قبل دخولي اتحاد أدباء البصرة. لمحت رجلا بزيه العربي دشداشة بنية اللون وكوفية حمراء ما أن القيتُ تحيتي عليه حتى توجه صوبي فتصافحنا وكان يحمل في كفه الثانية كيسا، بنبرة ٍ خفيضة ٍ أكاد أسمعها هذه اللحظة، خاطبني (يهمني أن تقرأ روايتيّ ) شددتُ على كفه ِ بشي ء من القوة. كان ذلك في 2013 .. ثم التقيتُه بعد شهورٍ وأنا أغادر حديقة الحسن البصري في الزبير.

متوجها نحو العشار. كان يرتدي بدلة ً  أنيقة ً حدثته عن روايتيه (حوت الديرة) و(بقايا بيت العطفان) وكنتُ قد قرأت الروايتين وكان انحيازي كبيرا لرواية (بقايا بيت العطفان) ووعدته بالكتابة عن الروايتين. وللأسف لم نلتقِ بعدها. وللأسف تأخر تحويل ما كتبته بالقلم الجاف على الورق إلى الحاسوب ثم ذابت أوراق كتابتي بين أكداس الأوراق. فعدت لقراءة الروايتين هذا العام ضمن مشروعي النقدي(الرواية : بصرة) الذي أريده ُ أن يحتوي  كل ما اكتبه عن الروايات الصادرة من البصرة والروايات التي جعلت البصرة موضوعها كما فعلت في كتابي النقدي المنشور عن دار ضفاف في 2012( القصيدة : بصرة)

(حوت الديرة)

حين انتهيت من القراءة الأولى . بدأت قراءتي الثانية من ص115 فقد تداعت ذاكرتي للهيكل العظمي لحوت وصل شواطئ أم قصر ميتا طافيا في شباط 1967 سحبته باخرة  الموانئ إلى رصيف أم قصر وتم إخراجه بواسطة رافعة، وبقي على الرصيف عدة أيام ثم دُفِن وبعد أن تفسخ أخد هيكله العظمي ووضع في المتحف الطبيعي في كورنيش البصرة.

(*)

في حوت الديرة : الماء سيد البشارة (مع قدوم مياه المد تقدم الفرحة. تتغير معالم الأنهار/ 95)

(*)

تمكن الروائي البصري خالد علوان بتحويل الحدث الغريب إلى رواية ماتعة تتجايل فيها ثلاثة أجيال. لم يلتزم الروائي بتاريخية الحدث فقد أحيا الحوت ثلاثا : الأولى جعلهُ الشخصية المحورية والثانية جعله ثريا الرواية والثالثة اعاد له الحياة من خلال شجاعة صالح العبدالله . فقد أجمع الجيل الشباب أن يصيدوه ويحملونه إلى الديرة للمباهاة وهكذا تناسوا شبكة الصيد الكبيرة التي تحتوي الكثير من السمك. واخذوا يستهينون بنصائح وشتائم النوخذة سالم الجميعي الذي يطالبهم بوقف الأذى عن الحوت الصغير ليعود نحو البحر وما أن يظهر صالح العبدالله (ساد صمت رهيب شل الأبدان التي كانت هائجة../ 205)  ثم صار يشتمهم على سلوكهم المشين مع الحوت الصغير الذي كاد يموت من قساوتهم .. وطئت قدماه الأرض الطينية اللزجة واصل السير الصعب نحو الحوت.. غاصت القدمان ثقلت حركته في الطين .. بجرأة ٍ أذهلت الجميع :(ظل يسكب المياه على ظهر الحوت المنهك .. حسم الموقف بصورة مفاجئة وسط ذهول الاصحاب. امتدت أصابعه إلى الأوتاد وابتدأ بقلعها. واتجه صالح صوب الحوت كمن يدعوه إلى الخروج عبر الفتحة.. هذه فرصة نادرة قل أن يجود الزمن بمثلها للسمك الذي كان يتخبط في المياه الضحلة، زال العائق الذي كان يفصله عن عالمه الكبير.. ظلت عيناه تطالعان الحوت الصغير بمودة جلية للعيان مشفوعة بابتسامة تبث دفق حنان متجدد أن صديقين قد التقيا بعد طول فراق. هذا هو الفعل الثابت الذي يحمل نكهة أيام سفن الغوص المندرسة../ 217)

(*)

سالم الجميعي يستقبلنا فجرا بمياه البحر وهالات النور البهيج والصمت المهيب وفي الصفحة الأخيرة من الرواية يودعنا سالم الجميعي بالمواويل البحرية التي تنم عن خلو البال من المنغصات. النوخذة سالم الجميعي يرفض أن يتقاعد من البحر ورفضه هذا يرفضه أبناءه وهو يرفض رفضهم وتأبى مروءته أن يكون حبيس البيت تغمره ثرثرة الحريم وزعيق الاطفال..(آخر زمن.. ! النوخذه الذي ترتعد لأوامره فرائص البحارة رعبا يستكين لأوامر الحريم../12) .سالم الجميعي ضمن تسلسل البحر : من الرعيل الأوّل. أما صالح العبدالله فهو من الرعيل الثاني. الجميعي يخاطب الماضي المغامر من خلال عمال البحر الذين كانوا معه وبالطريقة هذه يجلو ترابا عن حضورهم وعن ذاكرته(يحاور شخوص الماضي ويسترجع بعض أحداثه) شرود الذهن يعالجه سالم ببرودة مياه البحر  يتقدم بعينين شاخصتين كمن يراقب مشهدا بعيدا.. المياه تغمر ثلثيّ قامته.

(*)

صالح العبدالله يكره البحر أحيانا ولكن سرعان ما يعود إليه . صالح على مشارف العقد الخامس. احتمل المشاق في سفن صيد اللؤلؤ. لولا صالح لما كان معهم النوخذة سالم الجميعي (بذل صالح جهداً كبيراً في اقناعهم../ 37)

(*)

رواية خالد علوان الشويلي هي الأولى من نوعها في البصرة بل في العراق تتناول حدثا بحريا داخل العراق. منطقة الحدث هي (الخور) الذي يوصلنا إلى (أم قصر)

مجموعة من البحارة ينصبون الشباك لصيد السمك والمجموعة البحرية فيها من الرعيل الاول والثاني والرعيل الأخير : توفيق العطيفي .. حامد .. سعد.. السفرة تضم صبياناً في عمرأحفاد سالم الجميعي . سينصب الشباب شبكة الصيد الكبيرة

(*)

تقنية النص الروائي تتجاور مع النص المسرحي لغزارة التحاور بين الشخوص ويتوقف التحاور في ص112حين يكتشف النوخذة البديل (توفيق العطيفي) الحوت الصغير ويركز السرد هنا على محنة توفيق العطيفي من ص112 إلى ص128 ثم يعاود التحاور بينهما إلى نهاية الرواية التي يمكن أن تتحوّل نصا مسرحيا شيقاً

(*)

 موسم الهجرة إلى الزبير..(بقايا بيت العطفان)

 المسافة بين (حوت الديرة) و(بقايا بيت العطفان) كالتالي  الأولى صدرت في  2009 والثانية في 2012 البيئة والعوالم والشخوص : أقارب. كأن الروائي – طيب الله ثراه –  لديه مشروع رواية ثلاثية بطريقة غير تقليدية. أقول ذلك من خلال الكلام المدون في قفا رواية (بقايا بيت العطفان) الذي يعلن عن  مخطوطة رواية عنوانها (زبيرية )

(*)

السارد يغوينا بنزهات في درابين الزبير .. إنني الآن  وصلت لسوق الحزم العتيد وسوق الجت. ملتقى السوقين قرب البوابة الكبيرة للمسجد. قرب المسجد هناك التكية يسكنها هنودٌ وأفغانٌ وافارقة .. وهناك سحر البيوت الموصدة.. وهناك ما يوجع القلب والذاكرة : بقايا بيوت زبيرية قديمة منفردة بهندسة معمارية تقاوم الرمال.. مساجد قديمة مشيدة بمواد محلية لها مآذن متفردة.. فجأة يكون القارئ أمام مدرسة طلحة يدخلها ليتأمل مسرحها العريق

تغمرني اهازيج وأصوات الأحواش الفسيحة.. فجأة يجد نفسه بين محلتيّ الشمال والرشيدية. تغمره اغنيات الطفولة تتواشج مع الزهريات وإيقاع السامري

(*)

حامد الذي يلتهمه الحوت: شخصية لها ظلالها الموجعة في ذاكرة سالم الجميعي في رواية(حوت الديرة) وسالم الذي سقطت ذاكرته في بئر الشيخوخة, سنجده مريضا مقعدا في بيت العطفان ويعود لنا حامد بعد غياب ثلاثة عقود في امريكا ليهبط مستقرا في مسقط رأسه الزبير

(*)

تتكرر كثيرا مفردة (بقايا) في رواية( حوت الديرة)

(*)

في (حوت الديرة) يكون لكلمة (نزيز) وظيفة استعارية (الفرحة تنز من الداخل عظمة الوجود/ 96).إذا كان الماء غزيرا وله شخصية رئيسة في (حوت الديرة) فأن الماء في بيت العطفان  يتكرر كثيرا من خلال مفردة (نزيز) :

(1)(تلعن أثرياء الحصار وسماسرة الدولار الذين ظهروا كالنزيز في مستنقع أوحاله/ 167)

(2) (حين يطول الصمت تبرز الرغبات الدفينة تنز كالطفح في ركود الماء/ 224)

(3)  من معاني هذه الكلمة : خفيف الحركة. وأرضٌ نزة ٌ : أرض يسيل فيها ماء. والمتعارف عليه في حياتنا في البصرة البيوت التي فيها نزيز تكون غير صالحة للسكن. وهذا الماء النزيز يتمرد على الخفاء معلنا عن ذاته، ربما يكون النزيز هو المعادل الموضوعي لما يعانيه حامد خلف الزيد في الوصول إلى بدرية بنت التاجر الكريم عبد الله العطفان.. وبدوره السارد الحياد أعلن عن سر السرد الروائي في هذه الرواية كالتالي (يُزيح الرماد ويرفع نار السعير/ 221)

(*)

الرواية تدور في سنوات الحصار. ومن هذا المنظور فالرواية تؤرخ سرديا لتلك اللحظة التاريخية من الجحيم العراقي. للأسف تلك اللحظة في 1991 هي نفس هذه اللحظة في 2023!! (أثرياء الحصار وسماسرة الدولار ..هذا هو الكدر يهب كالإعصار../ 167) ( عادوا بجيوب متخمة بالدولارات الامريكية التي ساعدتهم على شراء أفخم البيوت بأقل الأسعار في ظلال تضخم حاد يفتك بالجميع../ 28) عندما يصبح الماضي هو الراهن فالتاريخ يعيد نفسه مرتين بصيغة تدمير المكين والمكان في البصرة التي هي قوة العراق ورفاهيته.

(*)

اشكالية حامد أنه يعيش خارج الراهن العراقي، باحثاً عن جماليات ماضيه قبل ثلاث عقود. عراقية طاحنة. هي عودة الثري إلى طفولته وهذا الثري لم يحسب لمؤثرات الزمن ومتغيرات البنية الاجتماعية (جاء ليستقر في مدينة الطفولة والصبا التي كانت هادئة متجانسة وفق معالم الحياة التي استقرت في الذاكرة طوال سنين الغربة../ 204).. وكيف يمكن لذاكرة أن لا تواصل انشطارها المستمر بين مكانين حين كان هناك كانت ذاكرته تستعيد هنا ولكن أي (هنا) ذاكرته للأسف منغلقة على لحظة نائية من حياته ِ السابقة. وحامد توقف لديه الزمن عن لحظة لا يريد أن يصدق انها أفلت!! فهو (فتح الباب الفاصل بين الدهليز وباحة حوش الديوان صُدم بمشهد أثار الحديقة المنهكة بالجفاف وكأنه يتوقع أن يجدها مزهوة بخضرتها إبان الطفولة!/ 226)

في النهاية يرى حامد الحل الوحيد هو العودة من حيث أتى. ربما هذه  هي الطريقة الوحيدة لتستعيد ذاكرته عافيتها وتنفتح على الراهن الذي كان يعيشه في الغرب.

روايات خالد علوان الشويلي

(1)مكان بين القلوب/ 1982/ الرواية الفائزة بجائزة نظمتها وزارة الثقافة

(2) حوت الديرة/ 2009/ دار الشؤون الثقافية/ بغداد/ ط1/ 2009

(3) بقايا بيت العطفان/ دار تموز/ دمشق/ ط1/ 2012

(4) مخطوطة روائية بعنوان(زبيرية)

عرض مقالات: