يزخر ألأدب الشعبي العراقي بألوان متميزة في نكهتها وأنغامها وتعابيرها، وهي لا تبعد كثيرا عن الواقع المأزوم الذي يعيشه الانسان في ظل الحرمان والتمايز الاجتماعي والتفاوت الطبقي. والأبوذية واحدة من تلك الالوان التي تشكل باقة ورد ملونة في معرض التراث الشعبي العراقي الاصيل. كذلك العتابة فهي لون غنائي تميزت به رقعة جغرافية في وطننا الكريم، ومارسته وتغنت به جمهرة من شعراء المنطقة الشمالية والغربية من بلادنا.
والأبوذية مشحونة بالحس الانساني الزاخر بالقيم النبيلة والمعبرة عن المشاعر بأنواعها، ولذلك قال الشاعر:
لبسنه الراهي احنه والنظيفه .... وأخذ جرح من اهلنه والنه ضيفه
اليماشينه نبختـــــه والنظيفه .... أبـــد مـــا نلثك فراشـــــــه برديه
او كما قال الشاعر محيبس الهليجي :
شلي بل مــا يحـــب اعضــــاه شلي... الترس شلته ومشه وما ترس شلي
فتـكــه خيطيتــــه وفتـــك شــــــــلي.. شلت حمـــله وي حملي وخان بيه
هذا هو الأبوذية ، معاناة ولوعة ومشاعر فياضة .
أما السيد عامر رشيد السامرائي فينحو منحى يبدو غريبا على هذا اللون الذي تجيده الفطرة والقريحة والمعاناة ،وهو يعبر عن الهم الانساني بمختلف تنوعاته وتجلياته، ويقول السامرائي في كتابه “ اسطورة عبد الله الفاضل ومقالات اخرى”، وهو يحاول ان يعقد مقارنة بين العتابة والأبوذية ، فيشير الى أنهما متشابهان من ناحية النظم والجناس ، لكنه يقول أن ( القارئ لنصوص كثيرة من الأبوذية ومن العتابة يحس بوجود فرق كبير بينهما يتجاوز الحدود الشكلية والظاهرية ، انه فرق قد يعين على تفهم نفسية الشعب ويقودنا الى الوصول الى وجود نفسيتين مختلفتين ، واستبعادا للاستطراد أسرع فأقول :أن الأبوذية رمز للذل والانسحاق والتلذذ بالألم، انها حافلة بالبكاء والشكوى بصورة تدل على أن صاحبها ممن يسكنون الى الذل ويستطيبونه). ان هذا الرأي يشير الى ان الكاتب يحاول ان يزرع الانقسام في مجتمع عراقي ملون وموحد وليس منقسم، المجتمع العراق من شماله الى جنوبه مجتمع له مشتركات لا حصر لها، رغم وجود بعض العوارض الجانبية والتي لا تشكل انقساما او مفصلا للعزل بين اهل الجنوب والوسط واهل الغربية الذين يرددون العتابة في مناسبات مختلفة. ثم أن السامرائي يتحدث عن العتابة فيقول (أما العتابة فانها أقرب الى شعر الحماسة، ألألم فيها رجولي لا يسحق صاحبه، انما يصهره ويبلوره، والبكاء فيها، ان وجد، ليس كبكاء النائحات، بل هو ترقرق دمع يكتمه صاحبه حياء وكبرا شأن الرجال). 1
ويقول (على الخاقاني) في موسوعته عن الادب الشعبي وفي الحلقة السابعة، أن (العتابة من الشعر الذي اختص به عرب شمال العراق وغربه، وشاعت في أوساطهم شيوع “ الأبوذية “ في وسطه وجنوبه، وأن اسمها جاء من قعود هؤلاء المغنين الفقراء على عتبات الدور). 2
ويؤكد الباحثون في التراث الشعبي العراقي أن العتابة أقدم من الأبوذية لأنها تمثل نظرة المجتمع البدوي المعروف بانتمائه القبلي وحرصه الشديد على عادات الغزو والاسر والثأر والعادات الاخرى التي يعرفها اهل البادية. أما الأبوذية فقد نشأت بعد أن استقرت القبائل العربية ومارست النشاط الزراعي والتجاري والصناعي. ويذكر الدكتور علي حداد، أن فن العتابة قد استوقف الاب انستاس ماري الكرملي فقال عنه ( من غناء سكان نهر دجلة ،والكلمة مشتقة من العتاب ،وهي من مبتكرات عشيرة الجبور ،وأشهر الناظمين بها حمادي الجاسم من عشيرة الجبور والثاني عبد الله الفاضل من شيوخ عنزة احدى القبائل العربية في البادية )./ 3
العتابة ونماذج منها:
هلي عز النزيل وعــــز منزال ..... ولهم دومن ع الــدربين منزال
هلي اعشوبهم نبتت من الزال .... خضر ما يبسو بــارح هــــــوا
هلك شالوا علامك تون يا شير .... وخلولك اعظام السبع يا شير
يلو تبجي بكل الدمع يا شير ..... هلك شالوا على حمص وحما
وهنا يوضح لنا أن العتابة هي شعر العتب والفخر وشعر البادية.
أما الأبوذية فهي شعر الحزن الشفيف وليس الحزن الذليل، والمعاناة مع الواقع المتردي والتفاوت الطبقي والاستغلال متعدد الاشكال، ولا يوجد انسحاق او اذلال او نواح المكسور والذليل، بل أن النواح جزء من شعور الكبت والحرمان والظلم الاجتماعي الواضح. اليكم هذا البيت من الأبوذية ويعود للشاعر لفته عبد النبي الخزرجي، من كتاب (الأبوذية في التراث الشعبي العراقي) للباحث لفته عبد النبي الخزرجي، ونقرأ فيه:
الجرح جم دوب أضمدنه وألم بيه .... بسبب ينزف على شوكك وألم بيه
زماني كون الــــــــزمنه وألم بيه .... وأنشده بيــــــا سبب محرب عليه
او كما قال محيبس العلوان :
يكلولي تهم شــــــــلون مـــــاهم .... وأنه تعبــــــان حتى الجــدم ماهم
أجي للــــــدار أطب للــــدار ماهم .... أحبابي أشـــلون ما أنصب عزيه
وهذا كما نعتقد من افضل انواع الشعر لانه يتحدث وينقل هم الانسان ومعاناته والضيم الذي يلاحقه، بسبب العادات والتقاليد المتردية والبالية، وأسباب اخرى كثيرة تدفع الشاعر للتعبير عن همومه وأحزانه وضياع احلامه.
حلات الرجل كرمه ابغير منه .... راهي اشما تخرصه ايزيد منه
عدوه ايميح يوم الصدك منه .... أسد مــــــــا يرتفع بالموزميه
وهو لنفس الشاعر محيبس العلوان وهو من شعراء الاحواز . او كما قال الآخر:
نفــوس النه على العليا تجدنه ....ونـــار الحرب لو وجت تجدنه
يضيف اجبل على حينه تجدنه .. ضيوف احنه وتصير ابن الثنيه
وهذا ايضا من شعر الحماسة والفخر والتحدي والمواجهة والمطاولة وليس فيه ما يشير الى الانسحاق والمسكنة والذل ابدا ، والشاعر هو ابن المحيط والبيئة التي يمارس حياته فيها ، ويستلهم من خلال تلك البيئة شعره ونظمه ويعبر عنها بأبيات من الأبوذية او القصائد او العتابة او الموال او غيرها ، الخلاصة ان الشعر بكل تلاوينه وأنواعه وأشكاله ، تعبير واجتراح لمعاناة الناس المكتوين بالظلم والحرمان والكبت والتفاوت الاجتماعي .
أما ان ابن الجنوب يستطيب الذل ويستكين للظلم فهذا ليس له مكان عند أهل الوسط والجنوب ابدا، كما ليس له مكان عند أهل العراق في مختلف محافظاته، فقد كانت لهم مواقف مشهودة في ثورة العشرين الخالدة، كما شهدت السنوات الاخيرة ثباتهم في ساحات الاحتجاج والتظاهر لاشهر وسنوات.
وختاما هذا البيت من الأبوذية فيه من التحدي والصبر والقدرة على التحمل الشئ الكثير:
الكلفه على العراقي دوم ذبها .... غيور وعل المنايه النفس ذبها
ما يرهب غــــدر وارهاب ذبها .... جسور وشيمته صاحب حميه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1)
عامر رشيد السامرائي / أسطورة عبد الله الفاضل ومقالات اخرى .
2)
الدكتور علي حداد / جمر أخضر
3)
نفس المصدر