لم يكن اللبناني إلياس خوري هو الكاتب العربي الوحيد الذي تناول القضية الفلسطينية في رواية أو عمل سردي إبداعي آخر. فهناك عدد من الكتاب العرب الذي فعلوا ذلك، لكنهم لم يرتقوا للمرتبة التي احتلها خوري في روايته " باب الشمس "، التي نشرها في التسعينيات من القرن الماضي، في مساحات الأبداع وأدبيات النكبة. .
وتنبع خصوصية هذه الرواية من خصوصية كاتبها بالمسألة الفلسطينية. فأن يكتب إلياس خوري رواية عن فلسطين والنكبة، قد يعتبر من الأمور العادية والطبيعية بالنسبة للكثيرين، لكنها بالنسبة لنا نحن الفلسطينيين هي لحظة صدق تهز مشاعرنا، وتعيد الاعتبار إلى صورة العروبة والوعي القومي في وجداننا، وتذكرنا بطهر وصدق المواقف ونقاء مراحل النهوض القومي العربي.
إلياس خوري، الذي انفرد برواية النكبة، هو فلسطيني الهوى والقلب والبوصلة، كان محاربًا ومقاتلًا في صفوف الثورة الفلسطينية إبان معركة بيروت، في صفوف قوى الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، وكانت أحلامه وأحلام جيله تشكل خميرة وبعدًا ثقافيًا للثورة العربية. القادمة. وكان له دورًا في المؤسسات الثقافية الفلسطينية، فقد عمل سكرتيرًا لمجلة " شؤون فلسطينية "، فضلًا عن ادارته المباشرة لملفها الثقافي، ومديرًا لمجلة " الكرمل " منذ تأسيسها حتى الخروج المقاتلين الفلسطينيين من لبنان عام 1982، وخلال علاقته بهاتين المطبوعتين ربطته اواصر صداقة متينة بعدد من المثقفين الفلسطينيين، وأولهم الشاعر الفلسطيني الكبير الراحل محمود درويش، الذي وصفه ذات مرة بأنه " توأم روحي ".
" باب الشمس " هي رواية النكبة الفلسطينية، تصور معاناة شعبنا ومأساته الإنسانية، وتستحضر الذاكرة الفلسطينية من تحت ركام الحروب والهزائم، وتمزج بشكل مدهش بين الحقيقة والتخييل، وبين الحكاية والواقعة، وبين الكلام العادي واللغة الشعرية الفنية الجمالي.
تقوم الرواية على واحدة من حكايات المتسللين الفلسطينيين الذين كانوا يحاولون العودة إلى فلسطين بعد ضياعها عام 1948، حيث شاعت في بدايات الخمسينيات ظاهرة العائدين خفية إلى وطنهم بعد الطرد الأول. أعداد كبيرة ممن سئموا أيام المنفى الأولى كانوا يتسللون عبر الحدود والأسلاك الشائكة وخطر الموت لكي يعودوا إلى قراهم المهدمة وبيوتها التي سكنها آخرون، يهود وعرب، ليعودوا ويطردوا مرة أخرى أو يقتلوا على الحدود بين " اسرائيل " والدول العربية المحيطة. لكن حكاية رجل المقاومة المتسلل يونس الأسدي تتحول في الرواية إلى حكاية عشق ورمز صمود وشكل من أشكال المقاومة الديموغرافية للوجود الصهيوني. وهكذا وعلى مدار ثلاثين عامًا، واكثر يقطع الأسدي الجبال والوديان بين لبنان والجليل الفلسطيني ليلتقي زوجته نهيله في مغارة سماها " باب الشمس " وينجب من زوجته عددًا كبيرًا من الأولاد والبنات مبقيًا صلة الوصل بين الفلسطيني اللاجئ والباقين على أرضهم، ويعود لمتابعة عمله الثوري المقاوم في المنفى. ويحول إلياس خوري حكاية المتسلل إلى نموذج تاريخي، ثم يقوم بتصعيد هذه الحكاية لتكون مثالًا ورمزًا، وتحضر الحكايات الأخرى التي يرويها د . خليل عن جدته وأبيه وأمه وعشيقته " شمس " أو يرويها على لسان الآخرين ممن صادفهم أو سمع عنهم من الفلسطينيين، لتعود الحكاية الرمزية من ثم إلى أرضها الواقعية وزمانها الراهن.
واستطاع خوري جمع الكثير من القصص عن النكبة الفلسطينية وارهاصاتها وتداعياتها، وعن الثورة الفلسطينية، مستعينًا بقصص للاجئين فلسطينيين وبمذكرات مناضلين وسياسيين عاشوا في تلك المرحلة وعايشوها، ونجح في تسجيل حكايات اللجوء بأسماء شخصياتها واعمارها وأسماء الأمكنة والمخيمات. وشخوص الرواية هي شخصيات فلسطينية حقيقية عاشت في الجليل وهجرت قراها قسرًا.
" باب الشمس " عمل روائي عن التاريخ، يسرد حكايات مأساوية، ويهدف إلى إخبارنا عن عسف التاريخ وظلمه وعنفه وتنكيله بضحاياه. وعلى الرغم من تشديد الراوي على وهم التاريخ فإن الوقائع والحقائق التي يسردها، والقصص التي يضمنها حكاية يونس الأسدي والتي تتوزع فصولها بين قصص الأخرين، تعيدنا على الدوام إلى ملموسية التاريخ وحضوره الضاغط في الرواية.
لقد قدم إلياس خوري في " باب الشمس " عملًا روائيًا ناجحًا وموفقًا يستعيد الماضي، وحكايات جرح النكبة، وإذا كانت الحكاية المركزية في الرواية هي حكاية يونس الأسدي الرجل الذي يرقد في مستشفى الجليل فاقدًا وعيه، فإن حكاية الرواي نفسه، أو حكايات أم حسن وعدنان أبو عودة ودنيا واهالي مخيم شاتيلا، لا تقل مركزية عن تلك الحكاية الأساسية التي تشد الحكايات الأخرى إلى بعضها البعض، والتي يقوم الكاتب بتضمينها في جسد حكاية يونس الأسدي وتوزيعها على مدار النص للوصول في النهاية إلى لحظة الموت وصعود الحكاية إلى أعلى، وإلى سدة التاريخ المخادع الذي يهزم الكائنات.
فتحية معطرة بأريج الزعتر البري العابق من ربوع الجليل وجبالها الخضراء، للكاتب والمثقف اللبناني إلياس خوري، الذي نضج وترعرع تحت شمس الثورة الفلسطينية، والذي يرمز ويشكل بالنسبة لنا الحنين لجيل عربي بأكمله على دروب الحرية والمعرفة والثقافة المستنيرة والفكر المقاوم.