي يستند الى ارادة الجماهير، مثلما ارادت له روزا لوكسمبورغ ان يكون.

الثورة المضادة

ولقد اختارت القيادة اليمينية للحزب الديمقراطي الاجتماعي بزعامة فردريش ابرت التحالف مع قوى النظام القديم، والوحدات الضاربة والأكثر رجعية في الجيش القيصري، بدلا من الانضمام الى معسكر الثورة ودعم مجالس العمال والجنود في ميونخ وبريمن وكيل، والاستمرار في تجذير الثورة في العاصمة برلين. ولم يتردد وزير الحرب الديمقراطي الاجتماعي غوستاف نوسكه في اعطاء الضوء الاخضر لسلاح الفرسان لقتل الآلاف من العمال والجنود.
ولم يكن قرار تصفية القادة الثوريين ومؤسسي الحزب الشيوعي الالماني مرتبطاً فقط بمسار الاحتجاجات العفوية التي اجتاحت المدن الالمانية، ولا بالمعلومات غير الدقيقة والتسرع والقراءة الخاطئة للاحداث التي حذرت روزا لوكسمبورغ من الانسياق وراءها. لقد تشكل تحالف من الراسماليين والوحدات العسكرية الأكثر رجعية، والجناح اليميني في الحركة العمالية، لايقاف المسيرة الثورية، وللقيام بابادة جسدية لرموزها، وحرمان الحزب الشيوعي الالماني حديث التأسيس من ابرز قادته ومفكريه، وهو ما انعكس عمليا في الافتقار للخبرة والتجربة الثوريين في التعامل مع الاحداث اللاحقة، رغم امتلاك الحزب جماهيرية غير مسبوقة.
في 15 كانون الثاني 1919 تمت تصفية كارل ليبكنشت وروزا لوكسبورغ، وفي حين تم تسليم جثمان كارل ليبكنشت الى عائلته، جرى إلقاء جثمان روزا لوكسمبورغ في "قناة الجيش" ولم يتم العثور على الجثمان والتعرف عليه الا بعد عدة شهور.
لقد شكلت الوحدات العسكرية التي نفذت جريمة قتل روزا وكارل ورفاقهما، النواة الصلبة والقيادة لقوات العاصفة النازية، التي ارادت ابادة كل ما هو انساني وتقدمي في المانيا والعالم. وكان الديمقراطيون الاجتماعيون الذين مكنوا هؤلاء من احتلال مواقع متقدمة في النظام السياسي والمؤسسات الامنية والعسكرية، من ضمن ضحاياهم و في سنوات 1933 – 1945 ومن نزلاء معسكرات الاعتقال النازية.

تشييع مهيب

في 25 كانون الثاني 1919 تم تشييع ودفن كارل ليبكنشت و30 شهيدا آخر في مقبرة حي فردريش فيلده البرليني، والتي سميت لاحقا بمقبرة الاشتراكيين. وكان موكب التشييع مهيبا شارك فيه مئات الآلاف وامتد من ساحة الكسندر وسط برلين الى الساحة التي كانت تسمى ساحة بلوف، حيث اشترى الحزب الشيوعي بعد 8 سنوات بناية مقره المركزي واطلق اسم كارل ليبكنشت عليه. ولا يزال المقر المركزي لحزب اليسار الالماني حاليا يحمل نفس التسمية.
في اول حزيران 1919 عثر على جثة روزا لوكسمبورغ قرب احدى بوابات قناة الجيش بالقرب من احد الجسور. وكانت مهمة التعرف على الجثة محزنة وصعبة لرفيقة روزا وسكرتيرتها ماتلدا ياكوب، التي تعرفت على الجثة من خلال الفستان الذي ترتديه، ومن مدالية كانت لصيقة بها. وبعد التشييع المهيب تم دفنها الى جواررفيقها كارل ليبكنشت.

آخر الكلمات

في الليلة التي سبقت استشهادهما، وفي مخبئهما السري المشترك كتب الشهيدان مقالتين نشرتا في اليوم التالي في جريدة الحزب الشيوعي الالماني "الراية الحمراء". تضمنت المقالتان عرضا للحصيلة المرة لنضالات الايام السابقة، ولكنهما كانتا مليئتين بالاصرار والتفاؤل الثوريين.
كتب كارل ليبكنشت:" لقد تمت هزيمة السبارتوكوسيين، [ ...] نعم تمت هزيمة عمال برلين الثوريين! وذبح المئات من افضلهم! والقي في السجن بالمئات من اوثقهم! [ ..] لكننا نحن لن نهرب ولم ننهزم [ ..] نحن هنا وسنبقى! والنصر سيكون نصيبنا. [ ..] واذا قدر لنا ان نعيش، فسيكون برنامجنا هو المهيمن على البشرية المستعادة. على الرغم من كل شيء".
اما روزا لوكسمبورغ فقد كتبت تقول: " لقد فشلت القيادة، ولكن القيادة يمكن ويجب تشكيلها مجددا من قبل الجماهير ومن اوساطهم. الجماهير هي العامل الحاسم، فهي الصخرة التي يبنى عليها النصر النهائي للثورة. [ ..] ان النظام يسود في برلين! ايها التوابع المملون ان "نظامكم" مبني على الرمال. ان الثورة ستصل غدا ذروتها بسرعة، ولرعبكم ستعزف الابواق.