آلاف دينار مقابل الدولار الواحد في الفترة التي سبقت سقوط النظام .
وللتضخم آثار مباشرة على المداخيل ، حيث يتسبب في خفض قدرتها الشرائية ، أي خفض ما يمكن شراؤه من سلع وخدمات لقاء الأجر أو الراتب الذي يحصل عليه الفرد . وان أكبر المتضررين من التضخم هم ذوو الدخل الثابت ، من موظفين وعسكريين ومتقاعدين وغيرهم . وهذا ما يفسر الانهيار الكبير في مستوى معيشة هذه الشرائح الواسعة ، التي تعد من أهم مكونات "الطبقة الوسطى" . وبالنسبة للفئات الكادحة ، يزيد التضخم من شقائها ومن معاناتها في الحصول على أسباب العيش الكريم . وقد استمرت ظاهرة التضخم في الاوضاع الجديدة التي تلت سقوط النظام، وان اختلفت أسبابها . 
ووفقا لبيانات البنك المركزي ، سجلت معدلات التضخم تسارعاً ملحوظاً في الأعوام الأخيرة حيث بلغت حوالي 70 في المئة نهاية تموز 2006 ، مقارنة مع الشهر نفسه من عام 2005 . وقد بيّن البنك المركزي إن هذا الاتجاه يشير إلى أن الاقتصاد العراقي، بشكل عام، يغرق في ما يسمى الركود التضخمي ( أي ارتفاع الأسعار مع استمرار انكماش الانتاج وارتفاع معدلات البطالة ) وعند مستويات تثير القلق ، في وقت ما زال قطاع النفط يعاني من تدن في مستويات الإنتاج. .والملاحظ أن معالجة هذه الظاهرة ذات طابع جزئي ولا تصل إلى جذورها . فالبنك المركزي رفع سعر الفائدة ثلاث مرات خلال فترة قصيرة ليصل إلى 14 في المئة ، بهدف الحفاظ على قيمة الدينار ، وتخفيف الضغوط التضخمية . لكنه زاد بذلك من تكلفة الإقتراض ولم يعد يشجع على الاستثمار. 
ان التضخم في بلادنا ظاهرة اقتصادية، مركبة ، لا يسهم في تشكيلها عامل اقتصادي واحد كارتفاع أسعار المشتقات النفطية أو الزيادة في السيولة النقدية ، بل هي ناجمة عن ضعف في الانتاج وتدهور في انتاجية القطاعات الاقتصادية لا سيما قطاع الزراعة والصناعة التحويلية ، وتعطل الخدمات العامة ، وتداعيات الوضع الأمني على رفع تكاليف الانتاج والاستيراد ، وعلى توفر المعروض في الأسواق . ومن أهم عوامل ارتفاع معدلات التضخم في الفترة الأخيرة ، الزيادة الكبيرة في أسعار المشتقات النفطية الناجمة عن الشحة في العرض وعن رفع الدعم لأسعار المشتقات ، نزولاً عند شروط صندوق النقد الدولي ومجموعة نادي باريس .
ويبدو ان المشكلة الحقيقية تكمن في غياب السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية المتكاملة والمتناسقة ، والمستندة إلى ستراتيجية اقتصادية وتنموية واضحة . وإذا كان رفع الدعم عن أسعار المشتقات النفطية مثّل الدفعة الاولى للتضخم الجامح ، فإنه يمكن لهذا التضخم أن يزداد تفاقما مع تطبيق الشروط الاخرى المتمثلة بالغاء البطاقة التموينية ، وخصخصة القطاع العام وما تؤدي اليه من تفاقم مشكلة البطالة وعواقبها .
ان مواجهة اخطار التضخم الجامح لا تتحقق إلا من خلال اعتماد سياسات اقتصادية متوازنة ، تعمل بأتجاه تحقيق الرفاهية الاقتصادية للفرد والمجتمع ، وذلك ببلورة وتبني استراتيجية جديدة للتنمية ترمي إلى تفعيل مختلف قطاعات الاقتصاد العراقي والنهوض بقدراته ، وتؤهله للانفتاح على الاقتصاد العالمي .

الخدمات بين انسداد الآفاق والبحث عن حلول
شهدت الفترة الماضية تدهورا كبيرا في الخدمات ، لا سيما في مجالي الوقود والكهرباء. وقد كنا شهود طوايبر طويلة من السيارات تقف لساعات طوال وربما لايام امام محطات الوقود. ورغم ما اتخذ من اجراءات من طرف وزارة النفط فان المواطن مازال يعاني من شحة الوقود، وما زالت المشاكل قائمة وذات صلة ، ايضا، بتأمين ايصال الوقود الى مراكز الاستهلاك ، فضلا عن الفساد والتخريب والتهريب . وشهدت بعض الفترات تحسناً نسبياً الا ان الاختناقات ما تزال قائمةً.
وترجع الحكومة اسباب تفاقم الوضع في مجال المحروقات الى الوضع الامني المعقد والعمليات الارهابية، والى الفساد الاداري والمالي ، والى العدد الكبير من السيارات الذي دخل العراق بدون ضوابط ، والى عدم احترام مجهزي المشتقات النفطية في دول الجوار لالتزاماتهم التعاقدية بشكل منتظم.... الخ . ورغم صحة هذه الاسباب الا انها وحدها غير كافية لتفسير هذا التدهور، ومن الصحيح الاشارة ايضا الى ان الاجراءات التي اتخذتها الحكومات المتعاقبة بما فيها الحكومة الحالية دون المستوى المطلوب لمواجهة هذه التحديات .
ان هذه الازمة المستمرة والتي تتفاقم بين الحين والاخر ترجع ايضا الى عدم القدرة على السيطرة على عمليات التهريب، التي تحظى بدعم عناصر من داخل المؤسسات المعنية ، بنت وشائج وتحالفات متنوعة مع عصابات مافيا منظمة ومتخصصة ، تدر عليها عمليات التهريب هذه ارباحا طائلة.
ومن اسباب تفاقم ازمة الوقود ايضا وجود اختلالات وخروقات عدة في بنود العقود المبرمة لاستيراد المشتقات النفطية. وطبقا لمصادر مختلفة فان اغلب العقود الموقعة منذ سقوط النظام السابق ابرمت مع تركيا والكويت وايران . وقد حدثت خروقات واضحة في توريد الكميات المتفق عليها في العقود المبرمة ، من مثل اعتذار الجانب الكويتي والجانب التركي اكثر من مرة عن توريد الكميات المتفق عليها ، مستفيدين من حقيقة عدم وجود اجراءات جزائية بحق الجهة الموردة في حال تأخرت او اعتذرت عن تنفيذ بنود العقد. علما ان الامر لا يتعلق هنا بالعقود الموقعة حسب ، بل ايضا بتأمين وصول كميات الوقود المتعاقد عليها، والتي غالبا ما تتعرض لهجمات الجماعات المسلحة او للتهريب من قبل العصابات التي تسطو على شاحنات النفط بعد عبورها الحدود العراقية ، في غياب القوى الامنية الضرورية لحمايتها ، كما هي ضرورية لمراقبة محطات الوقود.
وفيما يتعلق بالكهرباء شهد قطاعها تذبذبا كبيرا في الانتاج ، ادى الى تعطيل الكثير من المشاريع الصناعية والخدمية واوقف العديد من المصانع والمؤسسات المتوسطة والصغيرة التي تعتمد على الكهرباء. ومن الضروري الاشارة هنا الى ان العراق كان يعاني هذه الازمة منذ عهد النظام السابق . غير ان احداث 2003 وما تلاها من اعمال نهب وسلب شملت معظم المؤسسات الحكومية، ومن بينها مشاريع الكهرباء ، فضلا عن الاعمال العسكرية المباشرة ، والاهمال في ميادين الصيانة والتشغيل، واستهداف المنشآت الكهربائية من قبل القوى الارهابية ، كل ذلك فاقم المشكلة . كما كان لانسحاب بعض الخبراء الاجانب بسبب سوء الوضع الامني ، وتصاعد اعمال الترهيب والاختطاف ، وندرة المواد الاحتياطية ، وعدم كفاية الملاكات ، وتعرض بعض المحطات الكهربائية الموجودة في المناطق الساخنة لاعمال التخريب المتواصلة ، دورها في التأثير سلبا على اداء المنظومة الكهربائية عموما ، واسهمت في زيادة ساعات القطع التي وصلت في العديد من المناطق الى اكثر من عشرين ساعة يوميا . فيما ادت عمليات سرقة الاسلاك وابراجها وخطوط نقل الطاقة الى كبح عمل المنظومة وتاخير مواعيد التشغيل ومفاقمة الازمة في قطاع الكهرباء. 
وأصبح توفير الخدمات مطلباً شعبياً شديد الألحاح، وشرطاً لمعالجة الأزمات الحياتية في جميع المجالات، الامر الذي يستدعي من الحكومة إيلاء أكبر الإهتمام لتأمين الحلول وتوفير مستلزمات تحقيقها.
ومن الإجراءات الملموسة الواجبة في هذا الاتجاه :
* استكمال اعادة تاهيل وتحديث محطات التوليد والتوزيع وخطوط نقل الطاقة الكهربائية مع الاجراءات التقنية والبشرية لحمايتها.
* اعتماد استراتيجية جديدة لتوليد الطاقة الكهربائية تهدف الى مضاعفة القدرات الانتاجية وتنويع مصادر الانتاج ، بالتمويل الذاتي أو بالقروض والاستثمارات وفق افضل شروط التعاقد.
* تشجيع المشاريع والبحوث الهادفة الى تطوير مصادر الطاقة المتجددة كالمياه والشمس .... الخ، والاهتمام بحماية البيئة.
* توعية المواطنين وحثهم على استخدام الاجهزة والمعدات الكهربائية قليلة الاستهلاك للطاقة وتشجيعهم على الترشيد.
* رعاية الكوادر العاملة في قطاع الكهرباء وتكثيف برامج تدريبها وتأهيلها وزيادة الحوافز المادية والمعنوية للعاملين عموماوتحسين ظروف سكنهم وتوفير الحماية اللازمة لهم خلال ادائهم لعملهم. 
ومعلوم انه منذ الخلاص من النظام السابق وأبناء الشعب يتطلعون الى رؤية توجه جاد لمعالجة الطائفة الواسعة من الازمات والاختناقات التي خلفها لنا ذلك العهد في مجال الخدمات عموما . وبينما تتواصل التصريحات الحكومية عن رصد مبالغ ضخمة لضمان انسيابية تلك الخدمات، لا يتلمس المواطن أي تحسن، بل يلاحظ تراجعا على طول الخط ، خاصة في ميادين الماء وشبكات الصرف الصحي والخدمات الصحية والتعليم والنقل ...... الخ.
وعلى سبيل المثال تشكل خدمات مياه الشرب ونوعيتها مصدر قلق كبير لعموم ابناء الشعب . ووفقا للاحصائيات الصادرة عن وزارة التخطيط والتعاون الانمائي (2005) والتقرير التحليلي بالتعاون مع البرنامج الانمائي للامم المتحدة فان نسبة السكان الذين يحصلون على مياه صالحة للشرب لا يتجاوز 33 في المئة في الريف و 60 في المئة في المدن . وفي المقابل يشكل ضعف شبكات الصرف الصحي مصدرا من مصادر التلوث البيئي ، خاصة في المدن الكبرى. ان الحاجة قائمة لوضع اجراءات لحل مشكلة مياه الشرب في الريف والمدينة وبناء محطات التصفية الصغيرة والمشاريع الكبيرة .
وفي ما يخص البطاقة التموينية والاهمية القصوى لاستمرار تجهيز المواطنيين بمفرداتها، فقد تميّزت الفترة الماضية بجملة ظواهر ، نذكر بين اهمها : 
* عدم انتظام توزيع مواد البطاقة .
* التفاوت في تجهيز مفرداتها ، وهي في جميع الاحوال لا تستلم كاملة. 
* رداءة نوعية المواد الداخلة فيها. 
* زيادة ثمنها الى ثلاثة اضعاف. 
* عدم توزيع النفط والغاز ضمن موادها في جميع المناطق، رغم وجود قرار بذلك .
* تدخل جهات مختلفة غير حكومية وتحكمها بالبطاقة ومفرداتها .
وتبقى الحاجة قائمة الى دعم البطاقة وتأكيد ضرورة انتظام توزيعها في مواعيدها وتحسين مفرداتها. غير انه يلاحظ ان الحكومة اعتمدت في ميزانية 2007 نفس المبالغ التي خصصت في ميزانية 2006 لتغطية كلف البطاقة التموينية ، والتي كانت اقل مما خصص في عام 2005 ، مع وجود شكوك جدية في نسبة التنفيذ ، اضافة الى عدم مراعاة ارتفاع الاسعار ومعدلات التضخم .
ويواجه المواطنون، من جانب آخر، أزمة نقل خانقة ، زادت من حدتها شحة المشتقات النفطية ، فارتفعت بشكل كبير أسعار النقل سواء، داخل المدن أم في ما بينها. وليس هناك ما يشير الى توجه جدي حكومي لمعالجة هذه الأزمة التي تتفاقم يوما بعد آخر ، فيما تبرز الحاجة بصورة متزايدة الالحاح الى أن تولي الحكومة اهتماما فائقا الى إعادة وسائط النقل العام وتشغيلها. اضافة الى استحداث شبكة طرق داخلية وخارجية تتناسب والزيادة الحاصلة في عدد وسائل النقل .
اضافة لذلك هناك شريحة واسعة من المتقاعدين ما زالت تعاني من عدم استقرار الراتب التقاعدي وعدم البدء بتطبيق قانون التقاعد الجديد . في وقت يلاحظ فيه التفاوت الكبير في رواتب العاملين في الدولة ومن دون وجود قانون ينظم ذلك . وينبغي ان يشمل القانون الجديد المتقاعدين القدامى والجدد .
ونتيجة لكل الصعوبات والاشكاليات الجدية الاقتصادية والاجتماعية والامنية ، فقد ازدادت معاناة المواطنين ولم تعد توجد فئة بمنأى عنها ، كما انها شملت مناطق العراق باكملها بما فيها كردستان . ولذا اتسعت في الفترة الاخيرة مظاهر الاحتجاج والاعتصامات الشعبية والجماهيرية في مدن مختلفة، جوبه بعضها بقسوة. وهذه التحركات مرشحة لان تتصاعد على خلفيات اقتصادية – اجتماعية مما يتطلب اهتماما خاصا بها. 
وحتى نضع الامور في نصابها الصحيح، نود التأكيد مجددا على اننا ندرك تماما حجم التركة الثقيلة التي ورثناها عن النظام السابق ، ولكن من حق المواطن ان يرى توجهاً واضحا وسياسة متكاملة مرسومة بدقة وعناية، تستفيد من الامكانيات والطاقات العراقية لرسم معالم الخروج من دائرة الازمات ، التي تحيط بالوطن والشعب، الى عتبة العيش الكريم والرفاه والاستقرار.

الفساد المالي والاداري :
الحاجة ملحة الى معالجات جذرية
ليس سرا ان ظاهرة الفساد ملحوظة في معظم بلدان العالم، لكن بدرجات متفاوتة ومستويات مختلفة. ويقدر البنك الدولي حجم الضرر الذي يلحقه الفساد بالاقتصاد العالمي مبلغا بحوالي 1.5 تريليون دولار (1500 مليار دولار) في العام ، وانه يقلص معدلات نمو الدول بمقدار نقطة واحدة في المئة سنويا.
وفي ما يتعلق ببلادنا هناك اليوم حقيقة صارخة تتجلى في كون الفساد أصبح وباءً مستشرياً ينخر في مفاصل المجتمع كافة ، وبشكل خاص في مؤسسات الدولة واجهزتها . 
ولا بد من الاشارة الى ان هذا الفساد المستشري اليوم ليس نتاج المرحلة الحالية فقط ، بل هو كذلك امتداد لـ " التقاليد " التي رسخها النظام الكتاتوري المباد ، وان اجراءات سلطة الاحتلال وسياساتها ساعدت في بلوغ الفساد هذه المديات الخطيرة . وارتباطا بذلك حذرت منظمة "الشفافية الدولية" في تقريرها الصادر يوم 16-3-2005 من أن عملية إعادة إعمار العراق يمكن أن تتحول إلى " أكبر فضيحة فساد في التاريخ " .
ومن المفيد التذكير ان للفساد اثارا اقتصادية واجتماعية مؤذية تتخذ اشكالا مختلفة ، منها : تضخيم الكلف الاقتصادية للمشاريع والنشاطات الاقتصادية، واضعاف النمو الاقتصادي . وبهذا المعنى يمكن القول ان الفساد يعتبر عاملا معيقا للاستثمار. هذا فضلا عن الجوانب الاخلاقية والمعنوية السيئة المرافقة لهذه الظاهرة، والمهددة للقيم السامية المفروض توفرها في العاملين في مجالات الدولة والخدمة العامة. 
إن عدم الالتزام بمقومات الشفافية في ما سمى بعملية إعادة إعمار العراق بعد سقوط النظام الديكتاتوري ، أدى إلى انتشار الفساد على نطاق واسع . وقد نجم ذلك عن تدفق الأموال من دون إجراءات صرف أصولية ، وعدم حصر ما تم العثور عليه في الوزارات والمصالح الحكومية الاخرى من اموال وممتلكات بعد انهيار نظام صدام حسين، إضافة إلى ما تركه النظام نفسه من ارث كبير في ميدان الفساد . 
ورأى التقرير آنف الذكر أن ما كان نادي باريس يسعى الى فرضه وهو يشدد على خصخصة الشركات الحكومية العراقية كشرط لإعادة جدولة ديون العراق ، " قد يتيح مجالا أوسع لممارسة اعمال فساد " .
وفي ظل انعدام استراتيجية تنموية واضحة ، تنامى دور الفئات المرتبطة بالتهريب وبرأس المال التجاري والمضارب ذي الطابع الطفيلي ، المرتبط ، عبر وشائج مختلفة، برأس المال الاجنبي، وهو ما يسهم في استشراء الفساد. لهذه الاسباب ، وغيرها ، يمكن القول ان الفساد لم يعد مجرد نشاطات فردية أو محدودة ، اذ امتد ليشمل قطاعات المجتمع والدولة والاقتصاد كافة . انه ظاهرة اقتصادية / اجتماعية / سياسية مركبة، لذلك فهو يحتاج الى مقاربة مركبة. وتعني الملاحظة السابقة ان الفساد لم يعد يتجلى في حالات متفرقة هنا وهناك، بل صار بنية تزداد رسوخاً ، وتتحول، أكثر فأكثر، إلى أرضية ينهض عليها بناء فوقي متشعب يخترق كل شيء - من الإدارة إلى الوضع الاقتصادي الذي أنجبه نمط تنمية ملتبس ، إلى " نمط الثقافة " السائد ، إلى الهيكلية التنظيمية التي تجعل مالكي السلطة قادرين على ترجمة ملكيتهم الرمزية والمعنوية إلى ثروة . وطبيعي أن هذه العمليات تجري في غياب المؤسسية وغياب دور الرأي العام والرقابة المؤثرة والفاعلة ، وضعف القضاء النزيه والمستقل ، وعدم ممارسة السلطة التشريعية الرقابة الشاملة الضرورية، وأخيراً غياب الشفافية في عمل الدولة وفي عملية اعادة بنائها ، التي تتجاذبها مصالح متناقضة واستراتيجيات اعادة بناء مختلفة.
وفي ضوء ما سبق يمكن القول إن معالجة الفساد في بلادنا لن تكون مثمرة وناجحة ، إلا عندما تكون معالجة سياسية- اقتصادية- اجتماعية في وقت معا . فحملة مكافحة الفساد، مهما اشتدت ومعها العقوبات الرادعة بحق الفاسدين والمفسدين ، يمكن ان تخفف من آثار المرض لكنها لا تعالج أسبابه، ولن تؤتي ثمارها اذا لم يكرس الانتباه، في الوقت ذاته، الى المناخ السياسي / الاجتماعي ، الذي نما وترعرع فيه الفساد، ووصل إلى ما وصل إليه اليوم . وفي ضوء هذا تبرز الضرورة الملحة لإعادة العلاقة الطبيعية بين السلطات الثلاث : التشريعية والتنفيذية والقضائية ، بما يفسح في المجال لفصل القضاء عن المصالح السياسية المتناقضة، ولتوفير التربة الملائمة لممارسة القضاة دورهم الطبيعي في تكريس سيادة القانون وقيم العدالة في المجتمع . هذا الى جانب الحاجة الى إشاعة اختيار الأشخاص الأكفاء والنزيهين لشغل المناصب العامة ، وتكريس حرية التعبير عن الرأي والنشاط السياسي . فمناخ الحرية هو المناخ الوحيد الذي يؤمـّن تصحيح الأخطاء، ومراقبة الأداء العام لكل مسؤول، وفضح أي سلوك يتجاوز الصلاحيات والمسؤوليات العامة .
وفي مقابل ذلك لا بد ان تنصب الجهود على تعزيز دور منظمات المجتمع المدني في مكافحة الفساد وبناء قدراتها في هذا المجال . فثمة تجارب عديدة تشير إلى أن جهود بعض المنظمات غير الحكومية في رصد حالات الفساد وحماية المجتمع منها ، يمكن ان تؤتي ثمارها في فضح الممارسات الفاسدة ، وتعبئة الرأي العام للضغط من اجل وضع سياساتٍ قوية لمكافحة الفساد.والعمل على اصدار قانون ينظم عملها ويحميها . 
وإذا كان مثل هذه المعالجة الجذرية لظاهرة الفساد هدفاً بعيد المنال في المدى المنظور، بسبب طبيعة وحجم الخراب الاجتماعي وضعف مؤسسات الدولة وخصوصا الامن والقضاء ، فإن أسلوب المحاسبة والمعاقبة (الذي قد يطال بعض الرموز الفاسدة، بين فترة وأخرى) ينبغي ان يترافق مع اجرءات فورية ، تساعد على محاصرة بؤر الفساد وعزلها في جزر صغيرة ، بما يخفف إلى الحد الأدنى من مخاطرها تجاه المجتمع والدولة.
وينبغي لهذه الإجراءات الفورية ان تنطلق من ادراك ضرورة تحسين الوضع المادي للعاملين في الدولة ، بما يوفر حداً من الأجور يتناسب مع متطلبات المعيشة ومستويات الاسعار، ويقيهم من الانحرافات التي تفرضها وطأة الحاجة الى مستلزمات الحياة المتنامية باستمرار ، نتيجة اعتماد " انماط تنموية " وسياسات اقتصادية ملتبسة ، تفضي الى تعميق الاستقطاب الاجتماعي بدلا من تقليصه 
لقد اكّدنا في العديد من المناسبات، أن القضاء على الفساد يستلزم اعتماد جملة اجراءات ، نذكر من بينها:
تجنب الانتقائية واعتماد منهج شامل في معالجة المشكلة ، فلا يجوز التسامح او السكوت على مخالفات صارخة باتت تزكم الانوف ، بسبب الخوف ممن يقف وراءها !
-الاخذ بقاعدة الاولويات في عمل مفوضية النزاهة والمفتشين العامين في الوزارات.
- ربط الاعلان عن قضايا الفساد باجراءات سريعة ورادعة.
- تحييد قضايا الفساد، أي الا يعمد أي حزب الى الدفاع عن محازبيه حال اتهامهم بالفساد. وان تكون للقضاء الكلمة الفاصلة، بعيدا عن الاتهامات الكيدية.
- إبعاد قضايا الفساد عن الصراعات الحزبية.
-ديمومة الحملة ضد الفساد بغض النظر عن تبدل الحكومات ، وضمان نزاهتها ووصولها الى غايتها المرجوة. مع التاكيد على اهمية التوعية بمخاطر الفساد المالي والاداري عبر الاعلام ومناهج التعليم وغيرها ، وتوفير الحماية للقضاة والشهود وغيرهم في قضايا مكافحة الفساد .

ظاهرة هروب رؤوس الاموال العراقية الى الخارج
شهدت السنوات التي سبقت انهيار النظام الدكتاتوري ، ارتباطا بتطور الاوضاع في البلاد وقتذاك وتزايد احتمالات سقوطه ، عملية نزوح لرؤوس الاموال الى الخارج . وكان قسم منها يعود الى النظام وحاشيته وحزبه ، وقسم آخر الى الفئات الطفيلية التي انتعشت في كنفه وعلى خلفية الحصار الاقتصادي والتطبيقات الملتبسة لقرار مجلس الامن الخاص بالنفط مقابل الغذاء. 
وبعد السقوط وما رافقه من انفلات امني ، وما تعرضت له مؤسسات الدولة الادارية والمالية من نهب وسرقات واسعة ، ظهرت الى الوجود شريحة جديدة اختار لها الناس مصطلح " الحواسم " . وهي شريحة من أثروا بلمح البصر بفضل تلك السرقات ، وتغيرت مواقعهم الاقتصادية بسرعة مماثلة . وكانت هناك ايضا اموال طائلة تحت تصرف بعض كبار رجال مخابرات النظام السابق واجهزته ، والتي وضعها رأسه تحت تصرفهم ليستخدموها عند حدوث تطورات او انهيار النظام ذاته. وقد لجأ كثيرون من هؤلاء " القطط السمان " الجدد الى عمليات غسيل واسعة للاموال المذكورة ، من خلال توظيفها في مشاريع وشركات تجارية في العديد من البلدان المجاورة ، التي غضت النظر عن مصادر هذه الاموال. وجرى في بعض هذه البلدان سن تشريعات تكفل استيعاب هذه الاموال من دون عوائق.
ومنعا للالتباس لا بد من الاشارة الى انه ليس من الصحيح التعميم واعتبار رؤوس الاموال المهاجرة الى خارج العراق جميعاً ، من اموال " الحواسم " ورجال النظام السابق . فهناك رؤوس اموال لصناعيين وتجار ورجال أعمال وغيرهم اضطرتهم الظروف الامنية السيئة والاحتقان الطائفي والتصفيات على اساس الهوية المذهبية والدينية وعمليات الخطف والتهديد بالقتل والابتزاز ، وغيرها من التعقيدات والمشاكل ، للانتقال الى خارج البلاد بحثا عن الامان وعن فرص استثمارية افضل . 
وفي تقرير صادر عن دائرة مراقبة الشركات في الاردن مثلا ، ظهر ان المستثمرين العراقيين يتصدرون قائمة الاستثمار في الشركات هناك ، وقد بلغت استثماراتهم منذ بداية عام 2006 حوالي 8.3 مليار دينار اردني بعد ان كانت 7.9 مليارا في عام 2005 . واشار التقرير ذاته الى حركة ملحوظة للاستثمارات العراقية الموظفة في مختلف القطاعات الاقتصادية الاردنية ، والى ان اغلبها يتركز في قطاعات الخدمات والصناعة والتجارة والمقاولات.

عملية " اعادة اعمار العراق " بين الآمال والواقع
عقب تغيير النظام الدكتاتوري بادرت مجموعة كبيرة من الدول والامم المتحدة والمؤسسات الدولية الى اطلاق الحملة العالمية لاعادة اعمار العراق . وعلى هذا الطريق انعقد المؤتمر الدولي للمانحين في تشرين الاول 2003 في العاصمة الاسبانية مدريد . وتم في هذا المؤتمر الاعلان عن تعهدات مالية تبلغ قيمتها حوالي 33 مليار دولار. كما تقرر اعتماد خطة لانفاق هذه المعونات في تنفيذ مشاريع كثيرة في مختلف القطاعات ، وفق تقرير كان معداً مسبقا للمؤتمر تحت عنوان " تقييم حاجات اعادة الاعمار في العراق " وذلك في سنوات 2004 – 2007.
لقد مضى على هذه التجربة اكثر من ثلاث سنوات ، ولم يبق لاطارها الزمني سوى القليل . ولكن حسابات البيدر لا تطابق حسابات الحقل كما يقال ، إذ ان كثيرا من الوعود ظلّت حبرا على ورق . وبعيدا عن التعميمات فان التقييم الموضوعي لهذه التجربة يكشف لنا عن جملة حقائق :
الحقيقة الاولى : ان وتيرة التنفيذ لم تكن بمستوى الالتزامات المتفق عليها ، فما تحقق من الالتزامات يقل عن 50 في المئة (حوالي 15 مليار دولار) .
الحقيقة الثانية : ان جزءا كبيرا (حوالي 40 في المئة) من كلفة المشاريع المنفذة ذهب الى الامن والنفقات الادارية . ويشير بعض المصادر الى ان هناك حوالي 40 شركة اجنبية امنية خاصة ، تضم في صفوفها حوالي 25000 شخص يتقاضون رواتب واجورا عالية.
الحقيقة الثالثة: ان حصة اعادة اعمار الهياكل الارتكازية والمرافق الانتاجية والخدمات الاساسية (الكهرباء، النفط، مكافحة الفقر والبطالة ....الخ) كانت دون المستوى المطلوب . 
ومن المفيد الاشارة الى ان الكثير من الجهات المانحة ، دولا ومؤسسات ، تبرر التأخر في تنفيذ تعهداتها بالاوضاع الامنية المتدهورة والنشاطات الارهابية ، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو : هل ان هذه الجهات لم تكن على دراية بالاوضاع هذه؟

الانضمام الى منظمة التجارة العالمية : ضرورة ام امكانية؟
منح قيام منظمة التجارة العالمية الاقتصاد العالمي سمات جديدة ، اسهمت في إكسابه ملامح تكشف جوهره الرأسمالي بصورة أكثر وضوحا ً. فقد أوكلت إلى هذه المنظمة ، ومعها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ، إدارة وتنظيم العولمة المتعاظمة للحياة الاقتصادية ، وإكسابها وتيرة متصاعدة من خلال تحرير التجارة من جميع القيود ، وفقا لما تنص عليه اتفاقية المنظمة ذاتها ، وإعادة تشكيل نظام العلاقات الاقتصادية الدولية وفق مباديء وقواعد الليبرالية الجديدة. ونظراً لطبيعة توازنات القوى على صعيد المنظمة العالمية هذه ، يتعين على العراق أن ينسق مواقفه التفاوضية مع الجبهة الواسعة للبلدان النامية التي تخوض منذ سنوات مفاوضات حامية مع البلدان الرأسمالية الرئيسية. ويتطلب هذا رؤية واضحة ومحددة للطريق الذي تريد بلادنا أن تسلكه ، فالجدل حول انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية لن ينتهي إلا بانتهاء الجدل حول توجهها وهويتها الاقتصادية ، ويتطلب ذلك إجراء دراسات تفصيلية تحدد مدى انسجام الانضمام للمنظمة مع استرتيجية البلاد التنموية .
وفي كل الاحوال فإن دخول العراق الى منظمة التجارة الدولية في هذه المرحلة من التطور سيطرح امام اقتصاده طائفة من التحديات والاستحقاقات الاقتصادية الجديدة ، التي قد تصعب عليه مواجهتها . 
والسؤال المطروح هو : هل أن الاقتصاد العراقي الذي يعيش أزمة بنيوية عميقة متمثله بضعف هياكله وأنشطته الانتاجية وطغيان الطابع الريعي عليه ، بسبب من الاستراتيجيات الخاطئة التي اعتمدها النظام المباد، والحصار الاقتصادي الجائر وكذلك السياسات المنتهجة بعد سقوط النظام ، هل انه قادر على مواجهة تلك الاستحقاقات والتحديات ، وخلق ديناميكيات تنموية جديدة تمكنه من احداث قطيعة فعلية مع الاوضاع الراهنة؟

خلاصات ودروس
ثمة خطابان لمعالجة أزمة الاقتصاد العراقي ، الاول موجه للمشاعر، لا يؤسس لمعرفة صادقة بالواقع الاقتصادي الكارثي ، بل ينحو إلى تبسيط المشكلات الفعلية ، ويتعامل معها كمشاكل "عادية" من النوع الذي يواجه اقتصاداً نامياً في طور الأزمة. ومثل هذا الخطاب لا يبصرنا بالمشكلات، إنما يعتم عليها.
أما الآخر فيشدد على ضرورة رؤية المشكلات الراهنة والمستقبلية بحجمها الفعلي ، ليس بهدف التعجيز، بل من أجل التفكير العميق بوسائل حلها.
ورغم اختلاف المتخصصين في الشأن الاقتصادي العراقي حول تشخيص الأزمة التي يعاني منها الاقتصاد العراقي وسبل معالجتها ، خصوصاً طبيعة الاصلاح الاقتصادي وإعادة الهيكلة المطلوبين ، إلا أن هناك اتفاقاً عاماً على أن بلادنا تحتاج الى عقود عدة بعد لحظة انطلاق العمل التنموي ، لكي تستطيع الوصول الى المستوى الذي كانت عليه عشية الحرب العراقية الإيرانية ، وإن حجم الدمار الذي تعرض له اقتصاد البلاد يحتاج الى استثمارات ضخمة تبلغ مئات المليارات من الدولارات. 
ويرتبط إنعاش الاقتصاد العراقي مستقبلاً بمجموعة من العوامل ، أهمها العوائد النفطية ، وديون البلاد الخارجية ، وتعويضات الحرب ، والاستراتيجية الاقتصادية التنموية المطروحة .
ولابد من الاشارة الى أن مشكلة التنمية في بلادنا تكمن، أساساً، في الاستخدام السيئ للعوائد النفطية . لهذا فإن أي مشروع بديل يجب أن يعيد هيكلة القطاع النفطي ، ليكون أحد وسائل التنمية الاقتصادية وليس عبئا عليها. ومن هنا ضرورة بناء معادلة جديدة للتنمية ، تشدد أولا على تنمية مستدامة ومتوازنة ، وتأخذ بنظر الاعتبار حاجات التطور الاقتصادي الفعلية. 
لقد بيـّنت التجربة التاريخية حقيقة مفادها أن الاعتماد الكثيف على النفط ، كمصدر وحيد للدخل والنقد الأجنبي ، انما يعكس هشاشة بنية الاقتصاد الوطني . ومن هنا ضرورة العودة الى اعتماد إستراتيجية للتنمية الاقتصادية – الاجتماعية ، تكفل تحويل القطاع النفطي من قطاع مهيمن ومصدر للعوائد المالية فقط (أي للتكاثر المالي وليس للتراكم) الى قطاع منتج للثروات ، يكون قطبا لقيام صناعات أمامية وخلفية تؤمن ذلك التشابك القطاعي المطلوب لتحقيق أنطلاق تنموي حقيقي .
ليست هناك حلول سحرية سريعة للمشكلات الفعلية التي يعانيها الاقتصاد العراقي. لهذا فإن نجاح استراتيجية التنمية يقترن اقترانا وثيقا باجراء تحليل اقتصادي – سياسي ذي مضمون اجتماعي ، يتعامل مع الطبيعة الشاملة للازمة القائمة. وبعبارة أكثر تبسيطا فإن السياسات المقترحة في الاستراتيجية لا بد أن تقوم على الفهم المتكامل للظروف والقوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية المحلية الرافعة وطرق تفاعلها ، وعدم تجاهل تطورات الاقتصاد العالمي ، والاستفادة من الجوانب الايجابية من العولمة مع العمل على تقليص آثارها السلبية. 
ولا يمكن للمعالجات الاقتصادية، حصرا،ً أن تحقق الأهداف التنموية ما لم تقترن بسياسات وإجراءات تتناول البعد الاجتماعي ، وتركز على إشكالية الديمقراطية ومؤسساتها التي ينبغي أن توفر الشروط المثلى لتحقيق رقابة مجتمعية ، قادرة على مراقبة كيفيات التصرف بالعوائد المتأتية من تصدير النفط ، بما يخدم تحقيق التنمية بوتائر متصاعدة من جهة، ويؤمّـن التوزيع العادل لثمار هذه التنمية. ومن هنا أهمية الربط الصحيح بين الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في ظروف بلادنا الملموسة ، فذلك هو السبيل الوحيد القادر على إخراج بلادنا من محنتها وأزمتها البنيوية. 
وتظل المديونية عبئاً ثقيلاً على موارد البلاد ، يتطلب معالجة جذرية . فرغم اختلاف التقديرات لحجم الديون التي تسبب فيها النظام السابق ، فإنها تقدر بعشرات المليارات من الدولارات ، وهي ستلقي بثقلها على اية سلطة جديدة وتجعل من قدرتها على الخروج من الازمة اكثر تعقيدا. لذا يصبح التحرك النشيط في المحافل الدولية لكسب أوسع تأييد لمطلب إلغاء هذه الديون أو خفضها إلى أدنى الحدود ، أمراً يحظى بأولوية خاصة . وقد أسفرت جهود الحكومة المؤقتة العراقية عن توقيع إتفاق في اطار نادي باريس ، يقضي بتخفيض ديون العراق بنسبة 80 في المئة على عدة مراحل ، مقابل التزام الحكومة العراقية بإجراء إصلاحات إقتصادية هيكلية على وفق شروط صندوق النقد الدولي وسياسات التكييف الهيكلي، التي تهدف إلى تحويل الاقتصاد العراقي تماما نحو اقتصاد السوق وإطلاق آلياته . وبموجب هذا الاتفاق ، الذي يرهن خفض الديون بإجراء الاصلاحات الاقتصادية ، يمارس صندوق النقد الدولي ضغوطه على الحكومة العراقية ، ويحد من حريتها في رسم السياسة الاقتصادية للبلاد.
وإذ يجب التمسك بكل ما تحقق على صعيد خفض وإلغاء الديون، ومواصلة المساعي مع الدول الدائنة الأخرى التي لم تفعل ذلك بعد ، فإن من غير المقبول أن تنزع أو تهدد قدرة الحكومة العراقية المنتخبة والمؤسسات التشريعية على رسم واعتماد الخيارات الاقتصادية والتنموية للبلاد، أو أن تفرض عليها سياسات تؤدي إلى إرهاق كاهل الفئات الشعبية ، وتضعف الانتاج وتشيع البطالة.
أما على الصعيد الاجتماعي، فإن أية استراتيجية يراد لها النجاح ، يجب أن تعمل على تحديد طبيعة الحاجات الأساسية والضمانات الاجتماعية للمواطنين ، كالخدمات الصحية والتعليمية الأساسية وتقديم الإعانات المالية في حالات البطالة والعجز عن العمل والشيخوخة. إن المظلة الاجتماعية مطلوبة في بلادنا الخارجة من سنوات القهر والقمع والحصار، التي تضررت خلالها قطاعات واسعة من مجتمعنا ، وينبغي أن تتوفر لها الشروط الضرورية لتجاوز التهميش ، ومن ثم الانخراط في الديناميكية الاجتماعية عبر تأمين العمل ، أو ضمان حد أدنى معقول من الدخل ، وبما يضمن الارتقاء بنوعية الحياة في البلاد. 
وينبغي أن تحتل مهمة توفير فرص عمل جديدة مكانة خاصة في المرحلة الراهنة ، بسبب البطالة الواسعة وآثارها السلبية على الأفراد والمجتمع . ولا شك أن مكافحة البطالة تتطلب دعم إنشاء وتطوير المشاريع الإنتاجية والخدمية الصغيرة والمتوسطة ، التي تستثمر مزيدا من الأيدي العاملة ولا تحتاج إلى رؤوس أموال أو عملة صعبة كبيرة، ولكنها تساهم في معالجة العديد من المشكلات الاقتصادية. 
ومن مقومات نجاح أية استراتيجية للتنمية ، التوزيع العقلاني للموارد الاقتصادية المتوفرة على صعيد الأقاليم والمحافظات، باعتماد منظومة من المعايير تجمع بين الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ، وبما يضمن نمواً متوازناً لمختلف المناطق ، ويسهم في تقليص التفاوتات الاقليمية ، وتركيز الصناعات والمشاريع في مناطق جغرافية محددة دون اخرى ، الامر الذي يؤدي الى تنامي الشعور بالغبن والتهميش والاقصاء. 

اوضاع الطبقة العاملة العراقية
تردت اوضاع الطبقة العاملة العراقية في ظل النظام الدكتاتوري المقبور بصورة مريعة وتفاقم استغلالها، خاصة من يعمل من العمال في المنشات والمؤسسات الحكومية وفي مقدمتها التصنيع العسكري ، وفي ظل تعطيل قوانين العمل وفرض التنظيم النقابي الرسمي ذي الطبيعة الامنية – القمعية ، واصدار القرار الجائر رقم 150 لسنة 1987 والقاضي بتحويل العمال في مؤسسات الدولة والقطاع العام الى موظفين .
- ونتيجة للتوقف الكلي او الجزئي لآلاف المشاريع الانتاجية والخدمية ، اضطر عشرات آلاف العمال الى البحث عن مصادر بديلة للعيش في شتى المشاريع الهامشية غير المنتجة ، واتسعت ظاهرة البطالة في صفوفهم 
- واليوم وبعد اربع سنوات من انهيار النظام الدكتاتوري لم تتغير اوضاع العمال نحو الافضل ، كما كان التطلع والامل ،وما زالت الحكومة مطالبة بتوفير فرص العمل ومعالجة مشكلة البطالة وتطبيق قانون للضمان الاجتماعي، والعمل على الغاء القوانين والتشريعات التي تضر بمصالح العمال وتهدر حقوقهم .كما ان الحكومة مطالبة بتقديم كل اشكال الدعم والمساعدة والرعاية الى الطبقة العاملة وحركتها النقابية وان تتشاور مع ممثليها في الامور التي تمس بشكل مباشر حقوقهم ومصالح العمال ودورهم في بناء حاضر العراق ومستقبله .

الشبيبة العراقية - الواقع، التحديات، الحلول
سعى النظام الدكتاتوري خلال فترة حكمه الى أحكام السيطرة على المجتمع عموما ، وعلى شبيبته بصورة خاصة نظرا لكونها الشريحة الاكثر ديناميكية وفعالية في المجتمع ، حيث يمثل الشباب دون سن الرابعة والعشرين حوالي نصف المجتمع العراقي، وقد عانوا من حروب النظام وويلات حكمه الكثير. وكان شعاره سيء الصيت (نضمن الشباب لنكسب المستقبل) معبرا عن رؤيته هذه ، من خلال كسب الشبيبة لمفاهيمه المشوهة والمتخلفة ، وحرمانهم من الحرية مقابل اغرائهم بالامتيازات الوظيفية والمادية . وفي حال عدم نجاح تلك الوسائل في (الكسب) كان العنف الشديد والتنكيل هو البديل! ناهيكم عن العكسرة المفرطة للمجتمع والاقتصاد، والتي نالت الشبيبة منها حصة الاسد سلبا ! 
لم يكن النظام المباد يسمح بنشاط سوى للمنظمة الشبابية والطلابية التابعة لحزبه (الاتحاد العام لشباب العراق والاتحاد الوطني لطلبة العراق) ، وهما أتحادان للسلطة، بأمتياز، هدفهما حصر الشبيبة ووضعهم تحت مجهر أجهزة النظام الامنية والمخابراتية ، ومراقبة نشاطاتهم وسلوكهم . 
من جهة أخرى كان لتدهور الاوضاع الاقتصادية أبان فترة الحصار الظالم على العراق، دور في أنتشار الروح العدمية وفقدان الامل وتبدد الشعور بالمسؤولية تجاه الهم العام . وقد سبب ذلك ايضا هجرة واسعة الى الخارج ، ضيـّعت طاقات وامكانيات شبابية هائلة. ومن جهة أخرى نمّت هذه السياسات عند شرائح أخرى من الشبيبة الروح الانتهازية والوصولية ، والاقبال على حرق المراحل من أجل تحقيق أهدافهم الحياتية (التملك ، الزواج ، السفر..الخ).
أن تصرفات النظام المباد في مجالي السياسة والاقتصاد أدت بمجملها الى خلق قطاعات لا يستهان بحجمها من الشبيبة مشوهة الوعي، لا تشعر بالارتباط بالوطن، او بأنها معنية بالمجتمع، وهي تنحا في اتجاه الهويات الفرعية، ساعية لأعادة أكتشاف الذات أو لحفظ الذات التي شوهها النظام.
أستبشر العراقيون ، ومنهم الشبيبة ، خيراً بسقوط النظام . وعقد الجميع الامل بتحقيق مستقبل أفضل يرفلون فيه بالحرية والرفاهية والكرامة. لكن تدهور الوضع الامني والاقتصادي ، والممارسات السياسية المبنية على المحاصصة الطائفية ، اسهمت في خلق شعور باليأس والاحباط . وطبيعي ان هذه المشكلات لم تكن وليدة اللحظة ، بل كانت استمرارا طبيعيا لمرحلة الدكتاتورية ، وقد سعى البعض من القوى السياسية لاستثمارها في الوصول الى مكاسب ضيقة. 
ويمكن باختصار تأشير أهم ملامح واقع الشبيبة وصعوباته في المرحلة الراهنة :
* شعور قطاعات واسعة من الشبيبة بالاحباط وفقدان الامل ، وضعف الانتماء الوطني ، وتأثر بعض المجموعات بالاطروحات الطائفية. 
* أنتشار البطالة في صفوف الشبيية بشكل واسع .
* تنوع الاتحادات و المنظمات الشبابية ، وارتباط بعضها بالاحزاب السياسية ذات الطابع الطائفي و القومي ، واعتمادها اسلوب الاغراء ( المادي و المعنوي ) لكسب الاعضاء .
* - الهجرة الواسعة للشبيبة خارج الوطن بحثا عن فرص عمل أفضل أو عن الامان او عن كليهما .
* - ضعف تأثير التيار الديمقراطي في الحياة السياسية، الذي اضعف بدوره انتشار الافكار الديمقراطية في اوساط الشبيبة .
* - ضعف الامكانات المالية للمنظمات الجماهيرية الديمقراطية ، الذي أدى الى ضعف فعالياتها الجماهيرية والترفيهية والرياضية ، ومن ثم تأثيرها . 
* تشرذم قوى الشبيبة المؤمنة بالديمقراطية والتقدم ، وعدم تجمعها في أتحاد أو تنسيق جهود أتحاداتها .
* انتشار العفوية في تنظيم ونشاط المنظمات الشبابية ، بعيداً عن الوعي وعن اتباع أساليب فاعلة في التنظيم ، ورسم منهجية وبرامج واقعية و علمية لقيادة العمل اليومي للشبيبة . هذا اضافة الى تنامي الطبيعة الموسمية في العمل النضالي في اوساط الشبيبة.
* تدهور واقع الخدمات والامن والمستوى الاقتصادي ، وما ادى اليه من انكفاء الشبيبة واثقالهم بهموم الحياة اليومية وتفاصيلها المعقدة، على حساب الهم العام والنضال المطلبي اليومي . وقد أشارت أحدى الدراسات الى أن حوالي 87 في المئة من الشبيبة يعانون من مشاكل في الجوانب الأقتصادية والأجتماعية والامنية .
* تدهور مستوى التعليم وتخلف المناهج الدراسية وطرق التدريس ، وعدم وجود أفق واضح ومشجع للخريجين ، وما سببا من أزمة ثقة بالمستقبل، ودفعا كثيرين الى الهجرة والبعض حتى الى الانخراط في النشاط الارهابي .
* وقوع المرأة الشابة ضحية التطرف والأفكار المتخلفة وتدهور الامن والوضع الأقتصادي ، مما أدى الى غياب شبه كامل لدورها المؤثر.
* قلة الزيجات و أرتفاع نسب الطلاق في صفوف الشبيبة ارتباطا بالأوضاع الأقتصادية والأمنية ، وهو ما أضاف بعداً آخر للازمة التي تعيشها المرأة ، خصوصا الشابة .
أن الكثير من المشاكل المتصلة بشريحة الشبيبة له أرتباط مباشر بالواقع العام في البلاد ، خاصة بالاوضاع الأمنية والأقتصادية والخدماتية ، لذلك فأن حلها يرتبط بحل القضايا الاجتماعية على مستوى البلاد . وان التغلب على المشكلات المشار اليها يتطلب، في اعتقادنا، اتخاذ جملة اجراءات وتدابير، نورد منها :
* الأرتقاء بالمناهج التعليمية وطرق التدريس لتطوير قدرات الشبيبة العلمية. وهذا لا يتحقق الا من خلال بلورة استراتيجية وطنية شاملة لترقية الشبيبة وتفعيل دورها، والانفتاح على التجارب العالمية في هذا المجال 
* تعميم ثقافة حقوق الانسان والتسامح في المدارس والجامعات ، ومعاقبة كل من يروج للفكر الطائفي والعنف قضائيا .
* الأهتمام بالمنتديات الشبابية ودعمها مادياً ، وجعلها أماكن لتجمع الشبيبة (من كلا الجنسين) لإطلاق أبداعهم الفكري و الثقافي ، بعيداً عن العنف والتسلكات الضارة اجتماعياً، وتوفير الأمن والحماية لها.
* الأهتمام بالرياضة وتأهيل الملاعب الشعبية ، ودعم الفرق الرياضية في المناطق السكنية ورفدها بالتجهيزات الرياضية ، وأستخدام الأساليب العلمية في التدريب والتأهيل . كذلك أعادة فتح الاندية الرياضية وتأهيلها . 
* دعم وتطوير دور المرأة الشابة من خلال :
- تعميم ثقافة مساواة المرأة في المناهج التعليمية .
- احترام حقوق المرأة في العمل والأحوال الشخصية ، وتثبيت ذلك في تشريعات .
- الأهتمام بأماكن الترفيه ( متنزهات ، مسارح ، دور سينما ) واعادة تأهيلها وتوفير الأمن فيها ، وفسح المجال أمام العوائل و الشبيبة لارتيادها من دون تدخل .
- الارتقاء بالواقع العلمي والمهني للشبيبة (خاصة العمالية) وتنظيم دورات متخصصة لرفع مستوى وعيهم وانتاجيتهم وتنويرهم بالتطورات التكنولوجية المعاصرة .
- العمل على زيادة البعثات الدراسية والدورات التأهيلية الى الخارج وتوسيعها لتشمل أختصاصات متنوعة ، وتوزيعها وفق الكفاءة و الحاجة الحقيقية للبلد ، بعيداً عن المعايير الطائفية والحزبية والمناطقية أو المحسوبية 
- وضع استراتيجية وطنية لتشغيل الشباب ، والعمل على تأسيس برنامج (صندوق) لدعم مشاريع الشبيبة (الصغيرة والمتوسطة) لامتصاص البطالة واطلاق الابداع الذاتي للشبيبة .
- الدعم المادي للمتزوجين الجدد من خلال توفير السكن والسلع المعمرة لهم ومنحهم قروضا ميسرة .

المرأة العراقية تواصل النضال رغم الصعوبات
توصل المؤتمر الوطني السابع لحزبنا في سياق معالجته اوضاع المرأة العراقية في عهد النظام الدكتاتوري ، الى انها ظلت تتعرض الى مختلف اشكال العنف الاسري والاجتماعي ، وتواجه مختلف مظاهر الفساد، فضلا عن مساعي الافساد - واخطره الافساد المبرمج الكثيف ، الذي كانت تنفذه اجهزة السلطة ومنظماتها " الاجتماعية "- مستغلة ظروف الفقر والحاجة الشديدين المنتشرين ، وملوحة بالاغراءات والهراوات في آن واحد! وعملت السلطات الدكتاتورية، بجانب ذلك، على بعث الحياة في الافكار والعادات والتقاليد البالية، التي تذل المرأة وتدعو وتعمل على تخلفها وتنقض مبدأ مساواتها بالرجل ، وتبرر الظلم والعنف بحقها في العائلة، وفي بيت الزوجية، وكأم، وكمطلقة..الخ، واصدرت تشريعات وتعليمات تكرس ذلك. واسهم الدكتاتورصدام حسين شخصيا في الحملة الرامية الى سلب المرأة العراقية واحدا من اهم المنجزات التي انتزعتها في العقود السابقة بنضالها، وبدعم من قوى المجتمع الحية والتقدمية جميعا، والمتمثل في تحررها من حبس البيت وخروجها الى الحياة العامة وخوضها ميادين العمل والنشاط الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي، وذلك حين دعا علنا، في حزيران 2000 لعودتها الى البيت والبقاء و"العمل" فيه!
لقد عانت المرأة ، في المدينة والريف ، ابان عهد النظام الدكتاتوري من تمييز مضاعف . فبالاضافة الى سياسة التهميش والاقصاء الموجهة ضدها كانت ضحية حروب الحكام الخارجية والداخلية ، التي تركت آثارها الاجتماعية والنفسية الثقيلة عليها. وتكفي الاشارة الى ما ذكرته الاحصائيات من انه ولغاية شباط 2002 كان يوجد في العراق أكثر من 5 ملايين و 200 ألف طفل يتيم ، يعيشون في كنف أرامل وثكالى ، ومعظمهم يعاني من سوء التغذية والأمراض المزمنة والإنتقالية، وقسم كبير منهم من ذوي الإحتياجات الخاصة . 
والى جانب معاناة الكثيرات كونهن من زوجات الضحايا والمفقودين والمغيبين والاسرى في الحروب وفي السجون والمعتقلات ، كانت هناك معاناة غيرهن من حالات العزوبية التي استشرت في المجتمع جراء عزوف الشباب عن الزواج بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة. 
وما أنفكت الأوضاع الأمنية السيئة في عموم العراق بعد سقوط النظام الدكتاتوري ، خاصة أعمال التخريب والتفجيرات والقتل الجماعي ، تحصد يومياً أرواح الأبرياء من الأطفال والنساء، فيتزايد عدد الأمهات الثكالى والأرامل ، وعدد الأطفال اليتامى . 
ويذكر تقرير صادر عن مكتب الامم المتحدة لتنسيق الشؤون الانسانية وجود مئات الآلاف من الارامل في العراق ، فيما تؤكد سجلات وزارة شؤون المرأة وجود اكثر من 300 الف ارملة في بغداد وحدها ، وان 90 الى 100 امرأة عراقية يترملن كل يوم بسبب اعمال القتل والعنف الطائفي والجريمة المنظمة والإرهاب وتشكل نسبة الارامل نحو 35 في المئة من نفوس العراق، ونحو 65 في المئة من نساء العراق، ونحو 80 في المئة من النساء المتزوجات بين سن العشرين والاربعين، وهو سن الخصوبة والإنجاب.
ومع تفاقم الأزمة الإقتصادية والإجتماعية ، وتدهور المؤشرات المعيشية ، وتنامي البطالة بوتائر متصاعدة ، تعاني الأمهات الأمرّين، خاصة منهن الأرامل ، اللواتي يتحملن أعباء إعالة أطفالهن اليتامى.
وفي ظروف استمرار الازمة الاقتصادية والضائقة المعيشية وما يرافقها من تفكك أسري، وكثرة حالات الطلاق والانفصال بين الازواج ، انتشرت وتفاقمت ظواهر خطيرة اخرى، مثل تسرب الاطفال واليافعين من المدارس واضطرارهم للعمل من اجل مساعدة اسرهم علىمواجهة اعباء الحياة . ويجري تشغيل الصغار، والاحداث على نطاق واسع، وفق شروط عمل مجحفة ، وباجور زهيدة جدا ، وهم يتعرضون خلال ذلك الى صنوف الاذى الجسدي والنفسي والاخلاقي . وادى ذلك الى انتشار ظواهر اخرى اشد خطورة في اوساط الاطفال والاحداث ، مثل تناول الحبوب المهدئة والمواد المخدرة ، وازدياد حالات الجنوح وممارسة الجريمة ، خاصة في الاحياء الاشد فقرا، وتسول الاطفال ، وتجارة الاعضاء البشرية. 
بعد انهيار النظام السابق كانت قطاعات واسعة من النساء تتطلع الى تجاوز الحيف والتهميش الذي لحق بهن وبالمرأة العراقية عامة . لكن مسار الاحداث الفعلي يبيـّن ان تحقيق هذا الامل يصطدم بعوائق جدية . وفي ظل الاوضاع الامنية المعقدة وما يرافقها من أزمة بنيوية وفوضى اقتصادية ودور العديد من القوى التي تنظر للمرأة نظرة دونية ، يتوجب بذل المزيد في مواجهة الجهود الرامية الى تحجيم دور المرأة والى الابقاء عليها حبيسة البيت. 
ان التصدي لهذه الظروف والتغلب على الصعوبات التي تواجهها المرأة ، يتطلبان العمل على تحقيق ما يلي :
* مواصلة السعي لتخليص الدستور من الثغرات التي يعاني منها في حقل المرأة ، بما يكفل المساواة التامة بين المرأة والرجل في كل الميادين والمستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والفنية دون استثناء. والتمسك بقانون الاحوال الشخصية 188 لسنة 1959 المعدل . 
* إلغاء جميع القوانين المخالفة للائحة حقوق الإنسان واتفاقية القضاء على كافة اشكال التمييز ضد المرأة ( سيداو ) ، وتلك التي تستهين بدور المرأة ومكانتها في المجتمع أو تشرع التمييز ضدها. 
* دعم جهود المراة للحصول على فرص عمل وضمان استقلالها الاقتصادي ، وتأمين أجر مساو لأجر الرجل في العمل المتماثل. 
* تأمين فرص مناسبة لمساعدة المرأة في تحمل أعباء تربية الأطفال مع الرجل ، ومن خلال فتح دور الحضانة ورياض الأطفال ... الخ. 
* خلق الظروف المناسبة التي تكفل للمرأة احتلال موقعها المناسب في مختلف المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، وتفعيل دورها في البرلمان ، وتخصيص نسبة مناسبة لها تقترب تدريجاً، ومع تطور دورها، من نسبتها الى عدد السكان . 

تطورات الوضع في اقليم كردستان – العراق
شهدت الفترة التي تلت انعقاد المؤتمر الوطني السابع لحزبنا تطورات هامة في اوضاع اقليم كردستان، تناول الحزب الشيوعي الكردستاني - العراق (حشكع) جانبا منها في التقرير السياسي المقدم الى مؤتمره الثالث ( نيسان 2004). فقد تحسنت العلاقات بين قيادتي الحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك) والاتحاد الوطني الكردستاني (أوك)، وتوسع التعاون والتنسيق بينهما، وتحققت، من ثم، خطوات ايجابية في اتجاه توحيد ادارتي اربيل والسليمانية في حكومة موحدة للاقليم .
وتحسنت علاقات الحزبين مع الاحزاب الاخرى في الاقليم ، واسهم ذلك بدوره في تقدم عملية تطبيع الاوضاع وتحقيق المصالحة الكردستانية ، وتسريع عملية توحيد الادارتين ، التي غدت مطلبا جماهيريا ملحا ، يتيح تمتين الجبهة الداخلية في المرحلة الهامة الراهنة التي تعيشها البلاد، مرحلة بناء العراق الجديد على اساس الاتحاد الاختياري ( الفيدرالي ) الديمقراطي .
وفي اطار التوجه نحو التطبيع والتوحيد تمت دعوة برلمان الاقليم للانعقاد واختيار رئاسة له ، والاتفاق على تشكيل الحكومة الموحدة للاقليم ، مع ارجاء عملية توحيد كافة الوزارات مؤقتا، وعلى ان ينجز كل شيء كاملا خلال عام من التوصل الى الاتفاق . ومن المؤمل ان تعزز هذه التطورات التجربة الديمقراطية في الاقليم ، وان تسهم في تحقيق منجزات جديدة على الصعد الاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
وخلال الاشهر الماضية ، باشرت المؤسسات الدستورية : المجلس الوطني الكردستاني ، رئاسة الاقليم ، الوزارة الجديدة الموحدة للاقليم وذات التمثيل الواسع ، مهامها ووضعت ضمن اولوياتها توفير الخدمات واعادة بناء هياكلها التنظيمية والادارية. 
واعلنت حكومة الاقليم برنامجها ، وباشرت تشكيل العديد من اللجان لدراسة ومعالجة اوضاع السوق والارتفاع الجنوني للاسعار والايجارات ، والخلل في التوازن بين الاسعار والاجور ، ومسألة زيادة الضرائب . هذا الى جانب اعادة النظر بالفائض في الملاك الحكومي ، وايقاف التوظيف العشوائي ، والغاء التزكيات الحزبية في التعيين، ومنع تدخل الاحزاب في شؤون الادارة ، ووضع التشريعات والقوانين الجديدة للوزارات ومؤسسات الحكومة، والتوجه لمعالجة الازمات المزمنة في الخدمات وفي تأمين السلع الاساسية : المحروقات ، الكهرباء ، والماء ، فضلا عن مواصلة الجهد لضمان الامن والاستقرار في الاقليم .
وقد تشكل مؤخرا المجلس الاعلى للاحزاب السياسية في اقليم كردستان – العراق من رؤوساء وسكرتاري الاحزاب العاملة في الاقليم لدراسة الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية على ان يتخذ قراراته بالتوافق ويرفعها كتوصيات الى المجلس الرئاسي لاقليم كردستان .
ونتيجة للتوسع في حركة الاعمار والبناء فقد ازدادت اعداد الشركات العاملة في الاقليم وتوفرت فرص عمل جديدة لأيدٍ عاملة من الفنيين والعمال من جنسيات متنوعة ، جاوزعددها الخمسة عشر الفا. والى جانب ذلك شهد الاقليم خلال الفترة الماضية نشاطا واسعا لجهة عقد المؤتمرات والمهرجانات والمعارض العلمية والثقافية والفنية. 
ورغم هذه التطورات ظل الاقليم يعاني من مشاكل مزمنة ، بعضها ذو صلة بمجمل الاوضاع في العراق . ونتيجة لعدم نجاح حكومة الاقليم في ايجاد الحلول الناجعة لتلك المشاكل ، فقد شهدت مدن وقصبات في الاقليم تحركات جماهيرية احتجاجية اتخذت اشكالا مختلفة . وخلال بعض تلك التحركات حصلت مواجهات بين اجهزة الحكومة والمتظاهرين . وفي هذا الشأن اكد الحزب الشيوعي الكردستاني- العراق ان التظاهر حق طبيعي للمواطن وممارسة ديمقراطية ، الا انه رأى في تخريب المؤسسات العامة ظاهرة غير حضارية ، ودعا الحكومة الى مراعاة تطلعات الجماهير والسعي لمعالجة مشكلاتها . وفي هذا السياق اتخذت الحكومة عدة اجراءات للتخفيف من ازمة الوقود ، وقامت بزيادة رواتب ومخصصات المعلمين والمدرسين .
وفي المقابل تكررت الاعتداءات التركية والايرانية على قرى ومدن كردستانية بذريعة تصفية وجود حزب العمال الكردستاني (التركي) ، واوقع ذلك اضرارا بشرية ومادية ، الامر الذي لا بد من ادانته والتاكيد على معالجة المسألة بعيدا عن الحملات والاعتداءات العسكرية واستخدام المسألة ذريعة للتدخل في شؤون الاقليم خاصة، والعراق عامة .
في هذه الاجواء، وانطلاقا من طبيعة المرحلة الراهنة، ومن الظروف المحيطة بالقضية القومية الكردية وارتباطها الوثيق بقضية الديمقراطية في العراق، ونظرا الى حجم المهام المطروحة في هذه المرحلة غير العادية حيث يتداخل الوطني بالديمقراطي ، سعى الحزب الشيوعي الكردستاني لتكوين اطر تحالفية او تنسيقية تستطيع التصدي لانجاز مهمات المرحلة الانتقالية الراهنة . ويتعلق الامر قبل كل شيء بايصال العملية السياسية الجارية في البلاد الى غايتها، وخوض الانتخابات الوطنية العراقية (وحتى الانتخابات المحلية الكردستانية) بقائمة ائتلافية مع الاحزاب الكردستانية الاخرى ـ وهو ما تحقق بالفعل . ومن شأن ذلك ان يعزز التوجه الى بناء الدولة والنظام السياسي الجديد في العراق على اساس الاتحاد الاختياري (الفيدرالي) الديمقراطي، الذي يجسد احترام حقوق الانسان وحقوق القوميات كافة وسائر الانتماءات السياسية والفكرية والعقائد الدينية .
لقد اكد حزبنا مرة بعد اخرى الترابط الوثيق بين النضال من اجل الديمقراطية في العراق وتمكين الشعب الكردي من تقرير مصيره بارادته الحرة، وضمان تمتع اقليم كردستان بالفيدرالية المنصوص عليها دستوريا ، وضمان الحقوق القومية للتركمان والاشوريين والكلدانيين والسريان والارمن، وازالة كل ما يسمم اجواء التنوع والتسامح القومي والديني والطائفي والمذهبي والسياسي والفكري لشعبنا.

انهاء الاحتلال واستعادة السيادة الوطنية
ادى سقوط النظام بالطريقة التي سقط بها ، عن طريق خيار الحرب الذي عارضه حزبنا ، ثم احتلال الامريكان بلادنا وشرعنة هذا الاحتلال بصدور القرار 1483 عن مجلس الامن، ادى ذلك كله الى نشوء واقع جديد في بلادنا ، يجسده الاحتلال والحكم الاجنبي .
وكما اشرنا من قبل فان شعبنا رغم ابتهاجه بالخلاص من صدام حسين ونظامه ، لم ينثر الورود ابتهاجا بدخول القوات الأجنبية ولم يستقبلها بالأحضان. وهو يتطلع إلى إنهاء الاحتلال واستعادة الاستقلال والسيادة الوطنية .
أن مقاومة الاحتلال حق يكفله ميثاق الأمم المتحدة . وهي حق للشعب العراقي الذي وقع تحت سلطة الاحتلال وفقا لقرار مجلس الأمن 1483، وله ان يمارس أشكال النضال المختلفة ، لإنهاء الاحتلال واستعادة السيادة الوطنية . لكن مقاومة الاحتلال لا تعني اعتماد الأساليب العنفية وحدها، وإنما تشمل كذلك الأشكال المتنوعة للنضال السياسي السلمي . وتعلمنا التجارب ان الشعوب لا تلجأ إلى الكفاح المسلح إلاٌ حين تضطر إلى ذلك بعد استنفاد الوسائل السلمية.
وتكاد القوى الوطنية العراقية بكل أطيافها، ومنها حزبنا، تجمع على أن الأساليب العنفية ليست الأنسب والأجدى في ظروف بلادنا اليوم ، وطالما لم تستنفد الصيغ السلمية.
بل أن من شأن العمليات المسلحة في الظروف الراهنة، والعوامل المتداخلة فيها، ان تلحق الضرر بالهدف المتوخى ، والمتمثل في الخلاص من الاحتلال في أسرع وقت ممكن . فهي توفر المبرر للقوى المحتلة لإطالة أمد بقائها في بلادنا ، وتديم أجواء التوتر والقلق والخوف في أوساط شعبنا ، وتضر بالجهود الرامية إلى تهيئة شروط ومستلزمات انهاء الاحتلال وبضمنها وضع جدول زمني لجلاء قواته. 
وليس غريباً أن تستثير تجاوزات قوات الاحتلال وممارساتها واستخدامها المفرط للقوة ، ردود فعل عنيفة تأخذ شكل عمليات مسلحة .
وإذ يتوجب التمييز بناء على ذلك بين الجماعات والقوى التي تقوم بالعمليات المسلحة ، ينبغي في الوقت عينه ادراك أن العنف المضاد والأساليب القسرية وحدها لا تستطيع القضاء على العمل المسلح . انما السبيل الى ذلك يمر عبر معالجة شاملة، تفضي في النهاية الى تهيئة مستلزمات انهاء الوجود العسكري الاجنبي واستعادة السيادة الكاملة . وهذا يتعارض تماما مع الاعمال الارهابية والتخريبية التي تشمل المواطنين الابرياء والمنشآت والمؤسسات والمرافق الاقتصادية والخدمية ، فضلا عن العسكرية والامنية . 
من جانب ثانٍ اكد حزبنا اهمية انجاح العملية السياسية والوصول بها الى نهايتها ، باعتبار ان ذلك يسهم في تهيئة الظروف والمستلزمات لانهاء الاحتلال ووجودالقوات الاجنبية . كما طالب الحكومة بوضع جدول زمني لانجاز هذه المهمة ، ودعاها الى ممارسة حقها السيادي والحيلولة دون حدوث المزيد من التجاوزات والانتهاكات من جانب تلك القوات ، والعمل على استعادة السيطرة الكاملة على موارد البلاد والتحكم باستخدامها وفقا لحاجات البلاد وأولوياتها ، وصولا إلى استعادة السيادة الوطنية الكاملة.
ولعل من أهم شروط استكمال السيادة الوطنية ، السيطرة على الملف الأمني وإدارته وفق أولويات المصلحة الوطنية ، والتعامل معه باعتباره جزءا عضويا من سلسلة ملفات اقتصادية واجتماعية وسياسية وعسكرية واعلامية ، تسهم مجتمعة في تجفيف منابع الارهاب ، وتقلص تدريجيا القوى التي يستند اليها ، وتخلق الشروط الكفيلة بتحسين مجمل الاوضاع ، بما يؤثر ايجابا في الوضع الامني ذاته . ولا شك ان تحقيق التقدم على هذه الصعد سيتيح تحديد اجندة واضحة لرحيل القوات الاجنبية، وخلق المستلزمات المادية والسياسية لذلك.

نحو معالجة شاملة للملف الامني
توقف حزبنا باستمرار امام هذا الملف الشائك والبالغ التعقيد ، الذي ما زال يشكل الهاجس الاساسي للمواطن العراقي ، ومصدر القلق لكل فئات وشرائح المجتمع . 
واستنادا الى تحليل ملموس لهذا الملف يتوجب القول ان الوضع الامني في البلاد لم يتحسن ، رغم ما تم اتخاذه من اجراءات وما تم تنفيذه من حملات وما وضع من امكانيات تحت تصرف القوى الامنية ، لا سيما في بغداد ، بل على العكس سجل تدهورا ملحوظا في مناطق عديدة ، وفي بعضها حتى لم يعد ثمة وجود لفعل الدولة ومؤسساتها، وخصوصا الامنية منها . 
من جانب اخر تبقى اهداف العمليات الارهابية هي نفسها ، في السعي لاشاعة اجواء الخوف والتوتر ، ومفاقمة الاحتقان الطائفي والاجتماعي ، وسلب الاموال ، وخلط الاوراق ، ومن ثم اجهاض العملية السياسية وشل الحياة العامة . و في بعض المناطق اخذ استخدام العنف والقوة ابعادا اخرى لها صلة بتقاسم مناطق النفوذ والهيمنة والحصول على المغانم . كما يلاحظ ان بعض العمليات الارهابية يتم توقيتها لتحقيق اهداف سياسية معينة ، فيما تستهدف عمليات اخرى تكوين مناطق من لون طائفي واحد عبر التهجير الجماعي القسري لذوي اللون المغاير. 
ويجري تنفيذ الكثير من عمليات الخطف والقتل والتصفيات بملابس الجيش والشرطة وباسلحتهما وسياراتهما، الامر الذي يعزز الشعور بالقلق وعدم الثقة لدى المواطنين. وقد خفت تلك الظواهر عند انطلاق حملة فرض القانون.
ويبقى تدخل بعض دول الجوار واضحا في الملف الامني ، ويتم ذلك عبر الدعم المالي واللوجستي والتسليح والتدريب وغير ذلك . في حين لا تزال اجهزة الدولة المعنية دون المستوى الضروري للتصدي بنجاح لقوى الارهاب ، ولفرض الامن والاستقرار. ويعود ذلك الى اسباب عديدة ، لعل في مقدمتها الخلل الكبير في تركيب تلك الاجهزة ، وفي بنائها على اسس بعيدة عن روح المواطنة والمهنية ، فضلا عن ضعف التسليح والتدريب . 
وازدادت عمليات العنف والخطف والقتل على اساس الهوية ، لتزيد من تعقيد الوضع ، خاصة منذ تفجير مرقد الامامين في سامراء ، وهي تأخذ في بعض المناطق طابعا منظما. 
ولاهمية معالجة الملف الامني فقد ساند حزبنا ودعم خطة فرض القانون على ان تشمل كافة مناطق العاصمة وتمتد الى سائر ارجاء الوطن ، مؤكدا ان معالجة الملف الامني صعبة التحقيق من دون حزمة متكاملة من الاجراءات العسكرية والامنية والسياسية والاقتصادية والاعلامية والثقافية. وقد بينت التجربة ان العمل العسكري، على اهميته، لن يفلح بمفرده في ضبط هذا الملف والقضاء على النشاط الارهابي والاعمال التخريبية 
ان تحقيق أي تقدم جدي على صعيد هذا الملف مشروط باتخاذ خطوات جريئة وحازمة على طريق المصالحة الوطنية وحل الميليشيات وإزالة أجواء الاحتقان الطائفي ، وستكون لذلك انعكاسات ايجابية على سائر الملفات الاخرى .

ضرورة انهاء دور المليشيات
اكد حزبنا ان المليشيات ظاهرة غير صحية ، ولا يمكن بوجودها ان تستقيم الامور وتتوفق العملية السياسية وتترسخ الممارسة الديمقراطية . بل ان وجودها، بحد ذاته، يؤشر ضعف الدولة ومؤسساتها الامنية . 
وقد تعاظم دور المليشيات ، حتى حلت في احيان وحالات كثيرة محل مؤسسات الدولة . ويعني هذا ما يعنيه من تغييب لدورالدولة واضعاف لهيبتها وعرقلة لتاسيس دولة القانون والمؤسسات وتخريب للديمقراطية. 
وبعد احداث سامراء اخذ نشاط المليشيات يرتدي ، بصورة متزايدة ، طابعا طائفيا ، وتجلى ذلك في ارتكاب جرائم الخطف والتعذيب والتهجير القسري وحتى القتل ، تبعا للهوية المذهبية . 
ووجد البعض في العمل لدى المليشيات مهنة تؤمن له القوت ، في وقت تستشري فيه البطالة، وتعزّ فرص العمل . فيما تشير معطيات اخرى الى تحول قسم من تلك المليشيات الى مافيا جريمة منظمة.
وثمة حجج تساق لتبرير وجود الميليشيات بدعوى انها تحمي أبناء الطائفة المعنية، وأنها نشأت كرد فعل على تجاوزات واعتداءات ميليشيات الطرف الآخر ، وأن وجودها يعوض غياب اجهزة الدولة الموثوقة. ولكن واقع الحال يشير إلى أنها لم تضمن أمن أيٍّ من الطوائف والمكونات التي تدعي حمايتها ، كما أن أفعال كل منها أصبح بدوره يثير ردود فعل مقابلة ، مطلقاً مسلسل عنف وعنف مضاد دموياً ، راح ضحيته الآلآف من الأبرياء من جميع مكونات الشعب ، حتى باتت أعمال الميليشيات تمثل عائقاً رئيسياً أمام جهود بناءمؤسسات وأجهزة الدولة وبسط سيطرة القانون وتأمين السلم المدني. 

الاستقطاب الطائفي ومخاطره
تناول حزبنا في مناسبات مختلفة ظاهرة الاستقطاب الطائفي ومخاطرها على حاضر العراق ومستقبله، في ضوء حقيقة ان مجتمعنا متعدد القوميات والاديان والطوائف والمذاهب ، وان دوام انسجام مكوناته وتماسكها مرهون بالتطبيق الصارم لمبدأ المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات ، ونبذ التعصب والانغلاق، ورفض تكريس الولاء الطائفي بديلا عن الهوية الوطنية وعن الولاء للعراق كوطن للجميع. 
وواضح أن تفاقم التوترات الطائفية ، التي اسست لها الدكتاتورية المنهارة ومارستها ، ناجم في جانب منه عن سياسات الاحتلال واجراءاته ، ولجوئه الى التصنيف الطائفي والقومي لمجتمعنا على نحو كرس الانقسام ، وشكل عائقاً جدياً أمام معالجة الآثار البغيضة لنظام الاستبداد.
لكنه من جانب اخر، حصيلة لاستمراء بعض القوى السياسية نهج الاستقطاب الطائفي والقومي ، بديلا عن البرامج السياسية ، في المنافسة مع القوى الاخرى للوصول الى السلطة والتحكم بمراكز القرار فيها . وقد تجلى ذلك بوضوح خلال الحملات الانتخابية في اعتماد اسلوب التهييج الطائفي، والسعي الى تأمين الفوز عن طريقه . 
وتبذل قوى الإرهاب من جانبها جهودا هائلة لإثارة ومفاقمة مشاعر العداء والكراهية الطائفيين، ولاستثمارها في معركتها الوحشية لاحباط مساعي بناء الديمقراطية في العراق . ولم يكن الاعتداء على مرقد الامامين في سامراء ، وما تلاه من ردود فعل ، سوى دليل اخر على هذا التوجه الاجرامي الخطير، الذي يتوجب تكثيف الجهود لقطع طريقه.
وما زالت الصراعات الطائفية ، التي تفاقمت في الفترات الاخيرة ، تتفاعل بوتيرة ملحوظة وتاخذ ابعادا خطرة، تهدد مجمل العملية السياسية . و تعاني من ذلك على وجه الخصوص، المناطق المتداخلة طائفيا مثل بغداد، ديالى ، البصرة وغيرها. ففي الكثير من مناطق هذه المحافظات حصل فرزعلى اساس طائفي، رافقته انتهاكات فظة وعنف وعمليات تهجير قسرية متبادلة. 
ويمثل اشتداد الاستقطاب الطائفي تهديداً كبيراً للعملية السياسية ، لكونه يقسِّم القوى المشاركة فيها ويؤجج نقاط الخلاف ويسهم في خلط الأوراق ويخلق ثغرات جدية ينفذ منها التكفيريون والصداميون والارهابيون ورجال المليشيات ، ويضعف العمل من اجل تحقيق الاهداف الوطنية . 
ولابد من الاقرار بان شرخا كبيرا قد حصل، واندلعت صراعات فاقت الحدود في شدتها ، وليس من السهولة احتواؤها . ويحتاج الامر الى مقاربات متعددة وحلول مرنة تتطلب ارادة ومواقف سياسية واضحة وصريحة وتنازلات متبادلة ، وان تكون القوى ذات النفوذ والتاثير، ولاسيما تلك المشاركة في الحكم ، اول من يقدم عليها . 
وتبقى الحاجة قائمة الى مزيد من التحرك والضغط في كل المجالات الممكنة ، باتجاه خلق مناخات تساعد على تجاوز الوضع المأزوم ، وتحول دون أي تدهور خطير فيه. 

الهجرة داخل العراق وخارجه
لاسباب مختلفة تتواصل هجرة العراقيين داخل العراق وخارجه وتتزايد اعداد المواطنين الذين يتركون بلدهم تحت وطاة تأثير الاوضاع الامنية المتردية وتفاقم حالة الاستقطاب الطائفي والقتل والخطف والتهجير القسري على الهوية ، يضاف الى ذلك الصعوبات الاقتصادية وقلة فرص العمل وتردي الخدمات ،كما كان للعنف والاحتقان الطائفيين دورهما البارز في الهجرة الداخلية وما زال المهجرون قسرا يعانون الكثير .وشملت الهجرة اعدادا كبيرة من المثقفين والمختصين والكفاءات العلمية . 
ان الحكومة مطالبة بتقديم كل اشكال الدعم والمساندة الممكنة للمهجرين والمهاجرين والسعي لتذليل الاسباب التي تفاقم ظاهرة الهجرة والتعاون مع المنظمات الدولية والدول ذات العلاقة في هذه الشأن،

المصالحة الوطنية
في مسعى لوقف نزيف الدم ، وصيانة ارواح ابناء الشعب على اختلاف انتماءاتهم السياسية ومنحدراتهم القومية ومعتقداتهم الدينية ومذاهبهم ، والعودة بالاوضاع في البلاد الى طبيعتها في ظل الامن والاستقرار، وضمان نجاح العملية السياسية واقامة العراق الديمقراطي الاتحادي ودولة القانون والعدل ، اطلق حزبنا غداة التفجير الاجرامي في سامراء نداءً للحوار الوطني الشامل بين القوى السياسية جميعا باستثناء الصداميين والتكفيريين وقوى الارهاب الاخرى ، اعداء الشعب والديمقراطية. 
واوضح الحزب ان بلوغ هذا الحوارغاياته، يستلزم رفض أي تهميش اواقصاء لأي جهد وطني يرفض العنف كوسيلة لحل الخلاف ، ويبدي الاستعداد للجلوس الى مائدة المفاوضات لحل المشاكل القائمة ، والبحث الجدي في توسيع قاعدة المشاركة ، كضمان للسير الى الامام وانقاذ البلاد.
وانسجاما مع الموقف هذا رحب حزبنا باعلان مشروع المصالحة من قبل رئيس الوزراء ، باعتباره خطوة هامة واساسية في اتجاه تطبيع الاوضاع وتأمين استخدام كل الوسائل للانتقال بالبلاد الى اوضاع افضل، خاصة وانها جاءت في وقت تمسّ فيه الحاجة اليها، وهي تمثل طريقا للتوصل الى تسوية سياسية تضمن مصالح الجميع ، ومن شأنها ان تجتذب المزيد من القوى للمشاركة في العملية السياسية، وتخلق اجواء ثقة بين كل الاطراف . 
ويعكس مشروع المصالحة من جانب آخر تطورا في منهجية ادارة الحكم، يتجلى في الانتقال من نمط معين من التفكير الى آخر، من المعالجة الاحادية (العسكرية) الى اعتماد مجموعة من الاجراءات لتحسين الاجواء ولخلق المناخات المناسبة للحوار وللتوصل الى قواسم مشتركة تقود الى حل الازمة التي تعصف بالبلاد . 
ورأى الحزب ان وجهة المصالحة سليمة رغم تواضع نتائجها لحد الان ، وان من الواجب اسنادها . فالبلد عانى كثيرا، والمطلوب هو المساهمة في تفعيل ما يمكن تفعيله من ادوات ، وتوسيع دائرة الضغط الشعبي لاسناد مشروع المصالحة ، وبما يضمن تحوله الى برنامج لعمل الحكومة ومجلس النواب والاحزاب والكتل السياسية. وفي المقابل ، فإن المراهنة على فشل مشروع المصالحة انطلاقاً من حسابات سياسية ضيقة ، ينم عن نظرة غير مسؤولة أو عدم وعي لحقيقة أن فشل هذا المشروع سيدفع بالبلاد الى منزلقات خطيرة قد يطال حريقها الجميع .
ان نجاح مشروع المصالحة يتطلب جملة من الشروط : 
1- توفر ارادة سياسية حقيقية لدى الاطراف جميعا ، والتعامل من جانب الكل بحرص ومسؤولية بعيدا عن الانتقائية والنزعة الانانية والتحزب الضيق والتخندق الطائفي ، والتخلص من ازدواجية المواقف ، والتحلي بالمرونة والشجاعة في تحمل المسؤولية ووضع مصالح الوطن فوق كل اعتبار. 
2-تفعيل مجموعة الاجراءات التي طرحتها المبادرة ، لاسيما المتعلقة بالمليشيات والاجتثاث وغيرهما ، وبما يوفر لها الصدقية في التطبيق العملي. 
3-تهيئة عوامل دعم المشروع واسناده داخليا ، عربيا ، اقليميا ودوليا.
4-ان تعتمد الاطراف السياسية المختلفة خطابا سياسيا– أعلاميا متوازنا ، يجنح الى العقلانية والتهدئة والامتناع عن التصريحات المثيرة والمؤججة للمشاعر ، والسعي الدؤوب للتثقيف ضد الطائفية ومخاطرها. 
5-وقف نشاط المليشيات ايـّا كان لونها ، في موازاة الارتقاء التدريجي بامكانات القوى الامنية وبقدرتها على حماية ارواح المواطنين وممتلكاتهم . وعلى الكتل السياسية ، لاسيما المشاركة في العملية السياسية ، ان تضرب المثال الجيد في هذا الشأن وتقدم طواعية على اتخاذ اجراءات ملموسة في هذا الاتجاه . 
6- العمل الجاد على بناء مؤسسات الدولة ، لاسيما الامنية ، على اساس الكفاءة والمهنية والنزاهة والوطنية ، بعيدا عن المحاصصات الطائفية والقومية ، واقدام الاحزاب والكتل السياسية على ما يطمئن المواطن الى ان تنافسها ، بما في ذلك على السلطة ، يتم بالطرق الديمقراطية والسلمية ، بعيدا عن الارهاب والعنف والاكراه . 

تطبيع الاوضاع في كركوك
لا تزال قضية كركوك ، مدينة التنوع والتآخي القوميين ، والتي تفاقمت فيها في الفترة الاخيرة المشاكل الامنية وتصاعد النشاط الارهابي والتوتر الاثني ، بحاجة الى جهود مثابرة ومكثفة وارادة سياسية صادقة ونوايا حسنة ، لحلها بروح التسامح والتآخي والانسانية ، وبالتطبيق السليم للمادة(140) من الدستور العراقي . وتفعيل كل الآليات الضرورية لتحقيق ذلك ، بما فيها عمل لجنة التطبيع العليا واهمية انتظام اجتماعاتها ومنحها الصلاحيات المطلوبة وتخصيص المال الكافي لادائها مهامها خلال الفترة المحددة دستوريا ، وتطبيق قراراتها التي اتخذتها مؤخرا وصادق عليها مجلس الوزراء .

الفيدرالية والموقف منها
يرى حزبنا في نظام الحكم الاتحادي شكل الحكم المناسب للعراق. وقد تبنينا هذا الموقف منذ اوائل التسعينات من القرن العشرين ، ارتباطا بالتطورات في اقليم كردستان – العراق غداة انتفاضة آذار 1991، ونحن نرى الان ضرورة تعزيز الفيدرالية في الاقليم ، باعتبارها الحل الديمقراطي للقضية القومية الكردية في ظروف العراق الملموسة . 
كما اننا نؤيد من حيث المبدأ اقامة نظام اتحادي (فيدرالي) في العراق ، وتشكيل اقاليم وفقا للدستور ولقانون تكوين الاقاليم ، وندعم توزيع الصلاحيات بين المركز والمحافظات بما يؤدي الى تعزيز اللامركزية ، سواء على نطاق العراق ككل او ضمن الاقاليم . 
ونرى ان من الضروري، عند تشكيل اقاليم جديدة، مراعاة الآليات الواردة في الدستور والقانون ، والتأكد من الحاجة الفعلية لتكوين الاقليم المعني ، وتلبيته طموحات المنطقة المعنية وتعبيره عن ارادتها الحرة ، بعيدا عن الطائفية والفرض والاكراه . ومن الضروري ايضا ان يتم كل ذلك في اجواء التوافق الوطني ، وان يرتبط التنفيذ بتوفير الاجواء المناسبة ، ومراعاة الاولويات الملحة المتعلقة بانجاح المصالحة الوطنية وتهدئة الاوضاع الامنية واعادة الاستقرار. وسيكون تشكيل الاقاليم في اطار العراق الديمقراطي الموحد على هذا النحو ، بعيدا عن الطائفية والنزعات الضيقة الاخرى ، عامل استقرار وطمأنينة وتمتينٍ للوحدة الوطنية المقامة على اساس الارادة الحرة والاتحاد الطوعي . 

حول التيار الديمقراطي وقواه
عكست نتائج الانتخابات العامة وتركيبة الحكومة، اهمية الدور الذي ينبغي ان تنهض به القوى الديمقراطية والتيار الديمقراطي عموما ً. وتقف عوامل كثيرة وراء عدم اضطلاع التيار، حتى الآن، بدوره هذا كاملا. ويرتبط بعض هذه العوامل بحملات القمع والتصفية والملاحقة المديدة ، التي تعرض لها حزبنا وسائر القوى والعناصر الديمقراطية الاخرى ، فيما يندرج البعض الآخر ضمن ما نجم عن التحولات العميقة التي شهدها المجتمع العراقي خلال العقود الثلاثة الماضية، وما أفرزته من تخلخل في بنيته بفعل انهيار النشاطات الإنتاجية ، وانسحاق الفئات الوسطى وتدهور مكانتها. وهناك عوامل أخرى ترتبط بالتغييرات التي شهدها العالم مع انهيار العديد من الأنظمة الاشتراكية السابقة ، فضلا عن التشتت الشديد لقوى التيار الديمقراطي نفسه وضعف نشاطها عموما. 
ويتعين على قوى التيار ان تعي الواقع هذا ، ليتسنى لها التقدم بخطوات عملية وفاعلة نحوجمع طاقاتها وشد لحمة التيار وتفعيل دوره . فبناء وحدته لا بد ان يكون عملية نضالية متصاعدة، تستند إلى أسس سليمة وتتطلب التحلي بالصبر ورحابة الصدر والاستعداد لادارة حوار بناء بين مكونات التيار، والعمل الحثيث لبلورة توجهاته واطر العمل المشترك بين عناصره . وقد بذل حزبنا جهوداً كبيرة في هذا الاتجاه ، وسيواصل سعيه هذا كما سيتفاعل ايجابياً مع كل المبادرات والتحركات الرامية الى تنشيط القوى الديمقراطية وتوحيد جهودها.

العملية السياسية وتناقضاتها ، آفاق الوضع
شهدت الفترة منذ سقوط النظام الدكتاتوري حتى الان نشوء اشكالات وتعقيدات وصعوبات ، ترتبط بالتباينات والتناقضات في الساحة السياسية . 
فإلى جانب التناقض بين الشعب والاحتلال ، هناك تناقض الشعب مع بقايا النظام الدكتاتوري البائد وتركته، وتناقضه مع قوى الارهاب والظلام والتطرف عموما .
وثمة من جهة اخرى الاختلافات في رؤى واجتهادات الاطراف والكتل السياسية ، سواء منها المساهمة في العملية السياسية او التي تقف خارجها .
وتتجلى التعقيدات كذلك في تصاعد إعمال الإرهاب والتخريب ، التي يسعى بعضها للظهور بمظهر "المقاومة الوطنية"، في حين لا تعدو كونها، في الغالب ، مشاريع بدائل استبدادية مناهضة للديمقراطية. وهي في سعيها للوصول إلى غايتها لا تتورع عن تقتيل المدنيين الأبرياء بالمئات والآلاف وتدمير ممتلكات الدولة (مثل معدات النفط والكهرباء) والاعتداء على الاجهزة الامنية والعسكرية حديثة التكوين ، والسعي لمنعها من اداء واجباتها وابادة منتسبيها . ونشأت اخيرا تعقيدات اخرى تتمثل في القتل على الهوية والتهجير المتبادل وتأجيج التعصب الطائفي ، الى جانب استفحال دور المليشيات ، وفرضها نفسها بديلا عن الاجهزة الحكومية ، مما اضعف نفوذ الدولة وهيبتها.
وارتبط هذا كله ايضا بالبطء في مباشرة عملية الأعمار وفي انعاش الاقتصاد العراقي ككل ، وبعدم حماية حدود الوطن ومنع تسلل العناصر المعادية . كما ارتبط بتفشي البطالة ، وتدهور الخدمات ، وتردي الاوضاع المعيشية لفئات واسعة من أبناء الشعب واشتداد معاناتها ، وتفاقم مظاهر الفساد المالي والإداري وسرقة أموال الشعب وممتلكاته ، واهدار المليارات ايام سلطة الاحتلال او في عهد الحكومات التي تلت تلك السلطة ، واستمرار عمليات تهريب النفط الى الخارج . 
من جانب آخر بقيت موارد العراق محدودة ، رغم الارتفاع العالمي الكبير في اسعار النفط ، حيث لا تكاد تلك االموارد تفي باحتياجاته الاساسية ، ناهيكم عن تأمين مستلزمات اصلاح وتطوير الهياكل الارتكازية والخدمات في القطاع النفطي ذاته وفي القطاعات الإنتاجية الاخرى. ويرجع السبب في ذلك ، كما سبقت الاشارة، الى استمرار عمليات التخريب التي تعطل جزءاً من الطاقات التصديرية للنفط، كما يعود الى سوء الإدارة، وعدم تبلور استراتيجية تنموية واضحة، إلى جانب تلكؤ الدول المانحة في تسديد التزاماتها، واعتمادها أولويات لا تنسجم بالضرورة مع أولويات شعبنا وبلادنا.
استناداً الى ذلك كله يصح القول أن مؤتمرنا الثامن ينعقد في منعطف تاريخي يمر به الشعب والوطن، في لحظة يعتمد على نتائج حسم الصراع فيها الكثير مما يتعلق برسم ملامح مستقبل العراق ، وتقرير مصائره، وتشكيل نظامه السياسي اللاحق . ويتركز الصراع اليوم بين اتجاهين متناقضين :
الاتجاه الاول يسعى لاعادة بناء البلد بدءاً بضمان الامن والاستقرار وتطبيع الاوضاع وتحقيق الطمأنينة ، ومروراً بدحر الارهاب والارهابيين ، وتأمين لقمة العيش ، وتوفير الخدمات الاساسية الضرورية، وبناء المؤسسات الديمقراطية وكل ما هو ضروري لاقامة العراق الديمقراطي الفيدرالي الموحد ، والعمل على انهاء الوجود العسكري الاجنبي و استكمال السيادة والاستقلال.
والاتجاه الثاني يسعى الى عرقلة المسيرة السياسية الراهنة ، ومنع شعبنا من إقامة النظام الديمقراطي الفيدرالي التعددي ، معتمدا في ذلك اعمال الارهاب والعنف العشوائية ، وجرائم الاغتيال والتقتيل ، وتخريب منشآت الدولة والخدمات العامة . ويضم هذا الاتجاه بقايا النظام المنهار وحلفاءهم من قوى الظلام والإرهاب ، ومن عصابات الجريمة المنظمة ، تدعمهم العناصر المتسللة عبر الحدود
وهناك بين الاتجاهين المشار اليهما وسط واسع متنوع المنطلقات والهويات والانتماءات والتوجهات الفكرية والسياسية . لكن المصلحة الموضوعية لمعظم هذا الوسط تكمن في انتصار الديمقراطية وتحقيق الهدوء والاستقرار والحياة الآمنة ، رغم ما يتنازعه من رؤى وتصورات متباينة لمستقبل العراق السياسي ولطبيعة نظامه الاجتماعي ، وهي رؤى وتصورات تعكس مصالح طبقات وفئات مختلفة في المجتمع .
في الجانب الآخر من هذا الوسط توجد عناصر معارضة، غير مسلحة بالاساس ، تعتمد الرفض والموقف السلبي من العملية السياسية . وهناك عناصر غيرها ، تساند اللجوء الى العنف باعتباره "مقاومة وطنية"، فيما تغيب ملامحها وحضورها السياسي الفعلي في لجة الاعمال الشائنة المؤذية التي يقوم بها الارهابيون والمخربون . ولا تعدم هذه اللوحة طبعا وجود عناصر وفئات متفرجة ، انعزالية أو طامحة الى منافع خاصة ضيقة، وهي تلعب على تعقيدات الوضع ، وليس لها عمق جماهيري.

ماهي الاسباب الفعلية لتعقد الوضع؟
ثمة طائفة من الاسباب ، نورد في ما يلي اهمها : 
اولا: الحرب وآثارها واستحقاقاتها . وقد اوضح حزبنا في حينه ، وكما سبقت الاشارة ، انه يرفض خيار الحرب نظراً إلى ما ينجم عنه من سقوط ضحايا ، ومن دمار وخراب ، ونظرا الى أن الحرب والتدخل العسكري الخارجي لن يأتيا بالشروط المواتية ولا بالاستقرار والطمأنينة الضروريين لاقامة الديمقراطية واعادة بناء الوطن لصالح جماهير شعبه.
وبيّن مسار الاحداث الفعلي لاحقا صواب تحليل حزبنا هذا بشأن الحرب وتداعياتها واستحقاقاتها. فعدم تحكم العراقيين المناهضين للاستبداد والارهاب والراغبين في الديمقراطية ، باسلوب التغيير، هيّـأ الفرصة للآخرين لفرض خيارهم . لذلك رافق عملية اسقاط النظام الدكتاتوري عن طريق الحرب الكثير من التداعيات والتعقيدات والمظاهر السلبية. 
فلقد اشاع سقوط نظام صدام ، مثلا ، اجواء من الانطلاق غير المقيّـد . سوى أن توفر الحرية المنفلتة افاد ليس فقط الناس المتعطشين لها، بل استثمره ايضاً اعداء التغيير الديمقراطي . وهكذا فان رجالات النظام المنهار ، ورؤوس وعناصر اجهزته القمعية ، والمتطرفين وعامة قوى الردة، وجدوا الفرصة متاحة لاعادة ترتيب امورهم وتحقيق مآربهم وهم يمتلكون المال والامكانيات المتنوعة ، بدل ان يواجهوا الملاحقة ويجري تطويق نشاطاتهم وتقييدها. 
ثانياً: ترتب على سقوط النظام وعلى الاحتلال، وانهيار دولة العراق "الحديثة" القائمة منذ ما يقارب الثمانين عاما ، تخلخل عاصف في التوازنات الرئيسية للكيان السياسي العراقي ، يمكن ان نلخص عناصره وملامحه على النحو الآتي: 
* الفقدان الكلي للسيادة الوطنية والانهيار الفعلي للدولة "الوطنية" بفعل مشترك من النظام السابق الذي هرب ، وانسحب جميع مسؤوليه الرئيسيين في الدولة من مواقعهم ومؤسساتهم ، ومن قوات الاحتلال التي سمحت بنهب مؤسسات الدولة ودوائرها وتخريبها. 
* عدم اقتران انهيار السلطة السياسية للدكتاتورية بتحطيم جميع مكوناتها البنيوية وبالقضاء على قواها. فجزء كبير من جسمها المؤسسي الحزبي والامني بقي محتفظا بامكانات عسكرية وتنظيمية لا يستهان بها فضلا عن الاموال الطائلة ، بعدما آثر من جانبه الانسحاب على المواجهة ، فيما لم تطل الملاحقة الا بعض رموزه ،حيث حوكم واعدم مؤخرا عددا منهم وبضمنهم الطاغية صدام حسين . 
* تفكك التوازنات المجتمعية (ومن بينها القومية والطائفية) التي كانت تقوم عليها الدولة المنهارة ،وتحول الميزان لمصلحة المجموعات (القومية والطائفية والجهوية) التي كانت تشعر بالظلم ، وكان الظلم فعليا. 
* انهيار نمط الدولة مفرطة المركزية ، القائمة على الاستبداد السياسي والسلطة الشمولية التي تستمد شرعيتها من عقيدة ايديولوجية فقدت صدقيتها نتيجة الخيبات والانكسارات والمآسي التي جرتها على الشعب. 
* سعي قوات الاحتلال ، بالتعاون مع بعض القوى السياسية ، لدفع العراق سريعا على طريق اقتصاد السوق المنفلت ، عبر ازالة الضوابط وحجب الصلاحيات عن مؤسسات الدولة وفتح الاقتصاد العراقي على مصراعيه وتهيئة الاجواء للخصخصة الواسعة. وبنتيجة ذلك انطلقت في البلاد عملية تحولات اقتصادية بنيوية. 
* عدم اقتران انهيار النظام الدكتاتوري بظهور مشروع سياسي اجتماعي ، مشروع وطني بديل، ولم يكن ذلك معزولا عن الدور الاميركي على مدى سنوات قبل سقوط النظام. وافرز الوضع الجديد حالة من التشتت تجد جذورها في سنوات القمع الطويلة ونتائج الحروب الكارثية والتدخلات الخارجية الاميركية والاقليمية. 
* تسليم السلطة ، غداة سقوط النظام الدكتاتوري ، الى الاحتلال وليس الى ممثلي الشعب وقواه التي ناضلت ضد ذلك النظام ، وقدمت التضحيات في سبيل اسقاطه . وقد اضفيت "شرعية دولية"على وجود الاحتلال بموجب قرار مجلس الامن الدولي رقم 1483.
ثالثا: السياسات الفاشلة لـ "سلطة التحالف المؤقتة"، وسعيها الدائب طيلة فترة وجودها، الى منع تشكيل اجهزة امنية ـ عسكرية عراقية كفوءة، في ظل انهيار كامل لمؤسسات الدولة رافق عملية سقوط النظام ، اجهزة بديلة عن تلك القديمة التي انحلت فعليا، ثم اعلن حلها رسميا بقرارات شكلية صادرة عن قوات الاحتلال. 
ويجدر هنا عدم اهمال جانب التقصد في هذه الامور، ضمن سياقات سلطة الاحتلال ورؤيتها الاستراتيجية لدور الجيش والشرطة والاجهزة العراقية المماثلة الاخرى ، بحيث لا يكون هذا الدور قوياً وفاعلاً. ووفقا لهذه الرؤية يحسن ان تبقى الاجهزة العراقية المذكورة تعتمد دائماً على دعم القوات الاجنبية وما تمتلك من ماكنة عسكرية ضخمة، الامر الذي يتيح اخضاعها وعملها لمنطق الاستراتيجية تلك ، وليس للحاجات الفعلية لبلادنا وما تواجه من نشاطات معادية واسعة وكثيفة ، ومن مخاطر وتحديات امنية وسياسية / اقتصادية / اجتماعية . 
رابعا: سوء تصرفات الادارة الامريكية الناجم عن توجهات الاصولية الليبرالية الجديدة في الولايات المتحدة ، وما وضعه صقورها من خطط لـ "اعادة بناء العراق" بعد انهيار النظام الدكتاتوري . هذه الخطط التي لم تتعامل مع الواقع العراقي القائم ، بل رسمت "واقعاً أخر" وبنت ترسانتها الفكرية والسياسية والاعلامية على حسابات مقطوعة الجذور عن واقع ملموس متحرك. 
خامسا: تفشي مظاهر الرشوة والفساد. وهنا ايضاً لا يمكن اخراج سلطة الاحتلال من دائرة المساءلة. فهي لم تتخذ اثناء فترة هيمنتها المباشرة الاجراءات الكفيلة بمنع تحول الفساد الى ظاهرة صارخة ، تطول مختلف جوانب عمل المؤسسات الرسمية العراقية. مع ان هذه الظاهرة لم تنشأ في ظل الاحتلال ، فجذورها – كما سبقت الاشارة - تمتد الى عهد النظام الدكتاتوري ، الذي نمت في كنفه وازدهرت .
من جانب اخر لم تكن سلطة الاحتلال نفسها محصنة ضد الفساد ، بل ان فضائح الصفقات التي ابرمت مع شركات اميركية كبرى ، حتي قبل ان يبدأ الاحتلال ، اثارت جدلا في الولايات المتحدة وغدت موضوعا لجلسات لجان الكونغرس وتحقيقاتها. 
في كل الاحوال اصبح الفساد المالي والاداري اليوم ظاهرة مستشرية في مرافق الدولة ، وقد وجد في المحاصصة والتعيينات على اسس حزبية ضيقة وطائفية مصدرا اخر للنمو والتوسع ، حتى غدا التصدي له من المهام الوطنية الملحة .
سادسا : التعقيدات المرتبطة بتفاقم الارهاب والتخريب والقتل وتدخلات دول الجوار والاقليم في هذا الملف ، وما استجد في اطار ذلك من تصفيات على الهوية ، واغتيالات ، واعمال اخنطاف ، ومن تفاقم حدة الاستقطاب الطائفي . ونتيجة لذلك يبقى الملف الامني مصدر قلق وهاجسا اساسيا لعامة المواطنين ، الذين يشتد تطلعهم لمعالجة ناجعة له وتهيئة مستلزمات ذلك ومنها، على سبيل المثال، اعداد المؤسسات العسكرية والامنية على اساس الكفاءة والنزاهة الوطنية ، وأن تجسد في تركيبها وممارساتها الوحدة الوطنية والمواطنة العراقية ، وتكون ملكا لكل العراقيين بغض النظر عن انتماءاتهم الفكرية والسياسية ومنحدراتهم القومية ومعتقداتهم الدينية والطائفية والمذهبية . 
سابعا: الاشكاليات والانتهاكات الفظة التي رافقت الانتخابات الاولى والثانية ، وما انتجت من موازين قوى ، ومن استقطاب طائفي – قومي ما زال يترك بصماته على مجمل الحياة السياسية . وبنتيجة ذلك تحولت محصلتها الى مشكلة بذاتها ، بدل ان تكون حلا للمشكلات القائمة ، وبما يساعد على بناء مؤسسات الدولة على اسس سليمة تعلي شان المواطنة وترسخ الممارسة الديمقراطية وبناء دولة العدل والقانون والمؤسسات . 
ثامنا : ضعف التنسيق بين القوى والاحزاب الوطنية والديمقراطية ، لاسيما تلك التي ناضلت ضد النظام الدكتاتوري، وعدم ارتقائه الى مستوى المخاطر المحدقة ، وتغليب بعض القوى مصالحها الضيقة ، مما يسهّل لاعداء التغيير الديمقراطي عرقلة العملية السياسية . وفي هذا السياق يجدر التشديد على ضرورة تنشيط آلية التشاور والتنسيق بين هذه الاطراف ، كي تأخذ دورها المنشود في تفعيل مساهمة جماهير الشعب في ارساء الامن ، والتصدي لقوى الجريمة والارهاب ، ودعم العملية السياسية.
في ضوء ما مر ذكره نخلص الى حقيقة انه مع تواصل عملية تشكُّل الدولة العراقية الجديدة ، يدور صراع حاد حول شكلها ومحتواها ، وحول طبيعة وخصائص النظام السياسي والاجتماعي البديل . وتخوض هذا الصراع قوى وأحزاب ذات برامج سياسية ورؤى وتصورات متباينة . ومما يزيد هذا الصراع تعقيدا انه يدور في ظل تركة النظام الدكتاتوري الثقيلة ، وفي ظل التناقضات الناجمة عن اعتماد الحرب وسيلة لتحقيق التغيير في البلاد ، وما افضى اليه ذلك من احتلال وتركة ترتبط به ، وعن تحوّل العراق، جراء سياسة الولايات المتحدة، الى جبهة رئيسية لحربها على "الارهاب الدولي" ، والى ميدان لتصفية حسابات خاصة بها وبمشروعها الاستراتيجي في المنطقة.
وغدا النضال من اجل انهاء الوجود العسكري الأجنبي متلازماً مع النضال من أجل العراق الديمقراطي الفيدرالي الموحد، كما غدا متشابكا مع البعد الخارجي الذي زج بقوى ارهابية غير عراقية لا علاقة لبرامجها وأهدافها بالعراق وبمصالح شعبه. وأضفى ذلك كله على اللوحة السياسية والصراعات التي تتجاذبها خصوصية و"فرادة" لم يألفها العراق في تاريخه ، بل ولا بلدان المنطقة وسواها من البلدان الموازية له في التطور.
وطبيعي ان التناقضات والصراعات آنفة الذكر القت بظلالها على أهم أحداث وتطورات الوضع خلال الأشهر الأخيرة ، وهو ما انعكس بشكل خاص في تشكيل الحكومة وفي العملية الدستورية والسياسية الجارية .
وبعد تشكيل الحكومة الحالية جدد الحزب التزامه بالعملية السياسية وحرصه الشديد على استمرارها وتنفيذ استحقاقاتها ، وفق الالتزامات التي يفرضها الدستور . ويستند هذا الموقف إلى نظرة الحزب الى العملية وادراكه أهمية إيصالها إلى نهايتها المنشودة في إقامة نظام ديمقراطي فيدرالي ، وبناء دولة المؤسسات والقانون . وهو ما لا يمكن تحقيقه من دون تأمين شروط تطبيع الاوضاع وانجاح مشروع المصالحة الوطنية ، واعادة الامن والاستقرار، واطلاق عملية البناء والاعمار، واستعادة السيادة الوطنية الكاملة وإنهاء تواجد القوات الأجنبية.
ان الوضع في بلادنا متحرك ، ومفتوح على العديد من الاحتمالات . ويبقى الكثير من القضايا مرهونا بمدى قدرة الأطراف والكتل السياسية وجماهير العراقيين عموما على ترتيب بيتهم والتصرف بحكمة لاعادة اللحمة الوطنية ، والإقدام على خطوات من شانها أن تخلق أجواء للثقة والوصول إلى قناعة بان دفع الأمور إلى نقطة اللاعودة ، هو لعب بنار لن ينجو احد من لهيبها . كما إن تطورات الوضع مرتبطة بإيجاد ظروف ايجابية عربية وإقليمية ودولية ، ملائمة لمحاصرة الارهاب وتحقيق الاستقرار وانجاح مشروع المصالحة .
لقد تحولت بلادنا الى ساحة صراع ملتهبة ، تتقاطع على أرضها وتتصادم مصالح واستراتيجيات اقليمية ودولية ، تتشابك مع الوضع الداخلي وتحاول دفع الأوضاع باتجاهات بعيدة عن مصالح الشعب وتطلعه لاعادة الأمن والاستقرار، ولاستكمال سيادته على إرضه وثرواته، وتحقيق البديل الديمقراطي، والاسراع بعملية إعادة البناء الشاملة. وفي هذه المرحلة الانتقالية التي تحتدم فيها التناقضات ويشتد الصراع حول الوجهة اللاحقة للتطور تبرز الحاجة ايضا، وأكثر من أي وقت ، الى تأمين التضامن العالمي المتعدد الأشكال من قبل قوى السلام والقوى والحركات التقدمية والديمقراطية والاشتراكية والشيوعية مع القوى الوطنية والديمقراطية العراقية ، في نضالها لقطع الطريق على محاولات اجهاض العملية السياسية ودفع البلاد نحو الفوضى والاحتراب الداخلي ، وللاسراع في تمكين الشعب العراقي من إنهاء الوجود العسكري الاجنبي ، وفتح آفاق التطور الديمقراطي للعراق ، وتقرير مستقبله السياسي و نظامه الاجتماعي وفق ارادته الحرة . فمستقبل العراق، بل والمنطقة عموماً، يتوقف إلى حد كبير على مآل العملية السياسية الجارية اليوم في بلادنا . وعلى هذا الطريق سيواصل الشيوعيون العراقيون نضالهم الحثيث، تحدوهم القناعة بانتصار القضية النبيلة التي قدموا التضحيات الكبيرة من اجلها ، قضية بناء عراق ديمقراطي فيدرالي موحد متحرر من كل اشكال الهيمنة والعسف والعنف ، ومنطلق على طريق التنمية والتقدم الشاملين.

التطورات في الوضع العربي
تركت احداث 11 ايلول آثاراً خطيرة في الوضع العربي، وبالاخص على صعيد القضية العراقية والتواجد العسكري الامريكي في المنطقة، ومسار عملية السلام والصراع العربي ـ الاسرائيلي. 
ولا تزال تداعيات تلك الاحداث وما تبعها من سعي لاعادة ترتيب الاوضاع في الشرق الاوسط، وفقاً لمصالح الولايات المتحدة الامنية والاستراتيجية، في سياق "الحرب ضد الارهاب"، ثم شن الحرب الاخيرة في العراق واحتلاله، تلقي ظلالها على اوضاع المنطقة وبلدانها، لتكشف ايضاً تدهور حال "النظام العربي" وعجزه الفاضح عن مواجهة التحديات الراهنة واستحقاقاتها. 
لقد اثار سعي الولايات المتحدة بعد احداث 11 ايلول لتحقيق مخططاتها للهيمنة على العالم، وبضمنه منطقة الشرق الاوسط والعالم العربي على وجه الخصوص، ردود فعل حادة على المستويات الرسمية والشعبية معاً، تراوحت بين الذعر مما وقع، والتردد في اتخاذ موقف ازاءه خشية اغضاب امريكا، والتهليل لما حصل والتشفي بضحاياه، وبين الموقف العقلاني الموضوعي المتوازن. 
وسارعت معظم الانظمة لاعلان الولاء للولايات المتحدة، دون اعتبار لقضايا الشعوب العربية، وحتى بعدما ادرجت بلداناً عربية ضمن اهداف مقبلة بعد حربها على افغانستان. وعندما بدا واضحاً استهداف اسقاط النظام الدكتاتوري، عارضت الانظمة العربية عموماً ذلك ،خوفاً من تداعياته بالنسبة اليها.
وفي اثناء ذلك وفي ظل استمرار وتفاقم العجز عن تنظيم مواجهة حقيقية لخطط الادارة الامريكية، تزايدت في العالم العربي المطالبة بـاطلاق الحريات العامة والديمقراطية للجماهير كي تتمكن من الدفاع عن استقلال بلدانها والتقدم على طريق التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
إلا ان تلك المطالب المشروعة لم تجد استجابة لفترة من الزمن ، بل ان بعض الحكومات العربية استغلت بروز ظاهرة التطرف الديني ونشاط الجماعات السلفية ـ الاصولية التي تتمتع بمصادر تمويل سخية، كما استغلت الاجواء الهستيرية والاجراءات التي رافقت "الحرب ضد الارهاب"، للتضييق على هامش الحرية النسبي في بلدانها. فيما رأت الانظمة الدكتاتورية في ذلك، لاسيما نظام صدام، ما يبرر ويزكّي نهجها واساليبها الوحشية وايغالها في انتهاك حقوق الانسان.
وفي هذا السياق يؤيد حزبنا المطالب المتسعة على المستويين الرسمي والشعبي في العالم العربي، بتحقيق اصلاحات جذرية في اساليب وآليات عمل النظامين الرسمي والشعبي كليهما، بما يساعد على تجاوز الكثير من المفاهيم البالية وصيغ العمل التي تجاوزتها الحياة. 

مشروع " الشرق الاوسط الكبير"
في اعقاب الحرب واحتلال العراق، وفي اطار استراتيجية الادارة الاميركية للهيمنة على العالم ومشاريعها المتعلقة ببناء "شرق اوسط جديد"، صعّدت ضغوطها على العديد من دول المنطقة، ومن ضمنها بعض من اقرب حلفائها، في مسعى لاستثمار نتائج الحرب وتوظيفها لانتزاع مزيد من التنازلات. واتخذت هذه الضغوط شكل المطالبة بالكشف عن اسلحة دمار شامل ونزعها احياناً، وفرض خطط " الاصلاح " الامريكية.
وتجلت هذه المساعي في المشروع المعروف بـ "مبادرة الشراكة للشرق الاوسط الكبير" الذي تضمنته ورقة عمل وزعتها الادارة الامريكية على اعضاء "مجموعة الثماني" لدراستها وتبنيها في قمة حزيران 2004. وتستند التصورات المطروحة في الورقة على تقريري التنمية الانسانية للعامين 2002 و2003 الصادرين عن برنامج التنمية التابع للامم المتحدة في العالم العربي. والاولويات الثلاث للتغيير المقترح هي: 
1- تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح،
2- بناء مجتمع معرفي، 
3- توسيع الفرص الاقتصادية. 
غير ان الورقة تشير أيضاً الى ان "مبادرة الشرق الاوسط الكبير" ستعالج "الاوضاع التي تهدد المصالح الوطنية لكل اعضاء مجموعة الثماني ... التطرف، الارهاب، الجريمة الدولية، والهجرة غير المشروعة". اي ان برنامج الاصلاح المنشود يتمحور بشكل اساسي حول مخاوف اطراف خارجية والاستجابة لها، بدلاً من الانطلاق من تلبية حاجات شعوب المنطقة المعنية ذاتها. 
ومن الأهداف الأخرى لمشروع "الشرق الاوسط الكبير" تسويق اسرائيل في محيطها الاقليمي، وتطبيع علاقاتها مع الدول في هذا المحيط، وهي في موقع الاقوى عسكريا واقتصاديا وتكنولوجيا.
وواضح ان هذا المشروع واجه صعوبات جمه ، ولم تستطع الادارة الامريكية من فرضه ، كما عجزت سياستها وسلوكها في افغانستان والعراق عن تقديم بديل ديمقراطي مقنع في المنطقة، اضافة الى حساسية ومقاومة شعوبها لفرض الاصلاح من خارجه ، يضاف الى ذلك تواصل السياسية العدوانية الاسرائيلية وانحياز الادارة الامريكية المكشوف لها . 
وفي محاولة لتفادي ضغوط "الاصلاح" و"الدمقرطة" ولاحتوائها، سارع بعض الانظمة العربية على نحو استباقي لتبني مجموعة اجراءات داخلية، شملت حقوق الانسان واصلاح بعض جوانب التعليم. لكن هذه الخطوات لا ترقى الى مستوى تطلعات الشعوب المحرومة من الحريات والحياة الديمقراطية الدستورية وعامة حقوق الانسان الاساسية.
ويبرر بعض الانظمة العربية عدم استجابته لمطالب الشعوب في الديمقراطية بكونه يتصدى بذلك لاملاءات امريكا وغطرستها، او بالقول ان الصيغ المطروحة امريكياً تتعارض مع الخصوصيات المحلية الثقافية والدينية .. وما شابه، او بالعودة الى الذريعة المستهلكة والادعاء ان الاولوية الآن هي لحسم "القضايا القومية"!
لكن التجارب المريرة، المتكررة منذ حرب حزيران 1967، تؤكد ان ترسيخ الحريات والديمقراطية هو وحده السبيل لحماية الاستقلال والسيادة الوطنية والتصدي لضغوط الامبريالية وتمكين هذه البلدان من تقرير مصائرها بملء ارادتها. كما ان الاصلاح الحقيقي لا بد ان يكون نابعاً من ارادة الشعوب وحاجات تطورها الملموسة والفعلية،
وعموما نشير الى حالة من الحراك الذي لم يستقر بعد على نمط معين من الاختيارات بابعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وهنا يدور صراع حاد تساهم فيه قوى عدة ومنها بالتاكيد شعوب المنطقة وقواها الوطنية والديمقراطية، ويأخذ هذا الصراع اشكالا مختلفة بما فيها العنفية. ويضيف دخول قوى متطرفة، دينية على الاغلب، حلبة الصراع تعقيدات جديدة الى اللوحة السياسية، سيما عندما تلتقي مصالح دول معينة في المنطقة، ولمنافع وقتية براغماتية ضيقة، مع تلك القوى المتطرفة.
وشهدنا خلال الفترة الماضية احداثا مهمة وتطورات ما زالت تتفاعل وتترك تاثيراتها على المنطقة ودولها وشعوبها:
1- القضية الفلسطينية والتي شهدت خلال الفترة الماضية العديد من التطورات ابرزها :
- الانقلاب الانتخابي المتمثل بفوز حماس في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني والذي فاجأ الجميع، على ما يبدو، بمن فيهم الفائزون، وما سيترتب على ذلك من ضرورة الاجابة على تساؤلات عدة، لها صلة بقدرة حماس على التعامل مع ملفات التسوية السلمية واستحقاقاتها ومراجعة لاساليب وطرق عملها واستجابة لبرنامج الاجماع الوطني الذي اقرته منظمة التحرير الفلسطينية وقدرتها على تشكيل حكومة وحدة وطنية، وايضا مدى استعداد القوى الاخرى، سيما "فتح" للتعامل مع ما افرزته الانتخابات من نتائج. وسيرتبط التطور في هذا الشان ايضا بمجموعة من العوامل المحيطة بالقضية الفلسطينية، خاصة الامريكية والاسرائيلية. ويبقى من الهام التشديد على اهمية الوحدة الفلسطينية والمتحقق من انجازات على محدوديتها، لجهة نيل الشعب الفلسطيني حقه في اقامة دولته الوطنية المستقلة على ارضه
- فوز حماس بالانتخابات واستلامها للسلطة ، وعدم التعامل دوليا معها ادى الى وقف المساعدات والمعونات عنها ،مما سبب تدهورا للاحوال المعيشية للمواطنيين الفلسطنيين وشل مؤسسات السلطة وعدم التمكن من دفع الرواتب . وسبب ذلك موجة من الاضرابات والاعتصامات ، تطورت واحيانا الى مواجهات عنيفة.
- تواصل الاحتراب والتراشق وعدم الانسجام بين الفصائل الفلسطينية .
- استمرار العمليات العدوانية للجيش الاسرائيلي في الضفة والقطاع ، وبالاخص توغل وحداته في قطاع غزة واعادة احتلال اجزاء منه ، اضافة الى القصف الجوى ، مما سبب حدوث خسائر بشرية ومادية كبيرة ، وتصاعد ذلك بعد اختطاف الجندي الاسرائيلي ، وعدم اطلاق سراحه رغم الوساطات المتكررة في هذا الشأن 
- كل ذلك يدفعنا للتاكيد مجددا على اهمية وضرورة الاسراع بتطبيق القرارات الدولية التي تشير الى حق ا لشعب الفلسطيني باقامة دولته على ارضه وانهاء اسرائيل لاحتلالها للاراضي العربية والعودة الى الحدود قبل الخامس من حزيران 1967 . وفي ذلك وحده الضمان لتحقيق الاستقرار والامان في الشرق الاوسط .
-ويجدد حزبنا تضامنه مع الشعب الفلسطيني في وجه سياسات الاستيطان العنصري والاعمال الارهابية الاسرائيلية، مؤكدا الحاجة الماسة في الظروف الراهنة الى قيام حكومة وحدة وطنية فلسطينية تستند الى برنامج واقعي ، ياخذ بنظر الاعتبار كل الظروف المحيطة بالقضية الفلسطينية. ان تحقيق ذلك سيشكل دعما لمواصلة الشعب الفلسطيني نضاله من اجل ضمان حقوقه الوطنية المشروعة وتنفيذ قرارات الشرعية الدولية بهذا الخصوص.
2-العدوان الاسرائلي على لبنان 
بعد التطورات الحاصلة على صعيد العلاقة السورية – اللبنانية، إثر صدور القرار الدولي 1559، واغتيال رفيق الحريري والتداعيات التي اعقبته، وانعكاس ذلك على الاوضاع في البلدين والتفاعلات الجارية فيهما، وارتباط ذلك بمساعي اطراف عدة لتوظيف تلك التطورات لصالحها، وبعد اختطاف حزب اللة في لبنان لجنديين اسرائيليين شنت اسرائيل عدوانا همجيا واسعا على لبنان . 
وبغض النظر عن التساؤلات الممكن اثارتها على توقيت عملية الاختطاف واهدافها وعدم تقدير حجم الرد الاسرائيلي ، فان سعة العدوان وهمجيته وقسوته فاقا كل ما يمكن توقعه من رد على عملية الاختطاف. وبدا الامر كما لو ان اسرائيل واطرافا اخرى ، وجدت الذريعة لتصفية حسابات وفرض اجندة خاصة بها وبغيرها، ليس على ارض لبنان فقط ، بل وفي الشرق الاوسط عموما. 
حظي العدوان بتواطؤ مكشوف من امريكا وبريطانيا وتم اطلاق يد اسرائيل للمضي في عدوانها واختيار اللحظة المناسبة لها لايقافه . وشهدت هذه الفترة ترويجا لمفاهيم جديدة/قديمة ومن بينها مفهوم " الشرق الاوسط الجديد " الذي طرحته كونداليسا رايس، وزيرة الخارجية الامريكية، كبديل لمفهوم " الشرق الاوسط الكبير " الذي تم الاعلان عنه في فترات سابقة. 
رغم الاختلال الواضح في موازين القوى ، ولاسيما العسكرية ،ورغم القسوة والعنف وضرب البنى التحتية وتدميرها فلم يكن متاحا لاسرائيل ان تحقق اهدافها بيسر. فقد جوبهت باجماع وطني لبناني على ادانة العدوان والتصدي له ، بعض النظر عن ظروف وقوعه . 
اثار العدوان موجه عارمة من الاحتجاجات عبر العالم ، ضد اسرائيل والداعمين لعدوانها . وبالمقابل تميزت ردرود الفعل العربية الرسمية بالتفاوت بين رد الفعل الخجول ، ومحاولة القاء اللوم على حزب الله . ادان حزبنا العدوان الاسرائيلي الهمجي وطالب بايقافه ، وعبر عن اسناده ودعمه للشعب اللبناني. كما اكد حزبنا ، بعد ايقاف العدوان وصدور قرار مجلس الامن الدولي رقم 1701 ، على تضامنه مع الشعب اللبناني داعيا الى تقديم الدعم والاسناد له لاعادة ما دمره العدوان ، ومساعدة الدولة اللبنانية على استعادة نفوذها وهيبتها وسلطتها وتمكين الحكومة من ادارة شؤون البلاد في جميع المناطق وان يعود لها ،عبر السلطات الشرعية، مهمة اتخاذ القرارات ذات الطابع العام والتي تخص لبنان باجمعه .
3- الانتخابات التي جرت في عدة دول ومنها العراق، فلسطين، مصر وما افرزته من نتائج وتركيبة للبرلمانات ومجالس الشعب، وموازين قوى جديدة فيها، وما سيترتب على ذلك من تاثيرات على الحياة السياسية.
4- الصراع الدائر حول الملف النووي الايراني، والتداخلات الحاصلة فيه وابعاده التي تتعدى حدود ايران الى الدول الاخرى ومنها بلادنا، والمسارات التي ستتخذها مختلف الاطراف في التعامل مع هذا الملف الشائك.
5- التطورات في السودان، بعد التسوية في الجنوب، واستمرار الصراع على وجهة الحكم وتفاعلات قضية دارفور وما حصل فيها من انتهاكات لحقوق الانسان، وعلاقات السودان وتطورها مع الدول المحيطة به.
6- التغييرات في هرم السلطة في عدد من البلدان، ولاسيما في الامارات والسعودية والكويت وغيرها، وانعكاس ذلك على انماط والية الحكم فيها، وما يفرضه توسيع المشاركة في الحكم من استحقاقات وبنى جديدة، كبرلمانات ومجالس شورى وغيرها، وقدرتها على ان تعكس مواقف معبرة عن استحقاقات يفرضها التطور في نواحي الحياة المختلفة بما فيها الاقتصادية والاجتماعية. 
ان التغييرات والتطورات المشار اليها اعلاه وغيرها تعكس جملة من الامور منها : 
1- حدة الصراع السياسي في هذه البلدان على السلطة وعلى مسارات التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي فيها، وما يفرضه ذلك من مراجعة لاساليب الحكم، واهمية وضرورة الديمقراطية باعتبارها حاجة تفرضها متطلبات التطور والتقدم، واداة لنهضة الشعوب ورقيها، ولارساء اسس الحياة البرلمانية الدستورية الديمقراطية واحترام حقوق الانسان وحرياته.
2- الرغبة المتزايدة لشعوب المنطقة في الاستقرار والبناء والازدهار وبناء الحياة الحرة الكريمة والاستثمار الامثل والافضل لثرواتها الهائلة لصالحها وبما يجعل المنطقة واحة للسلام والاستقرار والتقدم الحضاري.
3- تواصل التدخلات الخارجية وتجسيدها في اشكال مختلفة كمحاولات فرض توجهات معينة تتعارض مع مصالح الشعوب. وتربك هذه التدخلات المساعي للوصول الى حلول عادلة سلمية لمشاكل المنطقة. وباعتمادها سياسة الانحياز لاسرائيل والكيل بمكيالين، فان الولايات المتحدة ومن يشاطرها سياستها يساهمون، موضوعيا، في حالة عدم الاستقرار في المنطقة. هذا الى جانب سياسة وممارسات السلطات الحاكمة والقوى المسيطرة في العديد من البلدان والتي فشلت في تقديم الحلول للمشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيره من الاسباب يحفز على التطرف والعنف وتنمية نزعات الارهاب والعدوان. 
4- المحاولات المحمومة، ومن اطراف عدة للتمويه على حقيقة وماهية الصراع الدائر في المنطقة بغية خلط الاوراق ولاضفاء طابع معين عليه وابعاده عن ميادينه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
5- في هذه الظروف تبرز من جديد اهمية وحدة شعوب المنطقة وتعاونها وتنسيق جهود وعمل حركاتها السياسية الوطنية والديمقراطية والشيوعية من اجل ترسيخ وتطوير الممارسة الديمقراطية وضمان الحريات الاساسية والتعددية السياسية والفكرية وبناء دول عصرية يتحقق فيها احترام وكفالة حقوق الانسان والعدالة الاجتماعية.

الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في البلدان العربية
من جانب آخر واضافة الى قضايا الديمقراطية وحقوق الانسان ظلت قضية العدالة الاجتماعية ايضاً في مركز اهتمام الرأي العام العربي في ظل الاوضاع المعقدة والصعبة القائمة.
واتسع، في اوساط المثقفين خاصة، نفوذ الحركات الاجتماعية، الداعية لاحترام حقوق الانسان واقامة مؤسسات المجتمع المدني واعتماد التعددية السياسية والفكرية، والدعوة الى ارساء الحياة الدستورية الديمقراطية و تحسين ظروف المواطنين المعيشية، ووضع نهاية لأنظمة الطوارئ والاحكام العرفية والاجراءات الامنية الخاصة والاعتقالات الكيفية وغيرها، التي يجري في ظلها خنق الحريات وامتهان الانسان وترسيخ الاستبداد.
فيما ظل الحال يراوح مكانه على الجبهة الاقتصادية. 
وما زالت السمة المميزة للاقتصاد العربي على العموم تتجلى في طابعه الريعي، المقترن ببنية مشوهة واحادية الجانب. وشهدت الفترة الماضية تفاقماً في معدلات البطالة وتباطؤا في وتائرالنموالاقتصادي، حيث لم يتجاوز معدل النمو خلال الـ 20 سنة الاخيرة نسبة 2 في المئة، بينما يبلغ معدل التضخم 3 في المئة سنويا. 
واقترن ذلك كله بتفاقم حجم المديونية الخارجية وتصاعد وتائر نموها، حيث تضاعفت الديون في العقدين الماضيين سبع مرات ، ليصل حجمها إلى 325 مليارا عام 2000 ، بعد أن كانت لا تتجاوز 49 مليار دولار عام 1980.
والى جانب ذلك تبقى ظاهرة التطرف الديني تلقي بظلالها القاتمة على المنطقة، فيما تثـقل تداعياتها على مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والنفسية في بلداننا. 
ولابد من الاشارة الى أن مأزق التنمية وما شهده العالم العربي عموما من اخفاقات، لا يعزى فقط الى العوامل الخارجية، على خطورتها وآثارها السلبية الكبيرة، بل ينبع كذلك من مواطن خلل داخلية، وقصور كبير في بلورة الاستراتيجيات التنموية المطلوبة، انطلاقا من الحاجات الفعلية للتطور ومراحله الملموسة والآليات المؤسسية الضرورية لتنفيذ الاستراتيجيات تلك.

الوضع الدولي
انهيار القطبية الثنائية وتداعياته
شهد "النظام العالمي" في السنوات الأخيرة تغيراً جذرياً في هياكله السياسية والاقتصادية، وفي ميزان القوى الذي أفرزته الحرب العالمية الثانية، وبداية تكون "نظام عالمي جديد" خاضع لميزان جديد يستند إلى القطبية الواحدة، الأمريكية. وارتبطت هذه التحولات بانهيار الانظمة "الاشتراكية" في الاتحاد السوفياتي وبعض البلدان الاوربية (التي جرت الاشارة اليها بالتفصيل في الورقة الفكرية: خيارنا الاشتراكي)، وبروز ظاهرة العولمة بأبعادها المختلفة، وفجر هذا كله جدلاً صاخباً تناول قضايا شتى. 
كذلك اقترن هذا التحول بغزو النظام المقبور للكويت، ثم اندلاع "حرب تحرير الكويت" وما تلاها، وما نجم عن ذلك من تكريس للوجود العسكري والسياسي الأمريكي في الخليج ومنطقة الشرق الأوسط. 
وجسد هذا التطور، بمجمله، المسعى الحثيث لضمان انفراد " المركز الأمريكي " بإدارة الشؤون العالمية في اجواء "التوازن الإستراتيجي الجديد"، ولاعادة صوغ مفهوم "الشرعية الدولية" بما يتناسب والتطور المذكور. وأخذ هذا المسعى زخمه الطاغي بعد أحداث 11 ايلول 2001 وما خلفته بصدد مضمون الهيمنة وآليات إعادة إنتاجها على الصعيدين العالمي والإقليمي، وتوظيف ذلك كله لصالح فرض "الاستراتيجية الكونية الجديدة". 
غير ان هذا المسعى الاميركي يصطدم بسعي بقية الدول والتكتلات الاقتصادية الرأسمالية الى بناء نظام عالمي متعدد الاقطاب، بديلا عن نظام القطب الواحد.
وفي ظل المتغيرات الدولية تتواصل الدعوات لاعادة النظر في هيكلية الامم المتحدة عموما ومجلس الامن على وجه الخصوص، وللبحث في توسيع عضويته واجراء تغييرات في آليات عمله.
ولابد من القول أن أحداث 11 ايلول وتداعياتها شكلت الحدث الأهم في المشهد السياسي العالمي.
وقد بيّن حزبنا في حينه (اجتماع اللجنة المركزية في كانون الأول 2001) وهو يدين التفجيرات التي حصلت في كل من نيويورك وواشنطن، انها عملية إرهابية حقاً طالت آلاف الأبرياء، واسفرت عن نتائج خطيرة ذات أبعاد عالمية.
لكن من الضروري فهم هذا الحدث / الزلزال ليس في لحظة وقوعه فقط وإنما في ما تركه لاحقاً من تداعيات واستحقاقات. 

بعض معالم الاستراتيجية الجديدة للولايات المتحدة بعد 11 ايلول/2001
وانعكس ذلك في التحولات التي شهدتها الاستراتيجية الأمريكية منذ ذلك الحين، والتي تتجلى ابرز معالمها في :
-الانفراد بالتفوق العسكري بما يحقق السيطرة الاستراتيجية الكاملة. 
-التخلي عن "استراتيجية الردع والاحتواء" التي حكمت السياسة الأمريكية إبان "الحرب الباردة" وتبني استراتيجية "الهجوم الوقائي".
-صياغة تعريف جديد للأخطار التي على الولايات المتحدة مواجهتها، يجمع في "معسكر الأعداء" "المنظمات الإرهابية" ذات "التطلعات الدولية" والدول التي تساندها.
وارتباطاً بذلك باتت الولايات المتحدة تدرس احتمال استخدام السلاح النووي ضد دول غير نووية، أو ردا على هجمات بأسلحة كيمياوية وبيولوجية أو عند حدوث " تطورات عسكرية مفاجئة " ذات طبيعة غير محددة.
-توظيف المفاهيم والشعارات الإيديولوجية من قبيل شعار "محاربة الإرهاب" كأدوات أساسية في خدمة الاستراتيجية الأمريكية في الخارج.
-استكمال بناء أدوات السيطرة العسكرية على مراكز الطاقة في العالم بدءا من الشرق الأوسط وصولا إلى نفط آسيا الوسطى.
هنا لابد من التذكير بأن هذه الأفكار ليست في مجملها جديدة. فهناك إدارات أخرى سعت إلى تفضيل هذه الركيزة أو تلك. لكن الشيء المهم هنا هو انه لم يصل التفكير الاستراتيجي قبل اليوم إلى بلورة هذه الركائز بهذا القدر من التماسك والوضوح والحماسة، إلى درجة يمكن معها القول أننا نشهد انقلابا في التفكير الاستراتيجي في الولايات المتحدة الأمريكية. ومسار الأحداث خلال السنوات الأخيرة أكد بما لا يدع الشك إن القضية برمتها تدور حول خلق الآليات الكفيلة بتحقيق الهيمنة على العالم وإعادة إنتاجها في أحسن الظروف وأفضل الشروط. 
في التنويعات التطبيقية لتلك الاستراتيجية توالدت مفاهيم عديدة، حيث يواصل الجناح الأمريكي المحافظ المسيطر حاليا على مجريات السياسة الأمريكية جهوده لتطبيق نظريتي "التفكيك النظيف "
و"الفوضى البناءة" بهدف إعادة رسم الخريطة الجغرافية والسياسية في منطقة الشرق الأوسط لتكون بمثابة نموذج يطبق فيما بعد على المناطق الأخرى. وهي نظريات وضعتها وروجت لها مراكز أبحاث ودراسات أمريكية في مقدمتها معهد واشنطن الذي يسيطر عليه المتطرفون الأمريكيون.
إن منظري الاستراتيجية الأمريكية ينطلقون في بناء مفهوم " الفوضى البناءة " من فكرة قوامها أن الوضع الحالي في الشرق الاوسط "ليس مستقراً" وإن الفوضى التي تفرزها عملية التحول الديمقراطي في البداية هي من نوع "الفوضى الخلاقة" التي ربما تنتج في النهاية - حسب الزعم الأمريكي والذي تحدثت عنه اكثر من مرة وزيرة الخارجية الأمريكية كوندليسا رايس- وضعاً أفضل مما تعيشه المنطقة حالياً.
تهدف "الفوضى البناءة " إذن الى إعادة رسم الخريطة الجغرافية والسياسية في منطقة الشرق الأوسط لتكون بمثابة نموذج يطبق فيما بعد على المناطق الأخرى.
هكذا، إذن، يمكن القول أن تفكيك المنطقة هو خطوة أساسية في مخطط المحافظين الجدد في أمريكا لإعادة بناء المنطقة ورسم خريطة جديدة لها تتطابق مع مصالح الولايات المتحدة ودورها الجديد على الصعيد العالمي.
إن الاستجابة لتوسيع دائرة فهم " الفوضى البناءة",‏ راجع إلي أنها لم تعد مجرد طرح نظري فقط‏, ولكنها استراتيجية يجري تنفيذها بالملموس ووفق خطوات محددة.
ويبدو من قراءة دقيقة للافكار اعلاه ان " صناعة الفوضي " نابعة على ما يبدو من ايمان عقائدي عميق لدي من يصنعون السياسة الخارجية الأمريكية يعتمد على فكرة مضمونها ان التغيير في حد ذاته لا يكفي‏, وأن الأوضاع الداخلية في المنطقة وثقافتها تحتاج تحولا شاملا ‏. ومن هنا كان ولع المنظرين الاستراتيجيين هؤلاء بمفاهيم من قبيل " الفوضى البناءة", التي تعقبها إزالة الأنقاض والأشلاء,‏ ثم تصميم جديد لبناء مختلف.

بعض معالم التحولات في الاقتصاد العالمي
جاءت أحداث 11 ايلول/سبتمبر 2001 لتحفز انتشار "عدوى" الركود وهبوط معدلات النمو الاقتصادي، وتجعل منه السمة المميزة للاقتصاد العالمي. إلا ان موجة جديدة من التوسع الرأسمالي العالمي اخذت تتحرك في وقت لاحق. 
وتتميز المرحلة الراهنة بـعدم استقرار واضح، يمثل نقيضاً لحالة الاستقرارالنسبي التي ميزت مرحلة ما بعد "الحرب الباردة".
وارتباطاً بالتغيرات الواضحة في ميزان القوى العالمي : السياسي والاقتصادي، لم تعد الدول المهيمنة على النظام الدولي الجديد تتردد من اللجوء إلى العنف السياسي، ومن ثم التدخل العسكري، لإدارة النظام وضمان اشتغال هذا المشروع "الليبرالي". 
ويستمر في الوقت نفسه تعمق التناقضات الكبيرة المستعصية التي وسمت التطور الرأسمالي خلال القرن الماضي، وتخوض المراكز الرئيسية الثلاثة - الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والكتلة الآسيوية بزعامة اليابان - صراعاً ضارياً على اقتسام ثمار الهيمنة العالمية. وتنشط مؤسسات دولية مثل منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، بتعاون وثيق مع الاحتكارات متعدية الجنسية والمصارف العالمية الكبرى والدول الرأسمالية المتطورة لإخضاع العالم بأكمله وشعوبه لاملاءاتها الاقتصادية والسياسية. ولكن بمقابل هذا كله، تساهم التناقضات المذكورة ويسهم تفاقمها في خلق ظروف موضوعية مواتية لتجدد نضال الشغيلة والشعوب. 
ومن جهة أخرى يلاحظ تعاظم عسكرة العلاقات الاقتصادية الدولية وتوظيف القوة العسكرية لتحقيق نتائج اقتصادية. كما يلاحظ تنامي القوى الطاردة عن المركز، حيث يزداد حجم الأقطاب الأخرى الناشطة في الاقتصاد العالمي. ويتنامى كذلك النزوع نحو التكتلات الاقتصادية الإقليمية بهدف ضمان القدرة على التنافس في إطار صراع ضار من اجل الهيمنة على الأسواق ومناطق النفوذ. ويأتي هذا التطور مع تزايد الفتوحات التكنولوجية، وانفتاح العالم عبر فضاء الإنترنت والاتّصالات والإعلام الفضائي، وظهور التجارة الإلكترونية .. الخ.
وشهدت الفترة الماضية تصاعد الدعوة الى "تحرير قوى السوق" مقرونة بشعارات تجزم بتفوق القطاع الخاص على القطاع العام ( الحكومي) بشكل مطلق، وإعطاء شرعية للتفاوت الاجتماعي، والوقوف مبدئياً ضد تدخل الدولة في أي نشاط اقتصادي.

انتصارات قوى اليسار في امريكا اللاتينية
في بداية عقد التسعينيات من القرن العشرين ، وبعد العودة إلى الديمقراطية في العديد من بلدان أمريكا اللاتينية، اجتاحت القارة الجنوبية رياح عاتية من " الليبرالية الجديدة " التي أعادت تشكيل السياسات الاقتصادية الاجتماعية التي سارت عليها بلدان أمريكا اللاتينية منذ انتهاء عهد الديكتاتوريات العسكرية مع أواسط الثمانينات من القرن الماضي.
ولكن هذا النهج لم يستمر طويلا، وها هي الريح تغير اتجاهها نحو اليسار. فقد شهد المشهد السياسي في امريكا اللاتينية خلال السنوات الاخيرة تحولات مهمة حتى اطلق الكثير من المحللين السياسيين فكرة ذات مغزى مؤكد عمق تلك التحولات عندما أشاروا الى ان جزءا كبيرا من مساحة هذه القارة الواسعة اصبح يكسوه اللون الاحمر، للدلالة على صعود قوى اليسار هناك ووصولها الى السلطة في العديد من البلدان من خلال الانتخابات وصناديق الاقتراع. فقد تحقق الانتصار في كل تشيلي وفنزويلا والبرازيل والسلفادور والاكوادور وبوليفيا. كما عاد الساندينيون بقيادة أورتيكا الى السلطة في الانتخابات البرلمانية الاخيرة. ان هذه النتائج تبين انه لم تعد أمريكا اللاتينية هي «الفناء الخلفي» للولايات المتحدة كما كان سابقا. 
وبالمقابل سوف تشهد أمريكا الوسطي والجنوبية في الفترة المقبلة العديد من المعارك الانتخابية، ويتوقع الكثيرون أن تكون نتائج معظمها لصالح اليسار.
ان القراءة الصحيحة لتلك التحولات وتحديدا تفسير صعود قوى اليساري في هذه القارة المضطربة والحبلى بتناقضات اجتماعية عميقة ومتفاقمة باستمرار، وبعد عدة سنوات من انهيار المعسكر الاشتراكي في اوربا والاتحاد السوفييتي، هو دلالة تاريخية بالغة العمق، على أن النضال الطبقي والاجتماعي، النضال من اجل العدل والحرية، لا يمكن أن ينطفيء أو يموت، وأن الإنسانية في سعيها إلى التقدم تسعى موضوعياً إلى العدل الاجتماعي، إلى كسر الهيمنة الرأسمالية، وإلى بناء عالم جديد.
ان صعود قوى اليسار يأتي ردا على مشاريع وسياسات التكييف الهيكلي التي طبقها صندوق النقد الدولي والمؤسسات الدولية الاخرى. ويمكن القول ان انتصارات اليسار في هذه المنطقة جاءت ثمرة لانتفاضات شعبية قامت بها قطاعات واسعة من الجماهير التي ضاقت ذرعا بالعولمة الراسمالية لحساب الشركات الأجنبية الاحتكارية، وبعمليات السلب والنهب لثرواتها وفقا لسياسات وضعها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. فقد قادت وصفات " الليبرالية الجديدة " ليس الى التغلب على الازمة البنيوية العميقة التي كانت تواجهها بلدان هذه القارة بل على العكس فان تلك الوصفات المقطوعة الجذور عن الواقع المجتمعي تسببت في تفاقم تلك الازمة واكسبتها مديّات جديدة وساهمت في تعميق التبعية للعالم الراسمالي المتطور. لقد قاد النظام الاقتصادي الذي نظّر له خبراء صندوق النقد الدولي الى استقطاب عميق في مجتمعات هذه البلدان بحيث ازداد الفقراء فقرا وتعاظمت ثروة الاغنياء ممن ينتمون الى الشرائح والفئات المرتبطة بالقوى الميسطرة في العالم الراسمالي المتطور. فمن بين ما يزيد عن 550 مليونا عدد سكان القارة مازال 220 مليونا من الفقراء، بينهم مائة مليون فقراء جدا ومعدمون ويعيشون علي أقل من دولار واحد يوميا. لقد ادى هذا الاستقطاب وعمق الازمة الى تنامي حركات احتجاجية تأطرت في قوى مجتمعية عديدة مناهضة لمنطق التطور التابع في هذه البلدان، وتجسد ذلك في نتائج ملموسة على الارض من خلال صناديق الاقتراع وما أفرزته من نتائج، هي في جوهرها، تعبير عميق عن نمط التطور الذي هندسه ونفذه خبراء ومنظرو صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. 
هكذا، إذن، فبعد سقوط الدكتاتوريات العسكرية في عقد الثمانينات من القرن الماضي، وموجة الديموقراطية التي اجتاحت أمريكا اللاتينية في عقد التسعينيات، هاهو اليسار الاشتراكي، على تنوع مشاربه ومرجعياته، المناهض للسياسة الأمريكية، يصبح معطى جديداً في القارة الجنوبية.‏ 
وإذا كان سقوط المعسكر الاشتراكي احدث في البداية تراجعا لقوى اليسار والتقدم الاجتماعي، فان تطور الاحداث بيّن ان المجتمع الإنساني استعاد توازنه واستعاد ثقته بنفسه، وبدأ بصياغة الأشكال الجديدة، غير المطروقة سابقاً، لتصعيد النضال الاجتماعي –الطبقي للعدل والحرية.
وثمة العديد من الدروس المستخلصة مما حدث في هذه القارة الملتهبة يتعين قراءتها، وفي مقدمتها ان العالم بحاجة الى مشروع شامل وبديل للنظام الامبريالي، بحاجة إلى مشروع- حلم يلهب خيال وطاقات الشعوب ويحررها من حاجز الخوف، وينمي ارادتها ورغبتها العارمة في التطلع الى الحرية والعدالة والمساواة. 

العولمة - الظاهرة واشكال تجليها
شكلت العولمة واحدة من أهمّ وأعقد الظواهر التي برزت في أواخر القرن العشرين . ومن الضروري التمييز بين العولمة كظاهرة موضوعية تستند إلى التقدم الهائل في تقنيات المعلومات والاتصالات وتحول المعرفة العلمية إلى قوة انتاجية مباشرة، وبين إشكال تجليها والقوى المتحكمة في اتجاهاتها ومسارها الخاضعة لمنطق الرأسمال والربح. لذا فالعولمة بشكل تمظهرها الحالي، اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، وعلى ما تحمله من جوانب ايجابية، باتت شكلاً جديداً من أشكال السيطرة والهيمنة. لذا يجري الحديث عن "العولمة الليبرالية الجديدة" التي تنطوي عن نزعة لابتلاع العالم عن طريق آليات السوق المعولمة.
وعندما يجري الحديث اليوم عن ضرورة التصدي للعولمة فإن المقصود بذلك ليس الظاهرة الموضوعية ذاتها، إنما رفض تجليها الراهن أي العولمة الرأسمالية المتوحشة التي تشق طريقها الآن لصالح حفنة محدودة من الشركات متعدية الجنسية وبعض القوى المسيطرة في قلاع رأس المال ضد مصالح الشعوب. وبمقابل ذلك يتعين التأكيد على ضرورة تنمية الجوانب الإيجابية لظاهرة العولمة كثمرة للثورة العلمية والتكنولوجية المعاصرة، والاستفادة منها لصالح الشعوب.
وقد نشأت في مواجهة العولمة الرأسمالية المتوحشة وتطورت حركة عالمية البعد تضم طيفاً واسعاً من القوى المناهضة لها على امتداد العالم ، وانطلقت في نضال مباشر ضد الإجراءات الجائرة لارباب العولمة الرأسمالية، وسعيها لسلب العاملين والشغيلة من المكاسب الاجتماعية والحقوقية التي احرزت بفضل نضالاتهم، مثل تقليص وإلغاء الحقوق والضمانات التي تنص عليها قوانين العمل وطرد الفلاحين من أراضيهم وتقويض الخدمات الاجتماعية. 
لقد استخلص التقرير السياسي الصادر عن المؤتمر الوطني السابع لحزبنا (آب 2001) استنتاجا ما زال يتمتع براهنيته، وقوامه " أن حصيلة التطورات على المستوى الدولي تشير إلى الاتساع المضطرد لآفاق النضال العالمي في سبيل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية ". 
وذلك ما يجسده التأييد المتسع النطاق لشعار عولمة التضامن في مواجهة عولمة رأس المال، وفي النشاطات المتزايدة لقوى اليسار، ومن بينها الأحزاب الشيوعية، التي تكافح في ظروف بالغة التنوع من اجل بديل إنساني، يلبي طموح الشعوب في مستقبل يقوم على العدالة والديمقراطية والتقدم والاشتراكية. 
ورغم الظروف الدولية المعقدة، استطاع العديد من الأحزاب الشيوعية واليسارية والديمقراطية، تعزيز مواقعها وزيادة دورها وتأثيرها في بلدانها، وفي الدفاع عن مصالح الكادحين. كما حققّت اللقاءات الدولية والمؤتمرات العلمية التي جمعت أحزابا شيوعية وتقدمية وشارك حزبنا فيها، نجاحات في بحث القضايا المشتركة على الصُعد الإقليمية والعالمية، وتقريب وجهات النظر، وتحديد مواقف معللة من الظواهر الجديدة كالعولمة وثورة الاتصال والمعلومات. 
لقد أكدت هذه اللقاءات ضرورة تطوير وتنسيق الجهود من اجل تقديم تعليلات علمية بشأن تلك الظواهر، وفضح السياسات والإيديولوجية التي تقوم على الليبرالية الجديدة واقتصاد السوق، والنتائج السلبية التي اسفرت عنها في البلدان الرأسمالية وفي البلدان النامية على حد سواء.

مهماتنا الراهنة
إزاء التطورات في المرحلة المقبلة، المفتوحة على احتمالات عديدة، لا بد لحزبنا ورفاقه من مواجهة المنعطف التاريخي الذي تمر به بلادنا كقوة وطنية جامعة، موحِدة، تعبر دائماً عن المصالح الوطنية العليا، وعن ضمير الشعب، وتجسّد، بسياستها وممارستها، الوحدة الوطنية، فتتحول بحق إلى القوة المحركة لأوسع حركة وطنية، وفي الوقت نفسه الرافعة لأوسع حركة ديمقراطية، تبني دعائم دولة عراقية ديمقراطية حديثة تقوم على حقوق المواطنة والعدالة الاجتماعية، وتكافح لإنهاء تركة الاحتلال والسيطرة الأجنبية واستعادة السيادة والاستقلال وترفض الاستبداد أيا كان. واكد المؤتمر ان البديل لكل ما تشهدة بلادنا الان من ازمات واختناقات هو المشروع الوطني الديمقراطي الذي يعكف الحزب على صياغته وتقديمه كأساس لتجميع وتوحيد القوى الوطنية العراقية .
وارتباطا بذلك تنهض أمام حزبنا، ، المهمات الرئيسية الآتية:
1- إيلاء العناية اللازمة بالحزب ومنظماته والارتقاء بحضورنا السياسي والفكري والاعلامي والثقافي ووجودنا التنظيمي، نوعا وكما، وتقوية صلاتنا وعلاقاتنا بالجماهير وتبني مطالبها والدفاع عنها. وهذا يتطلب إيلاء اهتمام مضاعف بعملنا الحزبي والتوظيف السليم للإمكانيات والطاقات المتوفرة. 
2- الارتقاء بنشاط الحزب على الصعد الفكرية والثقافية والاعلامية، والعمل النشيط مع الأوساط الواسعة من حملة الفكر التنويري والتقدمي ، للارتقاء بالوعي الاجتماعي وإشاعة وترسيخ القيم والمفاهيم العقلانية والديمراطية، وتلك التي تدعو لأحترام حقوق الانسان والحريات المدنية ، والنضال من أجل إعتمادها في بناء الدولة وممارسة السلطة. 
3- ضمان الامن والاستقرار وعودة الحياة الطبيعية الى البلاد ودحر التخريب والإرهاب والإرهابيين من التكفيريين والصداميين والمجرمين القتلة وفلول النظام المباد . والعمل من اجل احداث نقلة هامة على صعيد معالجة الملف الامني وضمان نجاح خطة فرض القانون وشمولها كافة ارجاء الوطن ، وتأكيد اهمية اعادة بناء الاجهزة الامنية والعسكرية كمؤسسات وطنية عراقية بعيدا عن المحاصصة الطائفية والقومية واعتماد معايير الوطنية والكفاءة والخبرة والنزاهة والمهنية في بناء مؤسسات الدولة كافة .
4- مواصلة المساعي، مع كافة الجهات والمؤسسات الحكومية والسياسية والشعبية، لانجاح مشروع المصالحة الوطنية كونه الضمانة لتهدئة الاوضاع واعادة الامن والاستقرار، وبما يؤمن الظروف المناسبة للسير قدما على طريق بناء العراق الديمقراطي الفيدرالي الموحد.
5- العمل على تعبئة جماهير الشعب وقواه الوطنية من اجل استعادة الاستقلال والسيادة، وإنهاء تركة الاحتلال والوجود العسكري الاجنبي وبناء العراق الديمقراطي الفيدرالي الموحد.
6- العمل، ومع القوى الوطنية الاخرى، على بناء دولة المؤسسات والقانون ودعم القضاء المستقل وتحريم تجاوز الشرعية القانونية وتفعيل دور المؤسسات التشريعية والرقابية وخصوصا مجلس النواب ومجالس المحافظات والبلديات ومؤسسات المجتمع المدني والتاكيد على احترام حقوق الانسان.
7- دعم وتشجيع انتهاج سياسة خارجية نشطة، مستقلة ومنتجة، في اقامة افضل علاقات حسن الجوار، تقوم على الاحترام المتبادل وضمان المصالح المشتركة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، ولضمان التاييد العربي والاقليمي والدولي الفعال لشعبنا في مسعاه لبناء العراق الديمقراطي الفيدرالي الموحد، وفي مكافحة الارهاب واعادة بناء اقتصاده الوطني وتمكينه من العودة لممارسة دوره الطبيعي في الاسرة الدولية.
8- السعي، بكل الوسائل والطرق السلمية والدستورية، للتصدي لمحاولات التضييق على الحريات العامة وتشويه الممارسة الديمقراطية ومنع الناس من التمتع بحقوقهم المكفولة دستوريا، تحت ذرائع وحجج تسعى لتأطير المجتمع بنمط محدد بخلاف ارادة الناس ورغباتهم وتطلعاتهم. 
9- دعم الحكومة في توجهها لانهاء المليشيات وتصفيتها، لما باتت تشكله من اخطار جدية بسعيها لاحلال نفسها محل الدولة ومؤسساتها. فلم يعد مقبولا، تحت أي مبرر، الدفاع عن وجود السلاح بغير يد الدولة. 
10- مواصلة الجهد، على كافة الصعد، للتصدي للطائفية وفضح مرامي الساعين الى تاجيجها والتبصير بمخاطر الاحتقان الطائفي والعنف وتصاعده، والسعي الى نبذ التوظيف السياسي للدين وإستغلاله لأغراض ومصالح فئوية ضيقة وابقائه في منأى عن التنافس والصراع السياسي، والوقوف بوجه جميع أشكال التعصب القومي والديني والمذهبي والعشائري والمناطقي، وتأكيد روح المواطنة والهوية الوطنية.
11- دعم وتطوير النضالات المطلبية الهادفة لتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين، وفي مقدمتها الكهرباء والمشتقات النفطية والماء والنقل والخدمات الصحية والتعليمية، واستمرار العمل بتوفير الخدمات الأساسية مجانا للمواطنين، وتقديم الدعم في مجال توفير المشتقات النفطية. 
12- دعم نضالات العاطلين عن العمل من أجل الحق في العمل، والمطالبة بصندوق للتضامن الاجتماعي والتأمين ضد البطالة، مع إلزام الحكومة بتقديم مشروع ملموس لمكافحة البطالة باعتبارها مشكلة مركبة ذات إبعاد اقتصادية – اجتماعية - سياسية. ويمثل التوجه نحو مضاعفة تخصيصات شبكة الحماية الاجتماعية ثلاث مرات خطوة سليمة ينبغي توسيعها وتعميقها، باتجاه بناء نظام ضمان اجتماعي متكامل.
13- مطالبة الحكومة بإعادة النظر في سلم الرواتب والأجور بما يتناسب مع تحقيق العدالة والمساواة ورفع الحد الادني للأجور لمواجهة ارتفاع الأسعار والتضخم، والإسراع بتشريع قانون التقاعد وتطبيقه لضمان العيش الكريم لفئة واسعة من المجتمع وان يشمل المتقاعدين القدامى والجدد.
14- مواصلة النضال وتحشيد القوى من أجل الوقوف بوجه اعتماد آليات السوق المنفلتة والتفريط بالقطاع العام وإضعاف الأنشطة الانتاجية الوطنية والعمل على ايقاف عمليات الخصخصة في الظروف الراهنة، والكفاح ضد الوصفات المطروحة من طرف صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بشأن" اعادة تكييف "الاقتصاد العراقي والتثقيف بمخاطرها الفعلية. ويتطلب هذا العمل على دعم النضالات المطلبية من اجل إعادة تأهيل المعامل والمصانع وتوفير مستلزمات ذلك ،إلى جانب ضمان إدارات كفؤة لها. وهذا لا يتعارض مع دعم القطاع الخاص وتمكينه من المساهمة الفعالة في اعادة بناء البلد وتنميته ورقيه، وتشجيع الرأسمال الوطني على الاستثمار والسعي لاجتذاب الاستثمارات الأجنبية وفق ضوابط تحمي المصلحة الوطنية. 
15- النضال ضد كل اشكال الفساد، ووضع القوانين والضوابط الكفيلة بعدم الإفلات من العقاب في الجرائم الاقتصادية ومن أجل استرجاع أموال الشعب المنهوبة وممتلكاته المسلوبة، والعمل على تحقيق الشفافية في أداء هيئة النزاهة وتحديد صلاحياتها ومهامها ومرجعيتها بقانون، اضافة الى تفعيل دور الرقابة المالية. 
16- السعي لالزام الحكومة بمواصلة تزويد المواطنين بشكل منظم بكامل محتويات البطاقة التموينية وتحسين مفرداتها ونوعيتها، والتصدي لأي محاولة لإلغائها أو أبدالها بالنقود، أو قضمها التدريجي، مع التأكيد على رفع سقف المبالغ المخصصة لها. 
17- تقوية علاقات حزبنا مع الأحزاب والقوى السياسية الأخرى، وتنشيط العمل المشترك وخاصة مع القوى الديمقراطية، وتعزيز التعاون والتنسيق مع الأطراف المتوافقة مع حزبنا أو القريبة منه في التوجه السياسي، من خلال وضع برامج مشتركة وملموسة. ومن الضروري ،خلال ذلك، ترسيخ تقاليد الديمقراطية في العلاقات مع القوى الأخرى، باعتماد مبادىء الحوار، واحترام الرأي الآخر، ونبذ العنف، والتسامح.. كما تشتد الحاجة لتطوير العلاقة بقوى التيار الديمقراطي بمعناه الواسع، ارتباطا بالسعي لتحقيق خيارنا ومشروعنا الوطني الديمقراطي. 
18- العمل النشيط على تعبئة الأوساط الواسعة من المثقفين والمعنيين بشؤون المجتمع المدني لإقامة أوسع علاقات ممكنة مع الجماهير وتهيئتها فكرياً وسياسياً لمواجهة الأحداث وتطوراتها المتسارعة. 
19- إيلاء الاهتمام الضروري لمسألة التضامن على الصعيد الدولي، والنهوض بالعلاقات مع القوى التقدمية واليسارية والاشتراكية والشيوعية، والإفادة من ذلك بنحو خاص في دعم جهود شعبنا لاسترداد السيادة والاستقلال، وإنهاء تركة الاحتلال والوجود العسكري الاجنبي، وإرساء أسس النظام الديمقراطي الفيدرالي في بلادنا.
ان حزبنا ليعبر عن ثقته غير المحدودة بشعبنا العراقي، وبقدرته على مواصلة مسيرته، رغم كل ما يواجهه من صعوبات وعراقيل، نحو اقامة دولة المؤسسات والعدل والقانون، واستعادة السيادة الوطنية الكاملة وبناء العراق الديمقراطي الفيدرالي الموحد.

 10-13 آيار 2007