تمر هذه الايام الذكرى العاشرة لرحيل الفنان العراقي رحمن الجابري لتنكسر ريشة فنان مبدع وللابد، طيلة حياته الفنية كان يفكر بصوت مسموع، يعادي الحروب بغضب مندلع من وجدانه وحساسيته، ووضعه الفاشيست اكثر من مرة على قائمة القتل لانه كان فنانا حرا ومبدعا ومنحازا الى قضايا شعبه المكافح من اجل الديمقراطية في وطن بلا حروب .

النظرة المتمعنة في لوحات رحمن الجابري تدفعنا الى قراءة جديدة للعوالم التي تشيدها. قراءة تذهب نحو أعماق اللوحة وعلاقات عناصرها ببعضها، اذ نرى ان المرجعية في معظم أعماله، وعلى امتداد اكثر من ثلاثين عاما، ليست تراثية فحسب، بل واقعية وراهنة تنتمي الى العصر الذي نعيشه، كما انها تكشف عن البعد الانساني. فهو يسعى الى توظيف العناصر المألوفة ليمنحها روحا طازجة ونكهة حديثة.

 عند  تقصي مسيرة هذا الفنان ضمن مسيرة الخطاب التشكيلي العراقي المعاصر، نلاحظ سعيه للاختلاف والتغاير مع نزعات فنية متنوعة اجتهدت لاستثمار كل نتاجات الفن الغربي منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي وحتى يومنا الحاض. فرحمن، كغيره من العديد من الفنانين العراقيين في بلاد المهجر، صار غريبا ولاجئا ثقافيا في بلد بعيد ومقتلعا من جذور بلاده. ثري الروح والرؤى، يتجه على الدوام صوب الحنين الى بلاده ليهب هذا النزع الحنيني لوحات تغويها خطوط الحزن بعمق قلق يقتاده على سطوح لوحاته ليصبح واحدا من عناصر توتره الخلاق وليجعل من نفسه رائيا شعريا مغتربا. انه مسكون بهاجس الزمن وبأنواع التلف التي يحملها الزمن وصنوف العسر التي يحاول طيلة حياته تطويعها بلغة مألوفة يخف بها اللون في احيان كثيرة إلا انها لا تخلو من الدهشة. ضروب الحب والعذاب والجنون بدينامية لا تخلو  من عوائق ومصاعب تحملها لوحاته وسط واقع يلفه ضباب تنبثق فيه أشكال حلمه على شكل لوحات تقول للجميع بأننا موجودون وان قلوبنا لازالت تنبض، وان أجسادنا لم يصبها التحجر بعد، مع اننا لازلنا نسير في مواجهة رياح قاسية تزداد بردا وعنفا.

انخراط رحمن الجابري في صلب الحركة الثقافية العراقية في فترة السبعينات ، أهله لامتلاك القدرة على المناورة الثقافية المبكرة، وفتح له الأبواب لرؤية خلاصة الثقافة العالمية والجهد الإنساني الذي يمتد الى أعماق الحضارات العريقة الأخرى، وهذا منحه القدرة على استيعاب أساليب المدارس التقليدية ومفاهيم الرسم السائدة، إضافة الى الرغبة في التغيير لكي يجد في رسم انفعالاته الذاتية حريته التي تساهم بعد ذلك في خلق أجواء التفاعل بين ما هو ذاتي  وبين التجارب الجديدة الاتجاهات الفنية العالمية. وقد انعكست هذه الرغبة مباشرة بعد فترة وجيزة على مغادرته الوطن في نهاية السبعينات، ليحط رحاله في مدينة فلورنسا الإيطالية، عاصمة عصر النهضة التي تضج بالحياة وتزدحم بالفنانين من جميع أنحاء العالم إضافة الى مجموعة من الفنانين العراقيين الشباب، مدينة تزدحم بها العروض وقاعات الفن بمختلف الأنشطة كانت بالنسبة له بمثابة الحلم، وكانت أيضا البوابة العصية على العراقي القادم بجلده من الخارج يريد اقتحامها برزقه وفنه. فلجأ الى مواصلة إبداعه ليحول غربته الى مؤثر خارجي يقترب من انفعالاته وليوظف المؤثرات الجديدة بتعامل جريء انعكس على العديد من الأعمال الصغيرة والتخطيطات التي انصبت في بداية الأمر على عدد من المبادرات التجريبية، الا انه كان يعي ضرورة إنشاء لوحة تحاكي ما يختزن بداخله، فقرر ان تكون خطواته غير متعثرة وهو ينظر الى واحدة من مآسي عصره، وان يكون بتوجهه هذا بعيدا عن التلقائية التي تكون في معظم الأحيان قادرة على طمسه في التفصيلات  كما هو الحال عند عدد من زملائه العراقيين الذين عاشوا تجربة المهجر.

كل هذامساعده على صقل توازنه. وفي مرحلة لاحقة دفعه موضوع تهجير الأكراد الفيليين العراقيين ليعبّر فيه عن تشكيلات تحمل ذاكرة شعب يجبر على الاقتلاع عن أرضه. و لم تكن التجربة الأولى، فقد سبقتها تجارب عاطفية  مثيرة ومقلقة.

بدأ الجابري رساما واقعيا ذو مقدرة متميزة في ضبط نسبة الشكل وتشريحه ومحاكاته لواقعه الفعلي ، وكان متمسكا بضوابط هذا الاتجاه الواقعي منذ بدايات عمله كمصمم ورسام صحفي في احدى الصحف اليسارية العراقية في بداية السبعينات من القرن الماضي، حيث ربطته  هذه التجربة بالحبل السري الذي يربط الفن ببعض التماثل مع المنظر الواقعي الذي كان يعيشه الإنسان العراقي، وتعاطف بشغف مع كل المضطهدين معلنا عدائه الخفي للمجتمع الرسمي واصحاب السلطة، كما أكسبته هذه التجربة القدرة على فهم كيفية ارتباط الفن بالنظرة العلمية وارتباط ذلك بالواقعية والاستخدام المثير للصورة الإنسانية في الفن. وحملت تلك السنوات أيضا تأثيرها في واقعية تميزت بضربات لونية منفعلة متحركة وخطوط متموجة متكسرة تعبر عن حس داخلي عميق وعن آلام نفسية حادة عكستها طبيعة المرحلة السياسية القلقة والمضطربة التي كان يعيشها المجتمع آنذاك.

 وجد رحمن نفسه محاطا بتشكيلات شعبية من البسط والفخاريات والرسوم التي كانت تنجز من قبل حرفيين وصناع مهرة بتوظيف رموز الحكايا الشعبية ومدلولاتها الفكرية، حيث بدأت تدخل هذه المفردات التشكيلية في تخطيطاته اليومية للموضوعات الصحفية كالقصص والقصائد الشعرية، فكانت تلك التجربة بمثابة نافذة ضيقة بوسعها التقاط ما يتيسر من الحقل المتموج في عالم الفن الذي كان يحلم بتحقيقه.

كغيره من جيل الستينات، كان قراره ان يقطع طريق الفن بشوطه البعيد والعسير، فكانت له محاولات ينغمر فيها في التجريب والتعبير عن الكوارث وضياع الأحلام والاكتئاب، تتوجت اخيرا بالهرب الى الخارج للبداية من الصفر ومحاولة بناء ما تهدم.

الألوان الغنية الزاهية المضيئة والمتقاطعة، والخطوط ذات الطابع الرقشي ، والاهتمام بالوسائل التعبيرية ، واستنباط أشكال فنية جديدة، هي لغة رحمن في تجربات عشقه للمرأة التي مثلتها مجموعة من الأعمال الفنية تتخطى حدث الحب العرضي في حياته لتعكس واقع المرأة وجمالها الإنساني اللامحدود، وتعكس من جانب آخر حبه للناس ببصيرة واقعية عميقة.

عرض مقالات: