شعر بضوء الصباح يتسلل من فتحة الشباك الصغير أعلى جدار الغرفة، ويتسرب معه غبار ناعم يتماوج بالتماع مع مساقط الضوء. عند الساعة الثامنة صباحا. بعد أن سمح لهم الذهاب إلى المرافق الصحية، قدمت لهم قطعة جبن صغيرة ورغيف خبز وكوب شاي، قضم قطعة من الرغيف وشرب الشاي وعاف الباقي. عند الظهر نودي عليه، وكان صوت الشرطي الأجش يتردد صداه في الممر الطويل، وكأنه يخرج من بئر عميق، فخرج ليقتاده شرطي عابس يطالع تلفونه النقال دون اهتمام بما يجري حوله، ولم ينظر لوجه سجينه حتى. ولكنه سحبه من يده، ليسلمه إلى الشرطي الواقف أمام غرفة الضابط. تلقفه هذا الشرطي الذي دفعه بدوره بغلظة نحو وسط الغرفة وقدمه للضابط برفقة تحية عسكرية، وخرج وأغلق الباب وراءه.

كان ضابطا برتبة عقيد، قصير القامة بدينا بعض الشيء، حاسر الرأس أشيبه، وكانت عيناه نافذتان بلونهما الأصفر، تسقطته بحدة أولا ثم أخذتا تتمليان ورقة وضعت فوق المنضدة. رفع رأسه وطالعه بصمت لبعض وقت، ثم أشار نحو الكرسي الموضوع جوار المنضدة قائلا وهو يسحب من الدرج بعض أوراق.

ــ تفضل أجلس.

ــ شكرا أستاذ فلا رغبة لي بالجلوس.

ــ اسمع ما أقوله لك، اعتبرني صديقا، فلا وقت للعناد، فأنت في ورطة، وأنا أقدم لك النصيحة بان تقبل ما سوف اعرضه عليك. هذا كل ما في الأمر لتذهب بعدها لحال سبيلك.

ــ أنت تريد أن تكلمني في شان ملء أوراق، أليس كذلك؟

ــ نعم فهذه الأوراق تغنيك عن الكثير من المشاكل.

ــ حتما هذه الأوراق خطرة، وضع فيها ما يقصم الظهر.

ــ ما الذي يجعلك تظن هذا، كيف يخطر لك ذلك.

ــ لأنك تبقيني حبيسا عندكم دون تهمة حقيقية، غير تلك التهم، وهي شتائم، روجت لها عصابة اختطفتني من الشارع، وسلمتني لكم دون أمر استدعاء، أو أمر إلقاء قبض صادر عن محاكم. ذات الحدث عرفته على العهد الماضي ويتجدد الآن.

ــ أجل مثلما تقول، وأنا أقترح عليك صفقة تذهب بعدها إلى عائلتك مكرما.

توقف ثم قال وكأنه يزدرد طعاما، وكان يدفع إلى الأمام فوق المنضدة ثلاث أوراق إحداهن بيضاء.

ــ وأنا بالذات من يوصلك إلى عائلتك.

ــ لقد مرت علي الكثير من مثل هذه الأوراق، ورفضتها جميعا، ولا أملك سوى الرفض التام لها، ولن أقبل أن أضع نفسي تحت طائلة القانون، بسبب ممارسة الغباء.

ــ أخي العزيز إنه ليس غباء، وإنما تبعد عنك شر هؤلاء.

ــ ولكنها تضعني تحت رحمتهم وسطوتهم، لا أتنازل عن أي شيء، ولن أقبل منحهم صك وضاعتي، وحين أخرج من هنا، سأعاود وجودي وأرابط في ساحة التحرير. ابعد أوراقك، فلن يكون لها وجود في حياتي.

ــ أخي العزيز، أنت رجل كبير السن ولست شابا، وحتما لك عائلة فما دوافع عنادك هذا؟

ــ ليس عنادا، وإنما لا أريد أن أضع نفسي في ورطة، وكمين يصنعه لي هؤلاء.

ــ إنهم قساة ولا يخشون أحدا، حتى نحن نقع في أغلب الأوقات تحت سطوتهم.

ــ لا أجدني أتوافق مع كل هذا الذي يدفعون الناس إليه، وأنا أدين فعلهم ووحشيتهم ونواياهم السوداء الشريرة.

ــ اسمعني جيدا، هؤلاء سوف يلاحقونك ويؤذون عائلتك، وأعتقد أن توقيعك على ورقة تخليك عن الالتحاق بالتظاهر والاعتصام سينجيك، ويوقفهم عند حدهم.

ــ هؤلاء لن يتوقفوا أبدا عن نواياهم الشريرة، وسوف تجد غيري يحضر هنا ليقف مثلما أقف أمامك الآن، جراء ما يفعله هؤلاء من عمليات اختطاف، ربما كانوا يفكرون بقتلي فقد قتلوا الكثيرين دون رحمه. يملكون شهوة القتل بدوافع كرههم لبلدهم.

رن جرس الهاتف فرفع العقيد السماعة وراح في سيل من الترحاب والسلام، ثم صمت مستمعا للطرف الأخر، وبدت على وجهه تقطيبه جادة ولمعت عيناه بومضة غريبة جعلتهما يضيقان قائلا.

ــ لا، يرفض التوقيع على التعهد، وقد عرضته عليه وهو أمامي الآن. نعم أوضحت له الأمر، وهو مصر على الرفض. لو تعطوني وقتا ربما أستطيع الخروج معه بنتيجة.

 بصوت مرتفع وكأنه يحاول إسماع رأيه وقراره للطرف الثاني الذي يحاور العقيد عبر الهاتف قال:

ــ أي نتيجة، أخبرهم بأني أرفض توقيع ورقة إذلالي القذرة، التي يتصيدون بها الناس.

شحب وجه العقيد وهو يستمع للغط الصادر عن جهاز الهاتف، وأطرق برأسه نحو الأرض، ورفع غطاء الرأس عن المنضدة بعصبية ثم أعاد رميه بقوة. كان يتوقع نهاية لهذا الحديث الذي ما عاد يسمع فيه غير كلمات التهديد والوعيد لذا استدار قائلا.

ــ خذ الهاتف وتكلم معهم، أنه يريد الحديث معك.

ــ لا أود الحديث مع خاطفين آذوني وحاولوا قتلي، فهم جزء من شريعة غاب. ولا يستحقون مني حتى الكلام، وأنا لست بخائف وهم المرعوبون وليس نحن.

ــ تكلم معهم عسى تستطيعون الوصول إلى اتفاق.

ــ عن أي اتفاق تتحدث، هل ارتكبت أنا جرما، هل أنت تؤيد مثل هذه الأفعال. هل هذا الذي قام به هؤلاء كان عملا قانونيا.

بعد حديث قصير، صمت الصوت الصادر عن الهاتف، ليعيد العقيد السماعة إلى مكانها، ويطلب من الشرطي الواقف عند فتحة الباب الدخول وأخذه لإعادته إلى الحبس.

ــ هل هو قرارك أم قرارهم؟ من هم هؤلاء ولأي جهة ينتمون؟

ــ لا أملك معلومة عنهم، فهم سلطة حكومية، على أي حال سوف نعرف النتيجة بعد وقت ليس بالطويل. اذهب وسوف أبذل جهدي لصالحك. لا تقلق يمكن إصلاح الكثير دون عناء، فهم بشر مثلنا.

ــ أشك بذلك.

 قالها ورافق الشرطي عائدا إلى غرفة الحبس وجلس عند الزاوية بين الجدارين ليسند ظهره بينهما، وسرح في تفكير عميق، كان بحاجة للنوم حتى ولو لدقائق معدودات، فليل البارحة كان طويلا مزعجا مقلقا، سهد فيه والتاعت روحه مع الذكريات الكثيرة الموجعة، ولكن الساعة حصر تفكيره في ما دار بينه وبين العقيد ضابط الشرطة. لم يكن الحديث مريحا على الإطلاق، رغم نبرة التعاطف التي أبداها العقيد. ود الآن لو يطلب من الضابط الموافقة على الاتصال بأهله أو أقاربه ليأتوا لمقابلته ليس أكثر ولن يطلب منهم غير معرفة الجهة التي اعتقلته بعد أن امتنع العقيد الإفصاح عنها.

*****

أقترب النهار من ظهيرته، فبدأت أصوات الآذان تصدح من مكبرات الصوت العديدة المبثوثة في المدينة. كان صداها يتردد بين جدران قاعة السجن. دائما ما كان يرقب هذه الأصوات ويستمع لها بشغف ويشعر معها بشيء من راحة، وكان عاشقا لألحان وتراتيل مقرئيها. تلك الأصوات التي تعطي مدينته قدسيتها وشفاعتها. فتندفع جموع الناس نحو محراب صلواتهم، تاركين وراءهم ساعات ثقالا من مشاق عمل وكد، مستسلمين لقدرهم بقنوط ودعة حين يقفون بين يدي ذاك الشفيع. يرجون منه كما تظن أرواحهم، مغفرة وعطفا، وليهب لهم من لدنه رحمة، تتلطف وتمسح بعطفها على قلوب ما كانت عرفت الراحة والطمأنينة.

فجأة سمع صوت الشرطي ينادي عليه فنهض وتقدم نحو باب الحبس. فتح الشرطي الباب قائلا إن ضابط المخفر يريد حضورك الآن. تقدم يسبقه الشرطي الذي مد يده وضغط على كتفه بشدة ودفعه إلى وسط الغرفة.

ــ أهلا أستاذ حتما كان يوما طويلا عليك.

ــ اعتدت على ذلك منذ زمن مضى فما اختلفت عندي وجوه القوم.

ــ أستاذنا الكريم لك حرية الذهاب إلى أهلك الآن، فقد كلموني وطلبوا مني إطلاق سراحك هذا هو كل شيء. فتفضل اذهب حيث تشاء مع السلامة.

ــ شكرا لك، أليس هناك تبعات لمثل هذا الموقف، اعتقال دون سبب وسجن دون ورقة شكوى أو حكم. ألا أستطيع معرفة الجهة التي اعتقلتني.

ــ ليس لنا في ذلك يد، ولن تجد مني جوابا لسؤالك، تفضل لك كامل حريتك واذهب حيث تشاء.

ـــ شكرا جزيلا.

وقف عند المدخل الرئيسي لمركز الشرطة وطالع الباحة الأمامية، بضع أفراد بالزي العسكري وثمة رجال ونساء يحملون أوراقا راح شرطي حاسر الرأس يحمل رزمة أوراق يهش بها ويصرخ ليأمرهم بالتجمع عند زاوية قريبة من الباب. تلكأ في الخروج أول الأمر وأخذ ينظر بتفرس لأول وجه من أهل مدينته خطر أمام مركز الشرطة بعجالة دون أن يلتفت إليه. سار باتجاه الباب الخارجي وطالع الشارع الممتد بتعرج والذاهب نحو وسط المدينة. كان فارغا من حركة الناس بسبب الحر الشديد، وثمة عربات قليلة بهدير محركاتها المتهالك تمر تاركة وراءها سحبا من غبار كثيف، وكانت السيارات تبطئ الحركة لتتفادى الوقوع في الحفر التي ترصع وجه الشارع. كان هناك صبية يلهون في البعيد مع كلب صغير، وشيخ مسن يفترش الرصيف عند الجهة المقابلة لمركز الشرطة ويضع كوفية مبللة فوق رأسه.

قبل سنين مضت، سبق له ووقف ذات الوقفة وبنفس المكان الذي يقف فيه الآن، فتساءل دون يقين هل تغير الحال أم انه بالذات بات خارج سياقات الحاضر، فذات الصور ما عافت مخيلته وحشرت بقوة وإكراه في ذاكرته وتكرر ورودها عنوة. شعر بألم في الرأس وفي الجنب عند الخاصرة، وقف قليلا ضاغطا على خاصرته وأحنى جسده إلى الأمام، ولكن الألم بدا يزداد لذا قرر السير باتجاه نهاية الزقاق المفضي لمدخل الشارع الرئيسي حيث يستطيع الحصول من هناك على سيارة أجرة تقله إلى البيت. شعر ببعض الإعياء وان قدميه متعبتان، ولكنه تحامل على نفسه وسار بخطى ثقيلة نحو الجهة الأخرى.

عند الاستدارة الحادة لتقاطع الشارعين دخل متجرا بواجهة زجاجة كبيرة، طاف بنظره في أحشاء المتجر وتأمل البضاعة المرصوفة بعناية فوق الرفوف، أخرج من البراد قنينة ماء صغيرة فتح غطاءها وأخذ يرتشف منها بنهم، وسمح لبعض قطرات بان تتسرب من فمه لتسقط وتبلل صدره، فكر بأن ذلك يساعده على إبعاد الكآبة التي رافقته منذ الأمس، ولكنه لحد الآن لم يجد منفذا للهروب منها، فقد تلبسته وفقد معها النوم لحين طلوع الفجر حيث غلبه النعاس، ولكن أصوات الآذان التي تردد صداها فجأة في جوف غرفة السجن أبعدت مرة أخرى النوم عن عينيه.

دفع حساب قنينة الماء ومعها قطعتي شكولاتة ابتاعهما لحفيديه، بعد أن شعر بشوق شديد لتقبيلهما وضمهما إلى صدره. اجتاز باب المتجر وتابع السير فوق رصيف الشارع المترب. وقف عند الناصية القريبة من تقاطع الإشارة الضوئية العاطل. كان غارقا في تفكيره حول الذي جرى معه بالأمس، يعيد شريط الأحداث ويضغط على أسنانه بقوة. تمهل بانتظار أن تسمح له حركة السيارات بالعبور. كان يبدو عليه الإنهاك وهو يخط بقدميه وبحذر وبطء فوق إسفلت الشارع. طابور من السيارات تتسابق بسرعة جنونية، لوح بيده محاولا تحاشيها، لم تكد تخرج من فمه كلمة واحدة، ولكن ندت عنه صرخة فزع وتدحرج جسده بعيدا لبضعة أمتار. فتح عينيه وكانتا غائمتين وطالع الوجوه التي اقتربت منه وأحاطته، كانت مجموعة وجوه لرجال دون ملامح تقترب من وجهه واستطاع بالكاد أن يسمع بعض كلمات.

ــ هل تشعر بشيء. لقد تهشم رأسه، أنه يلفظ أنفاسه.

أحس بدوار ثقيل وأزيز قوي يخترق الرأس وأضواء تتزاحم متوهجة أمام عينيه، وبنفس ذابل ولسان يابس لعق قطرات الدم المحيطة بشفتيه. قرب أحدهم أذنه من فمه فسمعه يتمتم بصوت جاف واهن.

 ــ أيمكنكم مساعدتي وإعطاء حفيدي قطعتي الشكولاتة.

فتح عينيه على سعتهما وتغضن جبينه وكأنه يكابد ألم شديد، ثم ساد الظلام بعدها كل شيء.

 

عرض مقالات: