عشرون شهرا تقريبا من العمل المشترك المباشر، اليومي عمليا، الدينامي والمثابر، هو ما جمعني و"ابو الياس" في وزارة الثقافة، بدءا بأيلول 2003 وانتهاءا بنهاية نيسان 2005.
واقول "العمل المشترك المباشر" وانا اعني ما اقول. فقد تأكد لي بعد وقت قصير من مباشرته العمل في الوزارة، انه اكبر من مجرد مدير عام (للعلاقات الثقافية)، كما نص الامر الوزاري الصادر بتعيينه. وشيئا فشيئا اصبحت قضايا الوزارة، بضمنها الكبيرةُ منها والبعيدة المدى، ومهماتُها وخططُها ومشاريعها، الموضوع اليومي المتجدد الذي يشغله معي ويسبق كل قرار ذي أهمية تتخذه الوزارة وتشرع في تنفيذه.
كان يتمتع بالعديد من الصفات والمؤهلات التي تضعه في مقام "الشخص المناسب في المكان المناسب" في وزارة الثقافة بالذات، وفي الموقع العالي الذي تبوأه فيها الى جانبي، قبل وقت طويل من تعيينه مستشارا لها ( ومعه الشخصيتان الثقافيتان المعروفتان الباحث عبد الجبار الرفاعي والشاعر صادق الصائغ).
كان ثمة حبه العميق للوطن ورغبته الجارفة في خدمته، خاصة في الميدان الثقافي الذي درسه جيدا من زوايا متعددة، وادرك اهميته غير العادية للبلد وابنائه، ولتطورهم وتقدمهم.
وكان بجانب هذا مخلصا في عمله وفي مجمل سلوكه، عفيفا نزيها مستقيما، ما جعله موضع ثقة وتقدير كل من عرفوه عن قرب، ومن عملوا معه بشكل خاص.
واذا اضفنا الى هذا وذاك نظرته الواقعية الى الحياة والمجتمع وشؤونهما، وموضوعيته في رؤيتهما وفهمهما وتقييمهما، وطبيعته المتأنية المتفهمة المنصفة في التعامل مع الناس والاشياء والقضايا، وصفاته الاخرى الانسانية التي يتميز بها، من احترام للآخر ولرأيه وفكره ويقينه، ومن وداعة وود صادق ولطف ودماثة، ونظرة متفائلة الى الحياة مفعمة بالامل، وحب للدعابة والمرح .. لأدركنا سر الحب والاحترام اللذين كان كامل يحظى بهما في الوزارة وخارجها، كذلك ما وراء ثقتي التامة شخصيا به، واعتمادي عليه في معالجة امور الوزارة وإشراكه عمليا في تسيير شؤونها، حتى صار واقعا – كما قلت ذات مرةوزيرا معي فيها.
ولا يقل عن كل هذا الذي اوردته اهمية بالنسبة الى الاواصر التي شدتنا، كامل وانا، الى بعضنا، وقد يكون الاهم في النهاية بالنظر الى الحصيلة الملموسة لتجربتنا المشتركة (التي اسهم معنا فيها بالطبع عديدون آخرون من الاخوات والاخوة المبدعين والمختصين والناشطين في مجال الثقافة)، اننا اجتمعنا على فهم متطابق لموضوعة الثقافة والمثقفين والعملية الثقافية. فهم يقوم على حقيقتين اساسيتين:
اولا: كون الثقافة والنهوض الثقافي بمعناهما الواسع (بضمنهما التعليم واشاعة المعارف والتنوير) من الشروط الجوهرية لتنمية المجتمع وترقيته وتأمين ازدهاره،
ثانيا: حقيقة ان استنهاض الثقافة وإنماءها وتطويرها، هي مهمة مبدعيها ومنتجيها والعاملين في مجالاتها قبل اية جهة اخرى، وان من واجب الدولة والمجتمع تقديم كل الدعم لهم لانجاز هذه المهمة الكبرى، في أجواء من الحرية وبعيدا عن أية قيود.
على قاعدة هذا الفهم المشترك ايضا تواصل مجمل عملنا المشترك المباشر في الوزارة، حتى بلغ قمته في عقد "مؤتمر المثقفين العراقيين" اواسط نيسان 2005. المؤتمر الذي تميز، بين امور اخرى، بالحضور الطاغي لكامل نفسه فيه، فكرةَ وتخطيطا وتمهيدا وتحضيرا وتنظيما وتنفيذا.
كان كامل صاحب مشروع ثقافي تقدمي، هو واقعا مشروعُ المثقفين الديمقراطيين جميعا، الطامحين الى اقامة عراق متطور عصري، تشكل الثقافة رافعة اساسية فيه. وكان هذا المشروع، كما تجسد اساسا في مضامين مؤتمر المثقفين العراقيين وفي مخرجاته، مشروعا واقعيا واعدا، ضروريا وممكن التحقيق.
ولعل هذا هو ما دفع اعداء الثقافة وكارهي العراق الجديد، الديمقراطي، الى السعي لدفن هذا المشروع: اولا بوضع مقررات المؤتمر وتوصياته على الرف، بعد اسبوعين فقط من انتهاء اعماله وحال تكليف وزير جديد، وثانيا باطفاء حياة رمز المشروع نفسه، بعد ذلك بثلاث سنوات.
لكن كامل شياع كان، شخصيةً وفكرا وانجازا، وظل عصيّا عليهم، وبقيت ذكراه اليوم مثلما كانت بالامس حيّة نابضة في القلوب والعقول، مضطرمة لا تكف عن المطالبة بالعدل وبالعقاب للقتلة.
وبقي المشروع، بعد 13 سنة من مسعى وأده، اصيلا واعدا ينتظر من ينفض عنه التراب ويجدده ويطلقه .. بل ويدعو المثقفين وسائر المعنيين بالثقافة والنهضة الثقافية، التي هي مفتاح النهضة المجتمعية الشاملة، الى التصدي لهذه المهمة المشرفة الكبيرة، والعمل الجاد على تحويل المشروع الى واقع قائم، يحفظ ذكرى رمزه الشهيد ويديمها..
ـــــــــــــــــــــ
*
القيت في احتفال الذكرى العاشرة
لاستشهاد كامل شياع - بغداد اول ايلول 2018

عرض مقالات: