كلما بلغ التكاثف السكاني، في المدن والحضارات بعامة، حدا معينا وكلما تزايد تنقل الناس وكثرت تحركاتهم نجد انه قد توفرت شروط انتشار الاوبئة القادرة على ان تصيب اقصى عدد من الافراد في ادنى الاوقات. ومن اشهر الاوبئة شهرة محزنة، من دون شك ولا خلاف، هي الطواعين. فالطاعون يضرب باصوله في التاريخ القديم وبفعل قوته المدمرة والمخربة فقد صار في المخيال الجماعي يدعى بـ "الموت الاسود"وهو الوباء الذي صاحب الانسانية لعدة قرون ولاجل هذه العلة غالبا ما نجده في الاعمال الادبية والفنية الكبيرة. واقدم الاوبئة ينقلها لنا الانجيل، حيث يحكى عن تفشي مرض مجهول ينقل بالعدوى ابان العملية الجنسية تسبب في قتل العديد من اليهود، فعُدّ المرض عقابا الهيا اي انه كان جزاء عن اثم ما كانتقام الهي او نذير سام من الله.

وبالرغم من كل ذلك فان الطاعون معروف منذ 3000 سنة على الاقل. ففي سنة 430 ق م اصاب الطاعون أثينا فجعل سكانها يتخبطون في حيرة كما ذهب بحياة العُشر من سكانها مثلما اودى بحياة بارقليس صانع الهيمنة الاثينية في بحر ايجه. اما في الصين فقد سجل لنا التاريخ اوبئة منذ سنة 224 ق م.

وباء اخر انتشر في القرن الرابع عشر: ويرجح انه جلب سنة 1346 من شمال الصين عبورا بسوريا ومنها الى تركيا الاسيوية والاوربية ليصل فيما بعد الى اليونان، ومن ثم الى مصر والى شبه جزيرة البلقان؛ اما في سنة 1347 فقد اكتسح جزيرة صقلية ومدينة جنوى الايطالية؛ ثم في عام 1348 اصاب سويسرا متوسعا الى فرنسا والى إسبانيا. وبلغ الى انجلترا سنة 1349، اسكوتلاندا وايرلندا؛ وفي سنة 1353، بعد ان عم اوربا كلها، بدات بؤر المرض في تناقص الى ان اندثر الوباء تاركا وراءه ما يقارب العشرين مليونا من الضحايا.

ومن سنن الحضارة ان يتأثر كل من الثقافة والفن تأثرا بالغا بمثل هذه الاوبئة: في الفنون التشكيلية نجد تاكيدا على محوري الموت والالم مقابل الصفو والرصانة الموجودتين في فن الايطالي" جوتو"(1266ــ1337) الذي يعتبر فاتح عصر النهضة الايطالية في الفنون. اما المعماريات فقد عرفت بدورها ضربا من التطور الذي تولد عنه ما يسمى بـ 'الغوطي المتلهب' ، حيث نجد اندفاعات شبيهة بالسنة النار المتلوية.

يعود الرسم على الجص (الذي لا يختلف تقنيا عن الرسومات الجدارية او الجداريات) المعنون بـ "انتصار الموت" الى سنة 1446 وهو الذي انقلع من فناء قصر اسكالفاني بمدينة باليرمو العاصمة الاقليمية لجزيرة صقلية  والمحفوظ اليوم في احدى صالات قصر "أباتلّيس" بنفس المدينة.وهذا العمل الفني هو العمل الاكثر تمثيلا لوباء "الطاعون الاسود" ، اذ علاوة على كونه الرسم الافضل حول هذا الموضوع، الذي انتشر في القرن الرابع عشرة ، فان موضوعه قد رسم مع توكيد خاص، الى حد الهوس، على ذوات مروعة وغريبة في وحشيتها بتعبيرية قاسية وغليظة وهذه تُعدّ من الخاصيات النادرة في الفن الايطالي مما يجعلنا نعتقد في ان الرسم  المجهول هوية الفنان الذي رسمه ،هو من نتاج يد فنان عظيم.

تبدو اللوحة الجصية كما لو انها صفحة كبيرة قد تضمنت رسوما صغيرة او نمنمات، حيث نجد حديقة مترفة وبهيجة ينبثق منها شبح الموت، على صهوة طيف حصان قد رد الى هيكله العظمي، بصدد رمي سهامه القاتلة التي تصيب شخصيات من جميع الطبقات الاجتماعية فتثخن فيهم قتلا. فشبح الموت ذاك قد ربط على جنبه منجلا ويصحب معه كنانة، وكل ذلك يشكل مجموع الصفات الايكونوغرافية النموذجية لذاك الرسم. اما في اسفل الرسم فتظهر جثث الاشخاص المقتولين: اباطرة، آباء الكنيسة، اساقفة، رهبان، شعراء، فرسان وفتيات نبيلات. اما على اليسار فنجد مجموعة فقراء الناس وهم يضرعون الى شبح الموت بان ينهي آلامهم لكنه يتجاهل ذلك بكل قسوة. ومن بين هؤلاء نجد الشكل الذي ينظر الى من يشاهد اللوحة على انه رسم محاك لصاحب الرسم ذاته. وبالرغم من ثراء وتعقد الموضوع فان المشهد قد ركب بطريقة موحدة بفضل اساليب خطية ناجعة وبفضل الضربات واللمسات العريضة للفرشاة، تلك اللمسات القادرة على نقل وايصال الكثافة المادية للّون.

ويعتقد ان هذا العمل كان له دور العمل الفني الملهم للوحة التي تحمل نفس الاسم والتي رسمها الفنان الفلمنكي الهولندي بيتر بروغل الاكبر (حوالى 1520/1530- 1569) اثر زيارته لمدينة باليرمو سنة 1552 تقرييا لا تحديدا. كما يعتقد ايضا ان انجاز اللوحة الجدارية "الغورنيكا" للفنان بيكاسوا (1881-1973) كان ثمرة الهام من نفس الرسم بباليرمو. الا ان لوحة الفنان الهولندي بروغل "انتصار الموت" تعد بحق ما رمزية لفورة وثورة الغضب الشديد ولعدوانية هذا الوباء الذي اصاب اوربا انئذ.

والامر من الناحية الفنية متعلق بموضوع فني قروسطي نموذجي واجهه الفنان بالاحالة الى محاور ايكونوغرافية مختلفة: كمحور الرقص المروع (للهياكل العظمية مثلا) ، فارس نهاية العالم ، قيام القيامة (الهيكل العظمي المسلح بالمناجل) ومحور بعث ونشر الموتى، الذي يبديه من بعد الهيكل العظمي الخارج من الحفرة.

وتجدر الاشارة الى اننا نجد دواعي اخرى قد اعيد تشكيلها في اعمال الفنان هيرونيموس بوش (1453ــ1516) مثل الزوجين المتحابين او مشهد الناس الذين يقع سحبهم من على الجسر الذي حمل اسم اللوحة "جسر الارواح" والى عذاب المتكبرين. لا شيء يدخر لنا في مثل هذه الاعمال الفنية، بل كل شيء فيها مبذولا حتى الطبيعة نفسها: اذ نجد ان الهياكل العظمية تطيح بالاشجار، والبحار تغرق السفن ابتلاعا، وانهار الحرائق تسوّد السماء، وهياكل عظمية لحيوانات منبجسة من الارض وحيث ما ولينا نظرنا لا نجد غير الدمار ، البؤس واليأس والموت والخراب.

ولقد ظل حضور الطاعون وباءا قرينا لاوربا مستقرا فيها طيلة القرون الثلاثة الموالية للقرن الرابع عشرة  (15-16و17) ليندثر منها لاحقا وتدريجيا- وكان آخر اندثاره من انجلترا- بعد "الطاعون الكبير" لسنوات 1664-1666 وكان اندثاره لاسباب ظلت من دون تفسير. مع انه حتى رسائل البريد كانت تعد لقرون حاملة وناقلة خطيرة للعدوى ولهذه العلة كان الاجراء المعمول به والاكثر شيوعا بين الناس لرفع العدوى عنها يتمثل بعرضها على النار او بغمسها في الخل محاولة منهم للوقاية من انتشار العدوى.  

طاعون اخر انتشر قرب مدينة يافا في فلسطين خلال حصارها من قبل القوات المسلحة لنابليون حوالي 1800. ولقد رسم لنا ذاك الطاعون الفنان انطوان جان غروس (1771-1835) الذي تعرف على زوجة نابليون بونابرت جوزبينا بمدينة جنوى الايطالية والتي بدورها قدمته لاحقا الى نابليون. وبما ان نابليون قد انبهر بفن الرسام الى حد كبير فقد طلب من الفنان ان يكون رديفا له كرسام رسمي لحروبه؛ وهي التجربة التي تمخض عنها عمله الاكثر شهرة: نابوليون يزور مطعوني مدينة يافا (1804) .

في ذاك العمل الفني نرى القائد الفرنسي- في الوسط- وقد رسم ابان لمسه لاحد المصابين بالطاعون، وهي حركة، حسب تقليد انئذ، اختص بها الملوك دون غيرهم لما وهبوه من سلطان يجلعم يمتلكون قدرات هي من طبيعة المعجزات، مثلما كان شائعا، ولاجل هذه العلة نجد ان المصابين يحاولون بدورهم ان يلمسوا نابليون؛ بيد ان معاونه على خلافه نراه يغطي وجهه بمنديل للحماية وحتى لا يتأذى من الرائحة الكريهة في المكان. ولاحقا بعد ان كانت مدينة يافا بؤرة الطاعون نجد طواعين اخرى قد ظهرت وان بشكل متقطع وقد كان اخرها الذي تطور في الصين عام 1894 ثم انتشر منها الى افريقيا ، الى جزر المحيط الهادي  ومنها الى استراليا والى الامريكتين وصولا الى سان فرانشيسكو سنة 1900.

عرض مقالات: