اليوم، وبعد 53 عامًا على نكسة حزيران والاحتلال، يجد المرء نفسه أمام حقائق لا بد من استحضارها والتوقف عندها، وما طرأ على الحياة الأدبية والشخصية الثقافية الفلسطينية جراء الواقع الجديد بفعل الاحتلال الصهيوني.
ففي ظل الظروف والاوضاع القاسية التي نشأت بعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، والاحساس بالهزيمة والضياع، وفقدان الهوية القومية الفلسطينية، كان لا بد من مواجهة هذا الواقع والتعايش معه وعدم الرضوخ لأهدافه.
وإذا كانت بعض أعلام الادب الفلسطيني ورموزه حافظت على انتمائها للثقافة الوطنية الفلسطينية الملتزمة، كما هو الحال مع عبد الكريم الكرمي أبو سلمى، ويوسف خطيب وهارون هاشم رشيد ومعين بسيسو وسواهم، فإن بعض الأقلام الفلسطينية الاخرى كانت مرغمة على التعاطي مع الحال الجديد ومعايشته، فشاعرة جبل النار فدوى طوقان ظلت طوال عقدين من الزمن تقدم في المحافل العربية والعالمية كشاعرة أردنية، ولم تقدم كشاعرة فلسطينية إلا بعد العام 1967، ومثلها الشاعر والروائي ابراهيم نصراللـه، فضلًا عن جيل مجلة " الافق الجديد "، كمحمود شقير ويحيى يخلف وماجد أبو شرار وعز الدين المناصرة وفاروق وادي وعلي فودي وصبحي الشحروري وخليل السواحري وامين شنار وغيرهم.
وعندما بدأ النهوض والحراك الأدبي والثقافي في الوطن المحتل، لم تكن هناك منابر لكتاباتهم فوجدوا في صحافة الحزب الشيوعي الاسرائيلي ضالتهم، وكان من أول من نشر في صحيفة " الاتحاد " ومجلة " الجديد " بعد العام 1967 كفدوى طوقان وعبد اللطيف عقل ومحمود شقير وخليل السواحري وليلى علوش ومحمد أيوب وأسعد الأسعد وعبد الناصر صالح وغيرهم.
واستطاعت أدبيات الحزب الشيوعي سد فراغ كانت الثقافة الوطنية الفلسطينية بحاجة إليه، في ظل غياب الصحافة الوطنية الفلسطينية، وغياب المؤسسات التي تهتم بشؤون الأدب والثقافة عمومًا. ولعل ما قدمته " الاتحاد " و " الجديد " و " الغد " لم يقتصر على سد الفراغ المتعلق بالنشر وحسب، وإنما اتسم بطابع ابراز الوجه الوطني المشرق والمضيء للأدب الفلسطيني في تلك المرحلة الهامة من انبعاث الشخصية الثقافية الفلسطينية.
وقد تمكنت الحركة الثقافية في الضفة والقطاع أن تسير إلى الأمام وتنشط كثيرًا بعد الركود الذي شهدته خلال السنوات الأولى للاحتلال، حيث بدأ ظهور الصحف والملاحق الثقافية والمجلات الأدبية الفكرية الشهرية، كالفجر والشعب والقدس والنهار والطليعة والبيادر والفجر الأدبي والكاتب والعهد والميثاق وغير ذلك، فضلًا عن دور النشر ابرزها صلاح الدين وابو عرفة ومؤسسة البيادر وغيرها.
وبدأت تتحدد معالم الشخصية الوطنية الفلسطينية المستقلة بشكل أكثر وضوحًا، وساعد على ذلك تسارع وتأثر هذا النهوض بعد الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلًا شرعيًا وحيدًا للشعب الفلسطيني ودخولها أهم محفل دولي وقبولها عضوًا مراقبًا في هيئة الأمم المتحدة.
ورغم ما رافق هذا النهوض من نكسات، أهمها مجازر أيلول، إلا أن ذلك لم يؤثر سلبًا على مسار الحركة الأدبية الفلسطينية، بل ساعد على تمسك الأدب الفلسطيني ورموزه الجديدة بأهمية الدفاع عن الهوية الفلسطينية المستقلة والإصرار على إبرازها، ما ساهم في تنشيط الحياة الأدبية والثقافية.
وبالمقابل بدأت تظهر مؤثرات الرقابة العسكرية الاحتلالية على هذه الحركة، وآثرت بعض الأقلام والأصوات الصمت، حزينة مقهورة، بسبب الخنق والتضييق، ونافرة من حتمية التزام الصيغ الرمزية في الكتابة، ولكنها أقلام قليلة لم تستطع أن تبرر صمتها بأكثر من الحزن والضيق، فطواها النسيان، لتنطلق الأقلام الوطنية الملتزمة التي رفضت الصمت وواجهت الرقابة بقدرة متجددة على الكتابة من جهة وقدرة على التوصيل الجماهيري من جهة أخرى، ولم تجد سلطات الاحتلال أمام ذلك سوى أقبية السجون والمعتقلات والزنازين تدفع إليها الأدباء والشعراء، معتقدة أن ذلك يقهرهم ويكسر ارادتهم وأقلامهم ويمزق عيونهم وألسنتهم، عدا عن محاصرة الكتاب الفلسطيني وفرض الحصار والطوق على حركة الأدب والنشر في الأرض المحتلة، ومنع وصول الصحافة الشيوعية للمناطق.
ولكن رغم مقصات الرقيب العسكري وسياسة القهر وغياب الحرية نشأت ثقافة جديدة متنامية ضد الاحتلال، وتبلورت حركة ثقافية تعمق الارتباط بالأرض والوطن والإنسان الفلسطيني، ومنحازة للشعب وهمومه وقضاياه اليومية.