بدءا لابد من القول، انها حكاية منحازة جدا، ليس بدافع تعصب لأسباب ما، أيدلوجية أو كوننا ابناء عراق واحد، بل ازعم انها بدوافع جمالية موسيقية. من هنا يمكن فهم لماذا راحت زوجتي تشير الى ان كوكب حمزة سيكون مسؤولا ان حصل معي (شيئا ما)!! فلعدة ايام، ومنذ أن عثرت على رابط منشور لأغنية (حمد)، والاغنية لم تتوقف لأيام، اذ راحت تصدح وتنثر الحيوية في شقتنا الصغيرة، تدور وتدور أوتوماتيكيا :

مرينه بيكم حمد واحنا بقطار الليل

واسمعنا دك قهوة وشمينا ريحة هيل

ـ ولكن هناك اغنية قديمة، يغنيها المطرب ياس خضر، من الحان الفنان محمد جواد اموري، ولا يوجد عراقي لم يسمعها؟

ـ اعرف ذلك، بل واعرف ان قصيدة هذه الاغنية بالذات، كانت من بدايات النصوص التي لحنها الفنان كوكب حمزة وذلك عام 1968، لكن اسبابا عديدة، كانت وراء عدم تسجيل الاغنية آنذاك، بينما وجدت الحان اخرى لهذه القصيدة طريقها الى الانتشار!

ـ والان؟!

لا يخفي كوكب حمزة في أحاديثه ولقاءاته الصحفية، اعجابه بنصوص الشاعر العراقي مظفر النواب، منذ التقاه اول مرة عام 1963 في احدى المعتقلات، فكلاهما يعتنق ذات الافكار التقدمية التي تنشد بناء مجتمع لا يستغل فيه الانسان انسانا اخر. مجتمع يسوده الحب والمشاركة والعدالة الاجتماعية و(كبادرة من الوفاء نحو الشاعر الكبير)، اعاد الفنان المتجدد كوكب حمزة، تلحين قصيدة (الريل وحمد) الشهيرة، بصياغة لحنية جديدة، وقدمها بصوت جديد لمطرب واعد اسمه (علي رشيد)، يعتبره الفنان كوكب حمزة ( صوت مستقبلي) ، وحاز ثقة الشاعر مظفر النواب حين استمع اليه .

قصيدة ( الريل وحمد)، بدأ الشاعر مظفر النواب بكتابتها عام 1956 واكملها عام 1958، وحين نشرت قال عنها الشاعر المبدع سعدي يوسف إنه يضع جبين شعره على طريق (الريل وحمد)، اذ ان هذه القصيدة فتحت مسيرة جديدة في الشعر الشعبي العراقي .

القصيدة تحكي عن عاشقة مر قطارها ليلا بمحطة (ام شامات) حيث حبيبها الغامض (حمد)، فكانت تداعياتها وذكرياتها مترعة بالهيل والقهوة والفضة والاحتراق والعتب والحنين، واذ قرأت القصيدة من قبل بعض النقاد قراءة سياسية، وفي ظل الاوضاع السياسية التي يعيشها العراق، فان الناس صاروا يتداولون القصيدة باحثين في كلماتها عن اشياء يريد ان يقولها الشاعر بلغة الرمز، وصار كل قارئ يقدم للقصيدة تفسيرا انطلاقا من قناعاته السياسية والفكرية. يمكن القول ان (الريل وحمد) كقصيدة، حصلت على شهرة غير عادية، ليس في العراق فقط، بل وفي كل البلاد العربية. هكذا لم اتفاجأ يوما، في موسكو عام 1991، وفي مناسبة طلابية، رحبت بي مجموعة من الاخوة الاردنيين واللبنانيين بالاشتراك معا بقراءة مقاطع من هذه القصيدة وترديد الاغنية بلحن محمد جواد اموري.

واخيرا يأتي كوكب حمزة ليحاول ان يقدم تفسيرا لحنيا جديدا لهذه القصيدة، التي تعد من كلاسيكيات الشعر الشعبي العراقي، واجدني هنا ملزما بالقول، باني لست ناقدا موسيقيا، ولا باحثا متخصصا في الاغنية العراقية. لكني متذوق للأغنية العراقية الاصيلة، ومدمن لسماع المطرب داخل حسن وتلميذه المطرب حسين نعمة، وايضا الفنان فؤاد سالم وجيله من فناني سبعينات القرن الماضي، الذين يوصف عهدهم بانه (العصر الذهبي) للأغنية العراقية.

الفنان كوكب حمزة، مواليد عام 1944، القادم من مدينة القاسم، والدارس في قسم الموسيقى في معهد الفنون الجميلة، بغداد، والمتخرج منه بتفوق عام 1964، الذي اعتبره النقاد الفنيون واحدا من أفضل الملحّنين في الأغنية العراقية، بل أحد المجدّدين فيها، وله أسلوب تلحيني متميز، كان أحد ابرز اعمدة تلك الفترة الذهبية، التي تربت على اغانيها ذائقة ابناء جيلي من العراقيين، وهذا سبب جعلنا لا نستسيغ ما تنشره فضائيات النفط من اغاني الهز والغجر بألحانها المكررة ونصوصها الهابطة المقيتة.

كمستمع ومتابع، لطالما توقفت بأعجاب عند تجربة الفنان العراقي كوكب حمزة، الذي ملأ فضاء العراق، مع زملاء جادين مثله، باغان صارت هوية لجيلنا، الذي كان ضحية قمع نظام "قومانجي" فاشي ابتدأ بإرهاب معارضيه، ثم اشعال الحروب في المنطقة، واشدها كانت الحرب ضد ابناء الشعب العراقي بكل الوان الطيف العراقي، وبما ان المثقف العراقي كان من الاهداف الاولى لنظام البعث الديكتاتوري، فان الفنان المبدع، كوكب حمزة ، كان من اوائل من شد حقائبه، ليحمل العراق في قلبه وبين أوتاره ويرحل عام 1974. في المنفى، وامام الحصار المرير الذي مارسته المؤسسات الثقافية العربية ، ضد المثقف العراقي ، بتحريض مباشر من مؤسسات النظام الديكتاتوري في العراق، كان الفنان العراقي وخصوصا الرافض لسياسة النظام الديكتاتوري، والذي قبل بالمنفى مضطرا من اجل الحفاظ على موقفه وكرامته الانسانية، يتجرع خيباته واماله باستمرار امام صعوبة تنفيذ مشاريعه الفنية، سواء في تسجيل اغنية او طبع كتاب او اقامة معرض رسم ، كان المبدع العراقي يحفر بأصابعه المجردة جدرانا صلبة من الصخر، لم يحتمل البعض المواجهة، ولم يتمكنوا من المواصلة، فاعتكفوا وركنوا للصمت، ان لم يتركوا العمل في مجالهم الابداعي ويتوجهوا الى مجالات عمل اخرى. لم يكن كوكب من هؤلاء، كان مقلا في اعماله، ولذلك اسباب عديدة، نجد له العذر في بعضها، ولكنه بشكل عام لم يتوقف. مع زملاء فنانين، ملحنين ومطربين وشعراء اغنية، حملوا راية المواصلة والعمل من اجل الثقافة العراقية، واستمرار مسيرة الاغنية العراقية الاصيلة، وكانت له نشاطات في انشاء فرق فنية غنائية عديدة، في اماكن مختلفة من المنفى العراقي. صحيح ان هذه الفرق كان لبعضها اغراضا تعبوية ودعائية سياسية ضد النظام الديكتاتوري، وإنها لم تنجح لأسباب موضوعية في انتاج اغنية تنتشر تجاريا، الا ان كوكب حمزة وزملاءه اثبتوا بذلك موقفا مسؤولا واضحا من خراب الاغنية العراقية داخل الوطن الذي كان يتم على يد مرتزقة الفن من طبالي النظام الذين يعيشون على فتات الطاغية ويجملون له جرائمه ويرقصون على جثث ضحايا حروب النظام العبثية. حاول كوكب حمزة وزملائه، تقديم اغنية امينة لتراث الاغنية العراقية السبعينية، فكانت هناك اعمال المبدعين مثل الفنان سامي كمال، الفنان حميد البصري وفرقته، الفنان طالب غالي، الفنان فلاح صبار، واخرين.

في جبال كوردستان ، أيام الكفاح المسلح لفصائل الانصار الشيوعيين (Partisan) ضد نظام صدام حسين، في ايار 1982، التقيت الفنان كوكب حمزة لاول مرة ، كان (ابو جميلة ) النصير ، ناحلا وديعا وحالما، لا يملك من الات موسيقية ، سوى الة تركية وترية ، يسمونها (جنبش) ـ باعتقادي انها من سلالة الة العود ـ لكنها مكنته من اعداد الحان للأنصار الشيوعيين تتغنى بنضالهم وتجربتهم ، كنت انصت الى (ابو جميلة) وهو يتحدث بألم عن الخراب الذي حل بالأغنية العراقية على ايدي النظام الديكتاتوري ومزيفي الفن العراقي، وكيف ان ملحنين معروفين سبق وقدموا اعمالا غنائية ساهمت في رسم روحية ذائقة الشعب العراقي، اضطروا لان يلبسوا الحانهم الخاكي ويزعقون ـ مضطرين او عن أيمان وحماس ـ مع مرتزقة، من شعراء وملحنين ومطربين ، بالمشي للحرب المجنونة التي احرقت الاخضر واليابس. بعد سنوات كردستان، كان البعض يعتقد ان قسوة ظروف المنفى، وعدم الاستقرار، تدفع بمبدع (يا طيور الطايرة) و(القنطرة بعيدة) و(محطات) و(بنادم) و(يا نجمة) و(حاصودة)و(نحبكم) و(همه ثلاثة للمدارس يروحون) وغيرهما الكثير من الالحان الخالدة، الى النضوب والجفاف، لكن ظن هذا الصنف من الآراء خاب مع ظهور الحان جديدة للمبدع كوكب حمزة، رسمت بصمتها في مسيرة هذا الفنان الاصيل، فكانت مثلا أغنية (بساتين البنفسج)، بالتعاون مع الشاعر المبدع رياض النعماني، ومجموعة اخرى من الاغاني.

الفنان الملحن كوكب حمزة، كان مكتشفا للعديد من الاصوات الغنائية المتميزة، وصقل تجربتها بألحانه، وساهم في صعودها وصناعة مجدها، هو من قدم للعراقيين والعالم العربي، اصوات صارت نجوما لامعة مثل حسين نعمة، سعدون جابر ورياض أحمد ومثله لا يكف عن البحث عن الاصوات الجديدة، ولا يتوقف عن الابداع، لان الموسيقى العراقية الاصيلة تسري في روحه مثلما مبادئه في الحياة في العمل لبناء حياة جديدة وأفضل للإنسان المعذب.

هكذا جاءت اغنية (حمد)، التي ادخلتني شخصيا في حالة من هوس الاعجاب، الاغنية تؤدى من قبل صوت عراقي شجي، المختصون قالوا عنه (أنه صوت بحاجة للمزيد من التدريب)، لكنه عندي اكتشاف جديد لكوكب حمزة صاحب التحديات!

ـ وهل نحن في حالة حرب؟!

الامر ليس بهذا المعنى الحرف، لكنه بكل حال شيء من الصراع، صراع من اجل الأفضل. الاغنية الجديدة التي قدمها كوكب، هي مقاطع مختارة من قصيدة (الريل وحمد)، التي يحفظها العراقيون اذ صارت واحدة من محفوظات الشعب العراقي.

ـ وأين التحدي هنا في لحن كوكب حمزة هذا؟

لست متخصصا في المجال الموسيقي، لذا أعلن باني لا اعرف لاي مقام ينتمي لحن (الريل وحمد) بأنامل الملحن العراقي الاصيل محمد جواد اموري. لكنه بالنسبة لي لحن هاديء، حزين  تحس فيه ان الملحن استعار شيئا من ايقاعات الليل الحزينة ليقدم لحنا عراقيا حفر لنفسه مكانة خاصة في ذائقة العراقيين، فلا يوجد عراقي، لم يردد هذا اللحن في ساعاته حزنه او شوقه لأهل او حبيب وصديق، هو لحن عشق يصلح لكل الطقوس، في السفرات المدرسية ردده الطلبة العراقيون، في زنزانات السجون وفي ليال المنافي الثقيلة، وهو لحن محمل بإيقاعات حزينة تظهر واضحة على حنجرة المطرب ياس خضر الذي تشبع صوته بالحان المجالس الحسينية التي عرف بممارستها في مطلع حياته قبل احترافه الغناء، وهكذا أذ اتخيل صورة المرأة التي تقدمها لي اغنية (الريل وحمد) بصوت ياس خضر والحان محمد جواد اموري، فاني ارى امرأة عاشقة، مكسورة القلب، ضعيفة، دموعها تسيح بصمت، ومتلفعة بثيابها الداكنة اللون، وهي ترنو بانكسار الى (أم شامات)، من نافذة القطار وتعاتب الحبيب الغادر عتابا مترعا بالفقدان !

ـ اين كوكب حمزة من هذا؟

ازعم بأن كوكب فنان ليس مجددا فقط، بل وجريء في اقتحام المحظور في الذاكرة العراقية. هذا ما دفعني لتوزيع رابط اغنية (حمد)، ما أن عثرت عليها، على الكثير من اصدقائي ومعارفي، طالبا وجهات نظرهم. وعبر البريد الاليكتروني والهاتف وصلتني العديد من الردود. الى جانب الاعجاب سمعت تلك الآراء التي لا تزال متعلقة باللحن الاول، لحن محمد جواد اموري، الذي تشربوا به واعتادوا عليه. أحدهم كان غاضبا لهذا الايقاع الراقص الصاخب الذي يقدمه لحن كوكب حمزة الجديد، ويرى انه يبتعد عن إيقاع رؤى القصيدة ويتنافر معها، ويعتقد ان الاغنية بهذا تفقد روحها العراقية!! اعيد القول بأني غير متخصص موسيقيا، وهكذا لا اعرف لاي مقام ينتمي لحن كوكب حمزة الجديد، لكن ما يحسب لكوكب حمزة في هذا اللحن، ان اراه يتحدى كل هذا الارث الموسيقي العراقي الذي تشبع بإيقاعات الطقوس الحسينية، التي لم ينج منها كوكب حمزة نفسه في بعض الحانة الشهيرة. فمثلا اغنية (ابنادم) الشهيرة، التي قيل انه لحنها في شهر محرم، فجاءت مشبعة بإيقاعات الطقوس الحسينية، ورغم ان لحنه الجديد لقصيدة (الريل وحمد) نجد أن الطبول تسود ايقاعاته، ونسمع انين النايات التي يعشقها كوكب حمزة، الا ان لحنه يكشف روح التحدي الكامن الذي تحمله لغة قصيدة (الريل وحمد)، والذي غاب عن اللحن الاول، واذ اود رسم صورة للمرأة التي يمر قطارها بمحطة (أم شامات)، والتي يقدمها لنا كوكب حمزة، فأني ارى امرأة اخرى مختلفة . ارى أمرأه عاشقة قوية، حزينة بشكل نبيل، تجلس الى جانب الشباك والهواء يمر عبر خصلات شعرها، مرفوعة الرأس، تعاتب بمرارة وتداري احتراقها، وتنطق كلماتها واسم (حمد) بروح تحد ومواجهة، تغني وعيونها ترنو الى المستقبل مترعة بالأمل وهي ماضية في طريقها مع القطار الذي لن يتوقف!

 

عرض مقالات: